عضل النساء عن نكاح الأكفاء
عضل النساء عن نكاح الأكفاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ
يقول رب العزة جل وعلا وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ البقرة
فقوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ والعَضْل الحبس والتضييق، ومنه عضَلَتْ الدجاجة؛ إذا نشب بيضها فيها فلم يخرج
وهذه الآية نهت الأولياء أولياء المرأة أن يعضلوها، أي يمنعوها حق الزواج إذا خطبها الكفء، ورضيت به المرأة
فكثير من الآباء والأولياء سامحهم الله يتعامل مع المرأة معاملة عنيفة، ويمارس سلطته عليها بنوع من الإجحاف والظلم والتعسف، غير عابئ ولا مهتم بأمر الله تعالى ورسوله بتقوى الله في النساء الضعيفات، وقد أمر الشرع بالإحسان إليهن، وتزويجهن، ومراعاة حاجاتهن وضعفهن العضل ظلم ومشقة
وفي عضل المرأة عن نكاح الكفء إذا حان موعد زواجها ظلمٌ لها وقهر، كما أن في ذلك تعريضًا لها للفتنة والانحراف، فعلى كل من ولي أمر امرأة ألا يشق عليها بما يعرّضها للحرج في دينها وكرامتها؛ حتى لا يتعرض لعقاب الله تعالى ووعيده، وتصيبه دعوة الرسول فتضيع دنياه وآخرته فيهلك قال «اللهم مَن وليَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم؛ فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم؛ فاشقق عليه» مسلم
فليحذر العاضل من الظلم، فإن الله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يُصلح عمل المفسدين، ولا يحب الفساد، فعضل المرأة عمل من أعمال الجاهلية، التي كانت تحتقر المرأة وتصادر حقوقها، فالعاضل ظالم، وصاحب قسوة في القلب، منزوع الرحمة، فظّ غليظ القلب العضل في القرآن والسنة
سبق ذكر الآية التي فيها قول الله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُن قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن؛ يعني الرجل تكون له المرأة وهو كارهٍ لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضربها لتفتدي تفسير ابن أبي حاتم
وقال آخرون إن الذين نُهُوا عن العضل هم أولياء الميت الذين يرثون زوجته، ويمنعونها من الزواج حتى تموت فيرثونها
وبشأن الآية الأولى آية البقرة فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عن الجميع نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها الطبري
وقد رُوي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته، فقد روى البخاري رحمه الله في كتابه «الصحيح» عند تفسير هذه الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها، فأبى معقل، فنزلت فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فتح الباري
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم، من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار أنه زوَّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطَّاب، فقال له يا لكع؛ أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها؟ والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إلى قوله وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون ، فلما سمعها معقل قال سمعًا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال «أُزوِّجك وأكرمك» الترمذي وصححه الألباني زاد ابن مردويه وكفَّرتُ عن يميني البيهقي
وقوله ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر ويتعظ به وينفعل له مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أيها الناس يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أي يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء، ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَر أي اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم، وَاللَّهُ يَعْلَم أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي الخير فيما تأتون ولا فيما تذرون انتهى من تهذيب ابن كثير أنواع العضل في حق النساء
النوع الأول كما أسلفنا وهو منع المرأة من الرجوع إلى زوجها الذي طلقها، وهذا الذي نهى عنه القرآن كما جاء في سورة البقرة الآية
النوع الثاني عضل المرأة ومنعها من الزواج ابتداءً؛ للاستفادة منها في الخدمة المنزلية، أو للاستفادة من مالها وراتبها الذي تتقاضاه شهريًّا، فيعتبرها وليها أنها كالبقرة الحلوب، إذا انتقلت إلى غيره انقطع عنه الحليب والدَّرّ، وبقي له الفقر والشر وهذا الذي يفعل ذلك يحمل وزرًا عظيمًا، فليتق الله
عضل البنت عن الزواج من الكفء إذا كان من خارج قبيلتها، ولو طالت عنوستها، ولو كان في ذلك فتنتها، وهذا فيه من الجاهلية والعصبية البغيضة الممقوتة التي أمر الإسلام بهدمها، ومثل هذا الرجل ظالم، وظلمه سيسوّد وجهه إن لم يُصلح
عضل المرأة عن الزواج مرة أخرى بعد طلاقها أو وفاة زوجها، خاصةً إذا كان معها أولاد، ونسمع في ذلك كلامًا جاهليًّا غبيًّا أحمق، فالبعض يقول لمثل هذه المرأة أنت معك معاش زوجك كاملاً، وتسكنين في بيت مِلْك، وليس إيجارًا، فماذا ستصنعين بالرجل الزوج ، ولم يعلم أمثال هؤلاء الحمقى أن الله تعالى قال عن الأزواج خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً الروم ، وقال هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ البقرة ، فهؤلاء جعلوا الزواج أكلاً وشربًا وشقة سكنية
عضل المرأة عن المشورة في الزواج، أو عن تزويجها بمرغوب عندها، فيكرهها وليها على الزواج بمن لا تحب، طمعًا في عَرَض من أعراض الدنيا، وهذا أيضًا من الظلم البيِّن والفظاظة والغلظة
عضل الزوجة بالتضييق عليها لتطلب الطلاق، وتتنازل عن حقوقها على أنها هي الكارهة والمختلعة، لكنها في الحقيقة تفر من جحيم زوجها، وهذا النوع من العضل هو الذي نهى الله تعالى عنه كما جاء في سورة النساء وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُن النساء
وكل صورة من هذه الصور تحمل الكثير من الظلم والهضم لحقوق النساء، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه بظلمه لغيره، والله محاسبه على ما يفعل، قال الله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون البقرة موقف خيار المسلمين من العضل
قال اللهُ تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا الأحزاب
قال السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره أي لا ينبغي ولا يليق بمن اتصف بالإيمان إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، وامتثال أمرهما، والهرب من سخط الله ورسوله، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا من الأمور، وحتَّما به، وألزما به أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي الخيار هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر الله ورسوله انتهى ص
وخيار المسلمين لا يملك الواحد منهم أن يتوقف عن أمر الله ورسوله لحظة وفي أقل القليل
فهذا معقل بن يسار كما تقدم يمنع أخته من العودة لمطلّقها مرة أخرى، فلما نزل قوله الله تعالى فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ قال سمعًا لربي وطاعة، أزوّجك وأكرمك وما كان ذلك منه إلا إيمانًا وتسليمًا، وسمعًا وطاعة لله تبارك وتعالى؛ فقد قال الله سبحانه إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ النور
رفض النبي إكراه المرأة على الزواج من أحد لا ترغبه، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ جَارِيَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا، وَأَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ رَجُلاً آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَعَهَا مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا، وَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ بالَّذِيِ أَرَادَتْ الطبراني في الكبير ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح
وعن عبد الرحمن بن يزيد ومجمع بن يزيد الأنصارييْن رضي الله عنهما أن رجلاً منهم يُدعى خدامًا، أنكح ابنة له، فكرهت نكاح أبيها، فأتت رسول الله فذكرت له، فرد عليها نكاح أبيها، فنكحت أبا لبابة ابن عبد المنذر ابن ماجه وصححه الألباني
وفي قصة أخرى أراد رجل أن يزوج ابنة أخيه على رغبته هو، دون رغبتها هي وأمها، فقالت أمها واللهِ لا يكون هذا حتى يقضي به علينا رسول الله ، أتحبس أيم بني عدي على ابن أخيك، سفيه أو ضعيف؟ ثم خرجت حتى أتت النبي فأخبرته الخبر؛ فدعاه فقال له «صل رحمك، وأرضِ أيمك وأمها، فإن لهما من أمرهما نصيبًا» البيهقي في معرفة السنن والآثار ، وانظر الإصابة موقف البنت إذا عضلها الولي
من المواقف السابقة يظهر أن للنساء حقًّا لا ينبغي للرجال الاعتداء عليه، وأن أي امرأة رأت من وليها إكراهًا لها أو عضلاً عن حقها واختيارها؛ فلها أن ترفع أمرها إلى سلطان المسلمين أو قاضيهم
وللسلطان والقاضي تغيير هذا المنكر، وإجبار الولي على الانصياع لأداء حق المرأة، بل إذا أصر الولي فللسلطان والقاضي نزع ولاية الولي عن هذه المظلومة، وإقرار حقها الذي أقره الشرع الشريف لها
وليعلم كل ولي أنه راعٍ على نسائه وبناته، وهو مسئول عن رعيته، فليُعِدّ للسؤال أمام الله عز وجل جوابًا، وليتق الله الذي هو أهل التقوى وأهل المغفرة
والحمد لله رب العالمين
منقول