تفسير لآيات من سورة الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير الآيات
73-75 من سورة [الزُمَر]
[وسيقَ
الَذِينَ اتَقَوا رَبَهُمْ إلى الجَنَةِ زُمَرَاً حَتَى إِذا جَاؤهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلوهَا خَالِدينَ * وَقالوا الحَمْدُ لِلهِ الَذي صَدَقَنا
وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنا الأَرْضَ نَتَبَوَأُ مِنَ الجَنَةِ حَيْثُ نَشاءُ
فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ * وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِينَ مِنْ حَوْلِ
العَرْشِ يُسَبِحونَ بِحَمْدِ رَبِهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِ
وَقِيلَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِ العَالَمينَ]
(الزُمَر
– 73-75)
هؤلاء
المتَّقون الذين عرفوا الله في الدنيا، فاتقوا أن يعصوه، اتقوا غضبه، اتقوا
الشرك بالتوحيد، اتقوا الكفر بالإيمان، اتقوا المعصية بالطاعة، اتقوا غضب
الله برضوانه.لن تتقي الله إلا إذا عرفته فإذا عرفته تتقي أن تعصيه عندئذٍ
تكافأ في الدنيا والآخرة. هناك دعاة إلى الله هناك محسنون ، وهناك من أنفق
ماله ، هناك من عبد الله ، هناك من عمل الصالحات. أبواب العمل الصالح كثيرة
جداً: المزكُّون ، الحجاج ، الصائمون ، التائبون، العابدون ، السائحون
الراكعون ، الساجدون ، طلاَّب العلم ، حُفَّاظ القرآن ، الدعاة إلى الله ،
العلماء المُجاهدون ، هذه أبواب الخيرات زمراً .لكل هؤلاء الصالحينتفتح
أبواب الجنةمن قبل أن يأتوها إكراماً لهم ويقال لهم "سلام عليكم" أيأنتم في
سلام ، أنتم في سلامٍ أبدي لم يعد هناك مشاكل كتلك التي عرفتموها في
حياتكم الدنيا. الحياة كلها مشكلات، عندما يكبر الإنسان يعيش في قلق
متسائلاً يا ترى هل معي ضعف؟ نقص بالتروية ؟ تضيق بالشريان التاجي ؟ هبوط
بأداء الكليتين ؟ تصلب شرايين ؟ تشمع بالكبد ؟ ألف خطر وخطر. ولكن في الجنة
انتهت كل المشكلات... سلام أبدي.كنتم في الدنيا طيبين: طابت نفوسكم بطاعة
الله ، طابت نفوسكم بمعرفة الله ، وطابت بأعمالكم الصالحة ، لأن نفوسكم
طابت أنتم أهلٌ للجنة . قال بعضهم : طبتم بمعرفة الله . وقال بعضهم : بطاعة
الله . وقال بعضهم : بعملكم الصالح . على كلٍ حال هذه المعاني كلها
محتملة. لا يوجد قلق إطلاقاً ، لا يوجد إنسان في الدنيا إلا وهو يقلق ، إن
كان بمنصب رفيع يبذل جهده للحفاظ على منصبه ، ويحسب ألف حساب لخصومه ،
وحُسَّاده ، والوشاة ، والمنافسين له ، وإن كان ببيت فخم يخاف من نزع
الملكية ، وإن كان يملك مصنعاً فهو قلق من مصنع آخر منافس فيخف البيع.
دائماً في قلق ، إن كنا ببحبوحة في قلق ، إن كنا بصحة في قلق، هذا القلق
يلازم الدنيا لكي لا يتعلق الإنسان بها. أما هناك في الآخرة فإلى أبد
الآبدين. فهذه الجنة الأبدية أنزهد بها من أجل سنواتٍ في الدنيا معدودة ؟
فعوامل السعادة في الدنيا للإنسان هي الوقت ، والمال والصحة . فالإنسان
بأول حياته عنده وقت وعنده صحة ولكن لا يوجد عنده مال ، يأتي بفترة عنده
مال وصحة ولكن لا يوجد وقت، تأتي فترة ثالثة عنده وقت ومال ولكن لا توجد
صحة . بالضبط ثلاثة مراحل: أول مرحلة الصحة متوافرة ، والوقت متوافر ولكن
لا يوجد مال ، فهذا الشاب ليس معه شيء ، يأتي وقت يعمل ليل نهار. المرحلة
الثانية: الصحة موجودة ، والمال موجود ولكن لا يوجد وقت، لا يقدر أن يغيب
عن محلَّه ولا ساعة. المرحلة الثالثة بعد أن جمع ثروة طائلة وسلَّم أولاده
أمور عمله وتقاعد، صار في عنده وقت ، ومعه مال ولكن أصبح في جسمه عشرين
علة. هذه الدنيا. قد أتصور أنه لا توجد ذرة بجسم المؤمن يوم القيامة إلا
ويحمد الله بها ، المؤمن بالدنيا يحمد الله على أنه عرف الله. سيدنا عمر بن
الخطاب كان إذا أصابته مصيبةٌ قال : " الحمد لله ثلاثاً؛ الحمد لله إذ لم
تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ ألهمت الصبر
عليها" . ما دام ديننا سليم لا نعصي الله ، مستقيمون على أمره فنحن ملوك
الأرض. أما يوم القيامة فإننا سنرى النعيم الأبدي لأننا في الدنيا عرفنا
الله . قال عز وجل:
إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلا مِنْ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ(19)
[سورة الذاريات]
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا
مُشْفِقِينَ(26)فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا
عَذَابَالسَّمُومِ(27)إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ
الْبَرُّ الرَّحِيمُ(28)
[سورة الطور]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسَابِيه(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة(21)فِي جَنَّةٍ
عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)
[سورة
الحاقة]
هذا كلام
خالق الكون ، فهو يقول لنا : هنالك جنة ونار وعذاب وبرزخ وقبر وصراط مستقيم
وحوض وهناك صحف تنشر. أفلا نأخذ كلامه مأخذ الجد؟ عجيب أمر الإنسان، ألا
نأخذ كلام خالق الكون مأخذ الجد ونحسب له ألف ألف حساب؟ إذا أصدرت الحكومة
قراراً من خمس كلمات فارتفعت بعده أسعار السيَّارات معنى ذلك أن الناس
صدقوا هذا الكلام. أنت تصدق إنساناً إذا أعطاك تصريح من خمسة كلمات ،
فترتفع الأسعار وتنزل الأسعار بتصريح ينشر، وخالق الكون في كتابه الكريم
المُعجز يقول لك : هناك جنة ، وهناك نار ، وحساب ، وعذاب ، وسؤال، ووعد،
ووعيد . الله قال هناك جنة. أفلا نسمع ونصدق ونؤمن؟؟؟
فهذه
هي الجنة إذاً، ولحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل فإن المؤمنون يَرِدُون النار
ولا يدخلونها ، ورود النار يعني أن أصحاب الجنة يرون أهل النار وشدة
عذابهم لكي تزيد سعادتهم في الجنة. نحن في الدنيا عرفنا الله ، كان هناك
شمس وقمر ونجوم، وليل ونهار، وكسوف وخسوف، ومطر ورياح، ونباتات، وحيوانات
وأسماك، وأطيار، وخلق الإنسان ، هذا كلَّه فكَّرنا في. ثم جاءنا قرآن
قرأناه ، وحفظناه ، وفهمناه ، وحضرنا مجالس العلم . وكان لنا أزواج، وربينا
أولادنا، وعلمناهم القرآن، وحفظناهم القرآن، ودائماً أمرنا بالمعروف
ونهينا عن المنكر ودعونا إلى الخير. لذا كان جزاؤنا (بإذن الله) هذا النعيم
المقيم لأننا في الدنيا تعرفنا إلى الله، وفي الدنيا أطعنا الله، وفي
الدنيا تقرَّبنا إلى الله، وفي الدنيا بذلنا الغالي والرخيص والنفس
والنفيس، وفي الدنيا وضعنا أنفسنا تحت أقدامنا إرضاءاً لله عزَّ وجل، وفي
الدنيا آثرنا طاعة الله على حظوظ أنفسنا، وفي الدنيا كظمنا غَيْظنا، وفي
الدنيا أنفقنا مالنا.
ونظام الجنة نظام آخر غير
الدني. للمتقين فيها ما يشاءون، كلما خطر في بالهم شيء يروه أمامهم، هذا
نظام الجنة، دار إكرام، أما الدنيا فدار كدح. قال تعالى:
يَاأَيُّهَا
الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)
[سورة
الإنسان]
واحدنا لا
يشتري بيتاً (غرفة واحدة ومنافعها في مكان بعيد عن المدينة) إلا بشق الأنفس
وبعد جهد جهيد ، ويكافح طويلاً إلى أن يتزوج ويصل لمنصب ويحقق دخلاً
ثابتاً. هكذا الحياة، مبنية على الكدح، مبنية على بذل الجهد، مبنية على
تحمُّل المشقة؛ أما الآخرة فمبنية على الإكرام، للذين اتقوا ربهم ما
يشاءون. أي أن هذا النعيم المقيم ثمنه كان في الأرض معرفةً بالله وطاعةً له
وإقبالاً عليه، الآن الجنة مبنية على عطاء بلا كَدْح، بلا سعي، بلا جُهد
وأساسها العمل وليس الكلام، العمل الصالح بمختلف أشكاله. الذين عملوا
الصالحات في الدنيا يستحقون هذا النعيم المقيم في الآخرة . والملائكة أيضاً
حول العرش امتلأت قلوبهم حباً لله عزَّ وجل وتعظيماً له وتسبيحاً له بين
الخلق كلهم . ملخَّص مشاعر الخلق جميعاً يوم القيامة الحمد لله رب العالمين
لأن كل شيءٍ وقع أراده الله ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة،
وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، فكل ما فعله الله محض خير ولو بدا
لنا في ظاهره أنه شر. وهذا معنى قوله تعالى :
قُلْ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)
[سورة آل عمران]