الإمام أبو حنيفة بين أهل الفقه وأهل الحديث
:15:
الإمام أبو حنيفة بين أهل الفقه وأهل الحديث
فضيلة الشيخ/ سعد بن عبد الله السعدان
الناظر في سير علماء الملة وأئمة الإسلام يخرج بكمٍّ هائل من الفوائد واللطائف، ويزداد معرفة وعلمًا، فَهُم مدارس بأنفسهم، وحياتهم تكتب بمداد من ذهب، دأبٌ عجيب في الطلب، وبذلٌ في التعليم والتصنيف والعطاء، وهمةٌ لا تنقطع، وصفات وأخلاق وتواضع يعجز المرءُ عن بيانها ووصفها؛ ولذا كانت كتابة السير والتراجم للأئمة الأخيار من ألطف وأنفع ما دُوِّن وكُتِب، وفي هذه الوقفة نستعرض علمًا من أعلام الأمة وفقهاء الملة وهو الإمام أبو حنيفة النعمان يرحمه الله، وبالله التوفيق.
اسمه ونسبه:
هو النعمان بن ثابت بن زُوطى -بضم الزاي وفتح الطاء- التيمي الكوفي أبو حنيفة.
وقد أجمعت كتب التراجم على ذلك، ولم تختلف إلا ما رواه الصيمري عن إسماعيل بن حماد حيث قال: أنا إسماعيل بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان(1). وقد نقلها أصحاب التراجم عنه، كالخطيب في تاريخ بغداد(2)، والذهبي في السير(3)، وغيرهما.
قال ابن حجر الهيتمي: اختلفوا فيه، فقال أكثرهم وصححه المحققون أنه من العجم، وعليه ما أخرج الخطيب عن عمر بن حماد ولده أنه ابن ثابت بن زُوطى أي بضم الزاي كموسى، وبفتحها كسلمى، ابن ماه، من أهل كابل، ملكه بنو تيم الله بن ثعلبة فأسلم فأعتقوه وَوُلد ثابت على الإسلام(4)، وقد ورد تسمية جد أبي حنيفة بزوطى كما مر، وعليه أكثر مَن ترجم له والمرزبان في رواية، والنعمان في أخرى.
وقال إسماعيل باشا: نعمان بن ثابت ابن كاوس بن هرمز مرزبان بن مهرام(5)، ويُنسب أبا الخزاز وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان يبيع الخز، ويأكل منه طلبًا للحلال، ونسبته إلى التيمي؛ لأن جده كما قيل: أُسِر عند فتح العرب لبلاد فارس، واسترق لبعض بني تميم بن ثعلبة، ثم أعتق، فكان ولاؤه لهذه القبيلة، وكان هو تيميًّا بهذا الولاء، أما نسبته بالكوفي فلأنه موطنه الذي ولد وعاش فيه.
ولادته:
ولد الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - سنة ثمانين من الهجرة، وكان مولده في الكوفة، في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: إنه ولد سنة 63هـ، وقيل: سنة 70هـ، والذي رجحه العلماء هو القول الأول، أي: أنه ولد سنة 80هـ، وهذا الذي ذكره ابن زبر الربعي(6).
نشأته وطلبه للعلم:
نشأ بالكوفة مكان ولادته وذلك في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد أبويه، وكان والده خزازًا يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، وأخذ أبو حنيفة من والده هذه المهنة وخَلَفه بعد وفاته، وكان يتكسب منها، وكان مضرب المثل في الأمانة والصدق.
وقد وُفِّق لحفظ القرآن في صغره، شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح مع اشتغاله ببيع الخزِّ مع والده، ويبدو أيضًا أنه لم يلتحق بسماع دروس العلماء وحضور حلقاتهم، ولم يطلب العلم في مجالسهم إلى أن وافق لقاء بينه وبين الشعبي، وكان ذلك فاتحة خير عظيم في حياة أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: مررت يومًا على الشعبي وهو جالس فدعاني، وقال: إلى مَن تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسمَّيت له أستاذي. فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عَنَيت الاختلاف إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم، فقال لي: لا تفعل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم، فنفعني الله بقوله(7).
وقد اجتهد في الطلب، ويبدو أن أول ما اتجه إليه علم النحو(8)، ثم علم الكلام، ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، حتى بلغ فيه مبلغًا يشار إليه بالأصابع، ودخل البصرة أكثر من سبع عشرة مرة يناقش ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة، ويدفع عنها ما يريد أهل الضلال الإلصاق بها، وقد ناقش جهم بن صفوان حتى ألجمه وأسكته، وجادل الملاحدة، وناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة، بل جادل غلاة الشيعة وأخرسهم.
ثم اتجه أبو حنيفة لعلم الفقه، ولزم حلقة شيخه حماد بن أبي سليمان شيخ فقهاء الكوفة، وانصرف للفقه بكلِّيَّته، وأكب على التفقه، وكانت ملازمته لشيخه التي بلغت ثماني عشرة سنة قد أكسبته فقهًا جمًّا، وما زال يداوم على حضور حلقة شيخه حتى بزَّ أقرانه وتجاوز أمثاله وسابقيه، وكان أدبه مع شيخه موضع العجب، فلقد كان يقصده في بيته وينتظره عند الباب حتى يخرج لصلاته وحاجته، فيسأله ويصحبه، وبلغ به الأمر أنه كان إذا جلس في بيته لا يمد رجليه جهة بيت شيخه حماد، وكان إذا صلى دعا لشيخه حماد مع والديه.
واستمر على هذه الحال من الصحبة والملازمة حتى توفي حماد، فاتفق رأي تلامذته على استخلاف أبي حنيفة النعمان مكان شيخه، فكان خير خلف لخير سلف، وانتهت إليه رئاسة مدرسة الكوفة التي عرفت بمدرسة الرأي، وأصبح إمام فقهاء العراق غير منازع، وسارت بذكره الركبان، واشتُهِر في الآفاق، وقد اجتمع بعلماء عصره بالبصرة ومكة والمدينة، ثم ببغداد لما بناها المنصور، واستفاد منهم واستفادوا منه، وما زالت شهرته تتسع حتى غدت حلقته مجمعًا علميًّا يجتمع فيه من كبار المحدثين كعبد الله بن المبارك وحفص بن غياث وغيرهما، مع كبار الفقهاء كأبي يوسف ومحمد وزُفر، مع كبار الزهاد كالفضيل بن عياض وداود الطائي وغيرهم.
سبب طلبه للفقه:
طلب أبو حنيفة الحديث وأكثر منه في سنة مئة وما بعدها كما قال الذهبي(9).
قلت: ورواياته - كما سيأتي - قليلة مع أن الذهبي يقول بأنه أكثر من الرواية! ولكن النسائي - وهو المتقدم - وصفه - كما سيأتي - بقلة الرواية، ولعل مراد النسائي من قلة الرواية مقارنة بأقرانه كالثوري وشعبة والأوزاعي ومالك، ويتوجه كلام الذهبي أن أبا حنيفة أكثر من الرواية من جهة أنه حصَّل حديثًا كثيرًا إلا أنه لم يحدث إلا بما يحفظ كما قال يحيى بن معين، ثم اتجه بكليته للفقه حتى برز وأصبح المقدم فيه، وتُروى بعض الحكايات في سبب انقطاعه للفقه؛ فعن زفر بن الهذيل قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يُشَار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسُّنَّة، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول، فأمرتها أن تسأل حمادًا، ثم ترجع تخبرني. فسألته، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج، فرجعت فأخبرتني فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي؛ فخرجت يومًا بالعشي وعزمي أن أفعل، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله، فجاءه تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة وترك مالاً، وليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أُجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوًا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين، وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت.
قال الحافظ الذهبي متعقبًا هذه الحكاية: وهذه أيضًا الله أعلم بصحتها، وما علمنا أن الكلام في ذلك الوقت كان له وجود، والله أعلم(10).
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: حدثني أبي قال: قال أبو حنيفة: قدمت البصرة فظننت أني لا أُسألُ عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حمادًا حتى يموت؛ فصحبته ثماني عشرة سنة(11).
ثناء العلماء على فقهه وعلمه:
قال علي بن عاصم: لو وُزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح بهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل. وقال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيًّا لجالسه. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشافعي: الناس في الفقه عِيَالٌ على أبي حنيفة. وقال الذهبي: الإمام فقيه الملة، عالم العراق، وقال: عُني بالآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى والناس عليه عِيَال في ذلك(12).
شيوخه وتلامذته:
أدرك أبو حنيفة بعض الصحابة في صغره، لكنه لم يجد في حال نشأته من يرشده لطلب العلم والأخذ عمن يمكنه السماع ممن أدرك منهم، فاشتغل بالبيع والشراء، وتعاطى التجارة، إلى أن أرشده الإمام الشعبي لطلب العلم - كما تقدم - فَجدَّ في الطلب، وأدرك علمًا جمًّا وعلماء كُثُر، ونجد في "تهذيب الكمال" و"سير أعلام النبلاء" طائفة من شيوخه بلغ عددهم خمسين شيخًا، ومن أبرزهم: شيخه الذي لازمه حتى استفاد منه علم الفقه حماد بن أبي سليمان، وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، وعبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، وعكرمة، ونافع، وعدي ابن ثابت، وعمرو بن دينار، وسلمة بن كهيل، وقتادة بن دعامة، ومنصور بن المعتمر، وعدد كثير من التابعين(13).
أما تلاميذه فهم كثيرون من محدثين وفقهاء، منهم زُفَر بن الهذيل، وأبو يوسف القاضي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، ونوح بن أبي مريم، والحسن بن زياد اللؤلؤي، ومحمد بن الحسن، وأسد بن القاضي، وغيرهم. وممن أخذ عنه من أقرانه، مغيرة بن مقسم، وزكريا بن أبي زائدة، ومِسْعَر بن كِدَام، وسفيان الثوري، ومالك بن مغول، ويونس بن أبي إسحاق.
وممن بعدهم: زائدة، وشَريك، والحسن بن صالح، وأبو بكر بن عياش، وعيسى بن يونس، وعلي بن مسهر، وحفص بن غِيَاث، وجرير بن عبد الحميد الضَّبِّي، وابن المبارك، ووكيع، وأبو إسحاق الفزاري، ويزيد بن هارون وغيرهم، وهذا يدل على مكانة أبي حنيفة العلمية وتبحره وسعة علمه.