|
|
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #1موضوع: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:10 pm | |
| آبو بكر الصديق
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ثم أمـا بعد:
فإنا قد ذكرنا من قبل ذلك الكثير عن أهمية دراسة التاريخ، وأشرنا في مؤلفات متعددة إلى أنه لا جديد على الأرض، التاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة.
نفس الأحداث نراها رأي العين، باختلاف في الأسماء والأمكنة، فدارس التاريخ بعمق كأنه يرى المستقبل، ويقرأ ما يَجِدّ على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.
دارس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه؟ وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته؟
دارس التاريخ بعمق كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا؟ وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض يكفينا الأمر الإلهي الحكيم:
[فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الأعراف:176} .
فقص القصة، أو رواية الرواية لا يغني شيئا إن لم يتبع بتفكر.
دراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية.
دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وسنجد أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة، وأمور من الفقه، وأمور من الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.
نعرض لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، نعرض لفقه الواقع، أو إن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين.
هكذا كان الله في كتابه الحكيم يقص القصة، فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرا عقائديا، وقد يعرض فيها حكمـًا فقهيًا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حيٌّ ينبض، ولسانٌ ينطق.
أبدًا هو لا يحدثنا عن رجال ماتوا، ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة.
وإنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
التاريخ ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، تحتاج إلى عقول، وقلوب، وجوارح، تحتاج إليكم جميعا يا من ترجون للإسلام قيامًا.
والتاريخ الإسلامي هو - ولا شك في ذلك - أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة, أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرةٍ بالمعروف ناهيةٍ عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فقهوا دينهم، ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة الصعبة العجيبة: عـزٌ في الدنيا، وعز في الآخرة، مجد في الدنيا، ومجد في الآخرة، ملك في الدنيا، وملك في الآخرة.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية, جمعت الأخلاق، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والمعمار، والقضاء، والترفية، والقوة، والإعداد، والذكاء، والتدبير.
جمعت كل ذلك جنبا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية.
وصدق الله تعالى إذ يقول:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}.
هذا هو التاريخ في أصله وجوهره.
ولا يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوبا بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام.
فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا خطأ فيه، ولا عيب فيه، دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر، وأخفى، سبحانه الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين، فوباله على نفسه، وليس على الإسلام.
وكثيرا ما يخالف الناس، فتحدث هزات وسقطات، لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.
ثم وقفة وسؤال:
هذه الثروة وهذا الكنز العظيم، ثروة التاريخ الإسلامي الطويل، مَن مِن البشر في زماننا أمَّنّاه عليها؟
مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية؛ لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟
مَن مِن البشر أسلمناه أذننا، وعقولنا، وأفئدتنا؛ ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟
عجبا لأمتنا!!
لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار، طائفة من المستشرقين، وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين تسلموا كنز التاريخ؛ لينهبوا أجمل ما فيه وليغيروا ويبدلوا ويزوروا، فيخرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا، فتقطع حلقة المجد، وينفصل المسلمين في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد تماما بتمام.
انتبه الشباب فوجدوا بين أيديهم سجلًا حافلًا من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود، واحتـار الشباب في تاريخهم أيمسكونه علي هونٍ أم يدسونه في التراب؟!
فويلٌ، ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا؛ ليضل الناس بغير علم.
وويل، ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية، فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين.
وويل، ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، و لمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل.
يقول جابر بن عبد الله:
إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
يا الله! لهذه الدرجة؟
من سمع طعنًا في الصحابة، أو في الصالحين من الأمة، ثم لم يَرُد، كان كمن كتم ما أُنْزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
نعم؛ لأنه: كيف وصل إلينا ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ألم يصل إلينا عن طريق الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين؟
فإذا طُعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة، لم يُقبل ما يأتي عن طريقهم.
و هذا هَدم للدين بالكلية.
إذن تزوير التاريخ أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات.
و لهذا كانت هذه السطور.
ولقد اخترت لكم حدثا جليلا عظيما من أحداث التاريخ الإسلامي آثرت أن أفرد له هذا البحث، حتى ندرسه ونفقهه ونحلله؛ فنتحرك به خطوة، بل خطوات إن شاء الله إلى الأمام.
هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على المسلمين بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم.
ولاحظوا أنني أقول استخلاف أبي بكر الصديق، ولا أقول أني سأحدثكم عن خلافة أبي بكر الصديق، فهذا يطول ويتشعب، لكني فقط في هذا البحث أتحدث عن قصة الاستخلاف:
كيف اختير أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين؟
وكيف تم؟
وما هي خطواته وما هي تبعاته؟
ماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟
وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟
والحق أن كثيرا من القراء قد يتعجبون لإفراد هذا الحدث، الذي يعدونه حدثًا قصيرًا بسيطًا في التاريخ ببحث خاص.
فالحدث تم في أقل من يوم واحد، وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرنًا من الزمان، فهل نفرد له بحثا خاصـًا؟
ولماذا هذا الحدث بالذات؟
وأجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:
أولا: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المسلمين، ويجب أن يحرصوا على دراستها دراسة وافية، مستفيضة شاملة لكل نقاط حياتهم، فهي فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها علي الإطلاق بعد فترة الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين، وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع أن كثيرًا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الأمور تحتاج إلى فقهٍ واجتهاد، فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها، وسارت الأمة معهم، فكانت تشريعًا للمسلمين.
حدثت أمورٌ ما كان لها شبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منها هذا الحدث الذي نحن بصدده وهو: اختيار خليفة للمسلمين.
ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور.
ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.
فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.
من هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:
وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَـتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا.
قال: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
وصدقت يا رسول الله، ونحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟
في أي طريق نسير؟
وأي المناهج نتبع؟
وأي الأساليب نختار؟
انظر إلى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (بالأضراس) وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عندما تتشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بالطبع مفهوم، لكن لماذا يضيف صلي الله عليه وسلم:
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؟
إذا كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة الرسول صلي الله عليه وسلم، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين.
لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضعت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية، وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولًا فقط، بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه النقطة أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، لا بد أن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا, وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء؛ ولذلك سنتحدث عنها، ثم يليها إن شاء الله الحديث عن الأحداث الأخرى.
ثانيا: الذي يهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد جدًا في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحـًا:
ما هو معني الشورى؟
وكيف التصرف عند الاختلاف؟
وما هي طرق عرض وجهات النظر؟
ولماذا يختار رجلٌ دون آخرٍ لإمارة ما؟
وأمورٌ أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.
ثالثا: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرُ صعب، والأصعب من ذلك غياب الوحي وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا من قصة أم أيمن:
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:
انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا:
مَا يُبْكِيكِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيِ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ.
فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَهَا.
الصحابة كانوا يعيشون الوحي، وتخيل معي الأمر الغريب، كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم.
الله يقول لكم كذا.
الله ينهاكم عن كذا.
الله غفر لفلان.
الله يحب فلان.
الله يبشر فلان بالجنة.
الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
إذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيا على رأي، ويعدل المسار ويصحح الوجهة.
وفجأة انقطع الوحي بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا:
أين غضب الله؟
وأين رضاه؟
إذا اختلفوا عليهم أن يختاروا رأيـًا دون انتظار التعديل الإلهي، نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي، والموقف بعد انقطاع الوحي.
وحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولا بد أن في دراستها عبرًا لا تحصى، وفوائد لا تقدر بثمن.
رابعا: وتأتي أهمية حادث الاستخلاف أيضا في أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليكون خليفة للمسلمين، فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة، سنتعرف عليه إن شاء الله في هذه السطور، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين، ومسدِدًا لخطاهم لَمّا يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على سبيل المثال:
حرب الردة، فلولا أبو بكر الصديق لما كانت تلك الحروب الضارية الدامية الواسعة النطاق.
أيضا الفتوحات الإسلامية العجيبة لدولة فارس والروم، أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة، إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، قد يكون من السهل على من تبعه من خلفاء أن يقوموا بالفتوحات من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسَنّ سُنّة حسنة تبعه فيها الآخرون.
حادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، فلابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.
خامسا: ومن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضا أنه كثر طعن المستشرقين واتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة.
لم يتركوا أحدا، ضربوا كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، طعنوا في أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وعائشة، وسعد بن عبادة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، والسيدة فاطمة، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء عليه، وذموه في صورة المدح، طعنوا في العباس بن المطلب عم رسول الله صلي الله عليه وسلم.
خلاصة الأمر أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال، وخير القرون.
فإن كان هم كذلك، فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟
وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟
وكيف نقبل باجتهادهم؟
فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه ويدمرون الإسلام في أصوله.
هذا الكلام، ليس تاريخا قديما فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير ذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة سواء في الجامعات المحلية، أو الجامعات الغربية التي تفتح فروعا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضا بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
هنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص هذه القصة، قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أجمعين.
لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله، فتاريخ المسلمين بحق بحرٌ لا ساحل له.
ولكي نفهم هذا الحدث الكبير، ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، لا بد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر.
لا بد أن نعرض لطرف بسيط من حياته.
نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا الرجل الفذ العملاق، نحن فقط نلقي نظرةً على استيحاء لنعرف: ما هذا؟
ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟
ما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور؟
ما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة.
شخصية عجيبة، جمعت كل ذلك، وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره، وليس بنبي، إن هذا لشيء عجيب.
فشخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ.
انظر تقييم علي بن أبي طالب لهذه الشخصية، أخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب قال:
قلت لأبي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قال: أَبُو بَكْر.
قلت: ثُمَّ مَنْ؟
قال: عُمَرُ.
وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ:
ثُمَّ أَنْتَ؟ قال:مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وهذا تواضع من علي بن أبي طالب.
تُرى كيف كانت شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتَهُ.
فهذه مقامات عالية جدا، فأبو بكر الصديق كما في الحديث من أَمَنّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي أكثرهم مِنّة وفضلًا.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الله خليلا ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر؛ أي أنه لو اصطفى من البشر خليلا لكان أبو بكر رضي الله عنه، ولكن أخوة الإسلام.
كيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟
وكيف وصل إليها؟
لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق، ولكن أحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم،
كيف تسهل عليه فعل كل هذا الخير؟
وكيف حافظ عليه؟
ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا أن نقلده فيما فعل، فنصل إلى ما إليه وصل؟
- بتحليل شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة من أهمها خمسة أمور، من هذه الأمور الخمسة تنبثق معظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه:
- حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
- رقة القلب، ولين الجانب
- السبق والحسم
- إنكـار الذات
- الثـبـات
وهذه الصفات الخمسة هي التي سنتناولها في الجزء الأول من البحث، بإذن الله.
أمـا في الجزء الثاني، فسنتوقف عند أحداث السقيفة، لكي نتناول بشيء من التفصيل:
- أحداث يوم السقيفة.
- شروط الاستخلاف.
- استخلاف الصديق بين التلميح والتصريح.
- شبهات حول استخلاف الصديق.
ثم ننتهي بعد ذلك إلى:
.دروس من حياة الصديق رضي الله عنه
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا...
حبه الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أحبه حبًا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعا أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها.
وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أشد الناس إيمانا، فهو إذن أشد الناس حبا للرسول صلى الله عليه وسلم، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ.
هذا الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبا، ولو تتبعت رحلة الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيت حبا قلما تكرر في التاريخ.
وتعالوا نقلب الصفحات في حادث واحد فقط هو حادث الهجرة إلى المدينة المنورة:
- لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، أول ما قاله أبو بكر قال:
فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
- ولما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة:
الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الصُّحْبَةُ.
فماذا كان رد فعل أبي بكر لما علم أنه سيصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أترك لكم السيدة عائشة تصور هذا الحدث:
قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.
يا الله، يبكي من الفرح للصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه الصحبة الخطيرة سيكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده صلى الله عليه وسلم، ويكون فيها ضياع المال، ويكون فيها ضياع الأهل، ويكون فيها ترك البلد، لكن ما دامت في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر يبكي من الفرح لأجله.
- لقطة أخرى من لقطات الهجرة:
عند الوصول إلى غار ثور وهي لقطة (بدون تعليق) :
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر:
والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شر أصابني دونك.
فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا، فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ادخل.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجُحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دمعة على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟
قال: لدغت فداك أبي وأمي.
فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده.
- لقطة أخرى من لقطات الهجرة: لقطة يحكيها أبو بكر الصديق كما أوردها البخاري في صحيحه، يقول:
ارتحلنا من مكة فأحيينا، أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقامت قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل، فسويته بيدي، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله.
فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فسألته:
لمن أنت يا غلام؟
قال : لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت هل في غنمك من لبن قال:
نعم.
قلت: فهل أنت حالب لبنا؟
قال: نعم.
فأمرته فاعتقل شاه من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب له كثبة من لبن، ومعي دواة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضأ. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ فصببت الماء على اللبن حتى برد أسفله فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قال:
أَلَمْ يِأْنِ الرَّحِيلُ؟
قلت: بلى.
فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشة على فرس، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله.
فقال: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
- لقطة أخيرة من لقطات الهجرة وليست الأخيرة من لقطات أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له:
أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
فقال: يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟
قال: نعم، والذي بعثك بالحق.
هل كان هذا الحب من طرف واحد؟
كلا والله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِِنْهَا اخْتَلَفَ.
فلأن أبو بكر الصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحب الذي فاق كل حب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، يقول:
فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
قلت: من الرجال؟
قال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: عُمَرُ. فعد رجالا.
سؤال:هل كان يُرْغِمُ أبو بكر الصديق رضي الله عنه نفسه على هذا الحب؟ هل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟
أبدا والله، لقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع، والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان يذوقها في قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه:
ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
هذا الحب الفريد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى أمرين عظيمين يفسران كثيرا من أعمال الصديق رضي الله عنه الخالدة في التاريخ:
الصديق وبعث أسامة
- انظر مثلًا إلى موقفه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والحقيقة أننا نسمع عن إنفاذ جيش أسامة، فلا نعطيه قدره، ونتخيل أنه مجرد جيش خرج، ولم يلق قتالًا يذكر فأي عظمة في إخراجه؟! بيد أن دراسة ملابسات إخراجه، وتأملها تدل على عظمة شخصية الصديق، وكيف أنه بهذا العمل وهو أول أول أعمال خلافته، قد وضع سياسة حكمه التي تعتمد في المقام الأول على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد، ولا شك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعد هذا البعث لإرساله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمّر عليه أسامة بن زيد، ولم يبلغ الثامنة عشر من عمره، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت جزيرة العرب كلها إلا ثلاث مدن هي مكة والمدينة والطائف وقرية صغيرة، وهي جواثا في منطقة هجر بالبحرين.
الجزيرة العربية كلها تموج بالردة ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشًا كاملًا إلى الروم ويترك المرتدين، والحق أنه قرار عجيب، البلاد في حرب أهلية طاحنة، وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة، ثم يرسل زعيم البلاد جيشًا لحرب دولة مجاورة، كان قد أعده الزعيم السابق، لكن أبو بكر كانت الأمور في ذهنه في منتهى الوضوح ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر فلا مجال للمخالفة، حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة عالية من الإيمان، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بردة مسيلمة في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر تجهيز الجيش، وإرساله إلى الشام، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر، فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر على إنفاذ البعث إلى الروم.
جاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، وهم على قدرهم الجليل لم يفهموا فهم الصديق رضي الله عنه، فماذا قال لهم؟
قال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.
وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان الخير في إنفاذه، إذ أرعبوا قبائل الشمال، وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، وإلا لما خرج من عندهم هذا الجيش الضخم، وحفظ الله المدينة بذلك، ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق رضي الله عنه، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه يرى بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق قال بعضهم لعمر بن الخطاب: قل له فليؤمر علينا غير أسامة.
فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد كانت لحظات الغضب في حياته رضي الله عنه قليلة جدًا، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، أو عطل أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- خطابه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عمرو بن العاص مرة على عمان، ووعده أخرى بالولاية عليها، فلما استتب الأمر لأبي بكر الصديق بعد حروب الردة ولى عليها عمرو بن العاص تنفيذًا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه أمور يجوز للوالي الجديد أن يراها أو يرى غيرها حسبما رأى المصلحة، هذا أمر ليس شرعيًا حتميًا، ولكنه لا يريد أن يخالف ولو قدر أنملة، وهذا هو الذي وصل به إلى درجته، وهذا الذي رفع قدره، وهذا الذي سلم خطواته، وهذا الذي سدد رأيه.
ثم إنه قد احتاجه لإمارة جيش من جيوش الشام، وعمرو بن العاص طاقة حربية هامة جدًا، لكن أبو بكر الصديق تحرج من استقدامه في مكان وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يكره ذلك عمرو بن العاص فأرسل له رسالة لطيفة يقول فيها:
إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَّاكه مرة، وسماه لك أخرى؛ مبعثك إلى عمان إنجازا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
- هيبته في جمع القرآن، فإنه لما استشهد عدد كبير من حفظة القرآن في موقعة اليمامة، وخشي الصحابة على ضياع القرآن ذهبوا إلى أبي بكر يعرضون عليه فكرة جمع القرآن، فكان متحرجًا أشد التحرج من هذا العمل الجليل، قال:
كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن جمعه، ولكن كان من عادة الصديق رضي الله عنه أن ينظر إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإقدام على أي عمل، فما وجده اتبعه، فلما نظر ولم يجد رسول الله قد جمع القرآن تهيب الموقف، واحتار، ولكنه لما اجتمع عليه الصحابة، وأقنعوه وخاصة عمر، استصوب جمعه لما فيه من خير.
وهكذا في كل مواقفه رضي الله عنه ستجد حبًا عميقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دفعه إلى اليقين بصدق ما قال، ودفعه أيضًا إلى الإقتداء به في كل الأفعال والأقوال، ومع ذلك فإن هذا الحب العميق لم يدفعه إلى الظلم أبدًا. وأكتفي كدليل على ذلك بحادثة واحدة في حياة الصديق رضي الله عنه فقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة أبي بكر عائشة حين ذكرتها خوله بنت حكيم، وكان المطعم بن عدي قد خطبها قبل ذلك لابنه فقال أبو بكر لزوجه أم رومان:
إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعدًا قط.
ثم أتى مطعمًا وعنده امرأته فسأله:
ما تقول في أمر هذه الجارية؟
فأقبل الرجل على امرأته ليسألها ما تقولين؟
فأقبلت هي على أبي بكر تقول: لعلنا إن أعطينا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه.
فلم يجيبها أبو بكر، فسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟
فكان جوابه: إنها تقول ما تسمع.
فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده، وقَبِلَ خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان علقها على موافقة المطعم بن عدي مع رغبة نفسه الأكيدة في مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طراز نادر من الرجال رضي الله عنه. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #2موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:15 pm | |
| آبو بكر الصديق بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة غير متكلفة، وكان أبو بكر رضي الله عنه من هذا النوع الأخير.
لقد سمع أبو بكر وصايا حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، فحفظها، وعقلها وعمل بها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ.
كانت رقة قلبه رضي الله عنه تنعكس على حياته الشخصية، وتنعكس على علاقاته مع الناس.
وتستطيع بعد أن تدرك هذه الحقيقة، حقيقة أنه جُبِل على الرحمة والرقة والهدوء أن تفهم كثيرًا من أفعاله الخالدة رضي الله عنه.
- عن عائشة رضي الله عنها كما روى البخاري ومسلم، قالت:
لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرةٍ وعشية، فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء المشركين للمسلمين في مكة) خرج أبو بكر مجاهدًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه بن الدغنة، وهو سيد القارة فقال:
أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
سبحان الله، سيترك التجارة، والما، والوضع الاجتماعي المرموق، والبيت، والأهل، والبلد، والكعبة، بل أعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة، لكن أبو بكر كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة، ويعبد الله في سرية، ويتاجر، ويحقق المال الذي يفيد الدعوة، لكن رسول الله أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة؛ لأن قبيلته ضعيفة، وهي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية، إلى الحبشة، لكن الله أراد غير ذلك وأراد له البقاء في مكة فسخر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة:
فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنا لك جار ارجع، واعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشيةً في أشراف قريش فقال لهم:
أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة:
مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبنائنا.
لأن قلوب النساء، والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر رجل رقيق، يخرج كلامه من القلب، فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال فقلوبهم كانت قاسية، عرفت الحق، واتبعت غيره.
فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في السوق) ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
لا يريد أن يكتم أمر الدعوة، تتحرق نفسه شوقًا لإسماع غيره كلام الله عز وجل، وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم تمامًا كرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه بقوله:
[لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:3} .
هكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه،
يبكي عند قراءة القرآن
كان أبو بكر رجلًا بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا:
إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا في فناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبنائنا فانهه.
وهذا أمر طبيعي جدًا، فإذا وصلت كلمات الله وكلمات الرسول خالصة نقية إلى أسماع الناس وجردوا قلوبهم من المصالح، فمن الطبيعي جدًا أن يؤمنوا بها:
[فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30} .
وطبيعي جدًا أن يقاتل الكافرون دون ذلك، وهم يعلمون صوابها:
[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا] {النمل:14} .
قالوا: فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
هنا وُضع ابن الدغنة في موقف حرج فهو لا يريد أن يخسر كل أهل قريش، كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين ويبدو أن الكفر الشديد والعناد الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها فتكسر قواعد الحماية وتعطل قانون الإجارة، قالت عائشة:
فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال:
قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجلٍ عقدت له.
هنا لا يتردد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فالدعوة في مقدمة حياته على كل شيء حتى على حياته وروحه. فقال أبو بكر:
فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
كانت هذه طبيعة أبي بكر، وكلنا يعلم أنه لما أشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، وذلك في مرض الموت، قيل في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ القرآن غلبه البكاء.
فقال صلى الله عليه وسلم: مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ.
وفعلًا صلى بالناس، وفعلًا بكى كعادته في قراءة القرآن تمامًا كما وصفته ابنته الفاضلة السيدة عائشة رضي الله عنها: رجلٌ رقيقٌ.
موقفه مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما
هذه النفس الرقيقة، والقلب الخاشع، والروح الطاهرة النقية، والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيرًا من مواقف أبى بكر العجيبة:
- أخرج أحمد بسند حسن عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال:
جرى بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرهتها وندم.
ولنتأمل أن هذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان في جانب أبي بكر، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مع علو قدرهم، وسمو أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة، وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبدًا، رقة نفسه خرجت بهذا الندم إلى خير العمل وأسرع، وهو نائب الرئيس يقول لربيعة الخادم،
فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا.
قلت:لا أفعل.
أدب ربيعة تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: ما أنا بفاعل.
فانطلق أبو بكر رضي الله عنه رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت أتلوه، وجاء أناس من أسلم فقالوا لي:
رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال.
فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه، فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما، فيهلك ربيعة.
والله إنه لمجتمع عجيب، وأعجب منه الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات حتى أصبحوا كالملائكة.
قالوا: ما تأمرنا؟
قال: ارجعوا.
وانطلق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه فقال صلى الله عليه وسلم:
يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَالصِّدِّيقُ؟
فقلت: يا رسول الله كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصًا. فأبيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَجَلْ، لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.
فقلت: غفر الله يا أبا بكر.
قال الحسن: فولى أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي.
- وكان من رقيه وحنانه يشفق على المستضعفين في مكة، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما:
كان أبو بكر يعتق على الإسلام في مكة.
بمعنى أنه إذا أسلم الرجل، أو المرأة اشتراه من صاحبه واعتقه.
فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال أبوه:
أي بني أراك تعتق أناسًا ضعافًا، فلو أنك تعتق رجالًا جلدًا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟
وقد كان في حاجة إلى ذلك ؛لأن قبيلته قبيلة تيم كانت ضعيفة وصغيرة.
قال:أي أبت أنا أريد ما عند الله.
فنزلت فيه:
[فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] {الليل:5: 7} .
ونزلت فيه:
[وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19)إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20)وَلَسَوْفَ يَرْضَى] {الليل 21} .
وتأمل معي حينما يعد الله سبحانه وتعالى بنفسه عبده بأنه سيرضى، أي ثمن دُفع وأي سلعة تُشْترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع، ولو كان الدنيا بأسرها، وما أعظم السلعة المشتراة إنها الجنة.
- لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق السيدة عائشة ابنة الصديق رضي الله عنهما، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاثة رضي الله عنه، وهو من المهاجرين، وهو ابن خالة الصديق رضي الله عنه، فحلف الصديق أن لا ينفع مسطح بنافعة أبدًا.
وهذا رد فعل تجاه من طعن ابنته، فمسطح لم يتكلم في خطأ عابر للسيدة عائشة، بل يطعن في عرضها وشرفها وهذه جريمة شنعاء وذنب عظيم. فلما نزلت البراءة وأقيم الحد على المتكلمين نزلت الآية الكريمة:
[وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {النور:22}
لا يأتل: أي لا يحلف.
أولوا الفضل: وهو وصف خاص بالصديق رضي الله عنه، وللعلماء تعليقات كثير على هذه الشهادة من رب العالمين على الصديق أنه من أولي الفضل، على إطلاقها فهي تعني كل أنواع الفضل.
فماذا كان رد فعل الصديق رضي الله عنه؟
قال الصديق:
بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا.
ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من نفقة وقال:
والله لا أنزعها منه أبدًا
كل هذا وهو ليس بذنب، بل قطع فضلًا ولم يقطع حقًا لمسطح.
أما نحن فللأسف الشديد، كم مرة نسمع المغفرة، ونحن على ذنب كبير حقيقي، ونسمع:
[أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {النور:22} .
فنقول : إن شاء الله، ونُسَوف في التوبة، كم مرة سمعناها، ونحن على ذنوبنا؟
هذا هو الفرق بين الصديق، السبّاق إلى التوبة من ترك فضل وبين المُسَوّفين في التوبة، فيجب علينا أن نتوب في هذه اللحظة؛ لكي نكون قد تعلمنا حقًا من أبي بكر رضي الله عنه، وأرضاه.
- روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا:
ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
فقال أبو بكر رضي الله عنه:
أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:
يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ.
فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟
قالوا: لا، غفر الله لك يا أخي. الصديق وأسرى بدر
ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسرى في موقعة بدر، ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم، وطردوهم من ديارهم، وحرصوا على حربهم، وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن الله من على المؤمنين بالنصر؟
انظر إليه وكأنه يتحدث عن أصحابه لا يتحدث عن الأسرى، بل كأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال:
يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا.
أما عمر بن الخطاب، فقد كان جوابه مختلفًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟
فيرد عمر بن الخطاب فيقول، ولنتأمل كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ملهم، ومحدث ومسدد الرأي، وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة محمودة في زمان الحرب. بل إن رأيه هو ذلك الرأي الذي يريده الله ووافق فيه عمر ما أراد الله عز وجل:
والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان- أحد أقرباء سيدنا عمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء أئمتهم وقادتهم.
فيقول عمر بن الخطاب:
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
نلاحظ التقارب الشديد في الطباع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، وإن كان الصواب في الموقف كان مع عمر.
يقول عمر: فلما كان الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت:
يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
لله درك يا ابن الخطاب، عملاق آخر صنعه الإسلام رقة متناهية مختفية خلف الشدة الظاهرة، وقلب يذوب ذوبانا في حب رسول الله وتواضع جم وأدب عظيم، فقال رسول الله: لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابَهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.
ولماذا العذاب؟ وكأن بعض الصحابة أرادوا الدنيا بهذا الرأي، وينزل قول الله:
[مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {الأنفال:67، 68} .
الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى:
[فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً] {محمد:4} .
ويلخص هذا كله رسول الله بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر، واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي:
إِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ قال:
[فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {إبراهيم:36} .
وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ:
[إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {المائدة:118}.
وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ:
[رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا] {نوح:26}.
وَمَثَلُكَ مِثَلُ مُوسَى قَالَ:
[رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88} .
ولا أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما مع المذنبين، ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق.
إذن هذه المواقف وكثير غيرها توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها الصديق رضي الله عنه.
هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة، والطباع اللينة أورثت في قلب الصديق تواضعًا عظيمًا فاق كل تواضع.
تعالوا نرقبه بإمعان وهو يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، موقف عجيب، أسامة بن زيد دون الثامنة عشر من عمره، وهو جندي من جنود أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر الصديق هو زعيم الدولة الأول، خليفة المسلمين يتجاوز في العمر الستين سنة، ومع ذلك يودع بنفسه جيش أسامة، وهو ماش على قدميه، وأسامة بن زيد يركب جواده، ولك أن تتخيل الموقف، أسامة على الجواد، وأبو بكر يسير بجواره على الأرض، قال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل.
فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب، وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة.
يا الله، يا لها من تربية راقية تربية على منهج النبوة، يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بالنفس، ويربي الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يريد عمر بن الخطاب معه في المدينة، وعمر بن الخطاب في جيش أسامة، ومع أن أبا بكر الصديق هو القائد الأعلى لكل الخلافة إلا إنه يستأذن أسامة بن زيد قائلًا:
إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.
أسامة بن زيد 18 سنة، أي من عمر شاب في الثانوية العامة اليوم. وهو لا يتصنع التواضع، ولكن هذا جزء لا يتجزأ من شخصيته رضي الله عنه وعن أصحابه، وصلي اللهم وبارك على الذي علم هؤلاء مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #3موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:18 pm | |
| آبو بكر الصديق السبق سمة واضحة جدًا في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والشيطان كثيرًا ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف، وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى، يقول له افعل الخير ولكن بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين، ولا يقول له لا تفعل الخير، فالشيطان أذكى من ذلك، وعندما يؤجل الإنسان العمل، ولو للحظات قليلة يكون معرضًا بشدة لترك العمل، إما أن ينسى العمل، وإما أن تَجِدّ له ظروف تمنع من العمل من شغل، أو مرض، أو تتغير الحماسة في القلب، بل إن الإنسان قد يموت.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان فهمًا جيدًا، كان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبدًا أن يلعبها معه، كان رضي الله عنه وأرضاه أستاذًا في السبق ونبراسًا في الحسم، تشعر أنه يتحرك في حياته وقد وضع الآية الكريمة:
[وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] {البقرة:148} .
نصب عينيه، فتجده في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة الموت، فلا بد أن يكون مستعدًا لها، أو هي لحظة الفتنة، فلا بد أن يكون ثابتًا، ومن المؤكد أنه سمع حديث رسول الله الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة والذي يقول:
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بَعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.
من يرى حياة الصديق رضي الله عنه يعلم أنه كان دائمًا يبادر بالأعمال الصالحة؛ اتقاء الفتن التي تظهر فجأة وعلى غير موعد سابق.
وإلى بعض الأمثلة التاريخية، على سبق الصديق رضي الله عنه;
سبقه إلى الإسلام
أول ما يلفت الأنظار إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام، فمن المعروف أنه أول الرجال إسلامًا، ما تردد، وما نظر، وما قال آخذ يومًا أو يومين للتفكير، بل أسرع إليه إسراعًا، وهو أمر لافت للنظر جدًا، فهو لن يغير شكله، أو بيئته، أو بلده، بل سيغير إيمانه، وعقيدته التي عاش عليها طيلة 38 سنة، أحيانًا بعض الرجال يعتقدون أنه من الحكمة التروي جدًا في الأمر، وعدم التسرع، وأخذ وقت طويل في التفكير قبل الإقدام على خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، وهذا قد يكون صوابًا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحًا جليًا مضيئًا كالشمس في كبد السماء ساعة الظهر، يصبح التروي حماقة، وتصبح الأناة كسلًا، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا مثلًا ما حدث مع قوم نوح، فقوم نوح كانوا يعيبون على الذين آمنوا مع نوح عليه السلام أنهم تسرعوا في الأمر ولم يتفكروا، قالوا:
[فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] {هود:27} .
فبادي الرأي معناها أولئك يبدون آرائهم لأول وهلة دون تفكير وتمحيص. وسبحان الله إنه لمن البلاهة أن ترى الشمس ساطعة، فتسأل عنها فتقول دعوني أفكر أولًا وأتروى: هل هي ساطعة أم لا؟
أو ترى نبعًا صافيًا سلسبيلًا في الصحراء، وأنت على مشارف الهلكة من العطش فتأخذ يومًا أو يومين تفكر هل أشرب أم لا؟!
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة، فلماذا التردد والانتظار؟!
عُرض عليه الإسلام غضًا طريًا واضحًا، فأنار الله قلبه بنور الهداية، وأدرك الحق من أول وهلة فلماذا الانتظار؟
روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟
قال ذلك لما حدث خلاف بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم أكمل صلى الله عليه وسلم مسوغات أن يتركوا له صاحبه رضي الله عنه، قال:
إِنِّي قُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.
فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ.
إذن هي فضيلة ولا شك أن أسرع إلى الإسلام هذا الإسراع، وسبحان الله مرت الأيام، وَصَدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين كذبوه من قبل، لكن كان أبو بكر هو الفائز بأجر السبق، من الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، نعم الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز بها [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ]{الواقعة:10: 12}. الأيام التي تمر لا تعود أبدًا إلى يوم القيامة، ولا شك أن أولئك الذين تأخر إسلامهم أيامًا وشهورًا وسنوات، كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ولا شك أن الذي سارع إلى الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان، وفي النهاية الأيام مرت على هذا وذاك، وأنا لا أذكر هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقع حياتنا كثيرًا ما نتردد في أعمال الخير فنؤجلها يومًا، ويومين، وشهرًا أو شهرين، ثم نفعل الخير، أو لا نفعله.
[لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10} .
فالأعمال لها أجران، أجر العمل نفسه، وأجر المبادرة إليه، والسبق في تنفيذه، وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل نفسه؛ لأنها تكون بمثابة السُّنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدونك، فيكون لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
روى الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال ; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم;
مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا
لكن قضية إسلام أبي بكر الصديق بهذه السرعة قضية تحتاج إلى وقفة، بل وقفات، هذا قرار غير عادي، قرار مهول، بل أكثر من مهول، قرار يتبعه ترك الدين إلى دين غيره، قرار يتبعه هلكة الأموال والأولاد والأشراف، قرار يتبعه قتال الأبيض والأسود والأحمر من الناس، قرار يتبعه تكفير الآباء والآجداد، قرار يتبعه تعب ونصب ووصب، بل جهاد حتى الموت،
هذا قرار يغير المألوف الذي ألفه الناس سنوات وسنوات، وتغيير المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص، وقد كان الصديق ذلك الرجل.
ولماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق من بين كل الناس، لكي يسر له بأمر الدعوة دون غيره؟
وقد كان من المنطقي أن يدعو الرسول أحد أقاربه قبل الصديق، وخاصة في هذه البيئة القبيلة، فلماذا لم يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا لأبي لهب، أو العباس، أو حمزة، أو غيرهم من عائلته، وأهل بيته؟
وذلك ولا شك قد كان لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الصديق أمورًا، ولا شك، جعلته يتيقن أنه سيوافقه، بل يعينه على أمر هذه الدعوة، ويكون له شـأن عظيم لا يغفل في هذا الدين، فمــا الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصديق رضي الله عنه؟
كيف أخذ الصديق هذا القرار الجريء المُغيّر؟
أو قل: لماذا لم يأخذ الآخرون القرار الذي أخذه الصديق ببساطة وسهولة؟
ما الذي يمنع الناس أن يؤمنوا فيتخلفوا عن ركب الصديق وأمثاله؟
وهنا نقف وقفة ونحلل، ولأننا لا نسرد التاريخ لمجرد العلم به، بل لكي نتحرك به خطوات إلى الأمام، فلنلاحظ الصفات التي كانت في الصديق رضي الله عنه وجعلته يسبق إلى الإسلام، فإن كانت موجودة عندنا، فالحمد لله، وإلا فلنستكملها، لأنه لا يمكن سبق بدونها، كذلك تساعدنا هذه الصفات في الحركة في دعوة الناس إلى الله، فمن كانت فيه مثل هذه الصفات الخيرة، فلنكن بادئين به، فإن للداعية أولويات لا بد أن تحترم، وقواعد لا بد أن تتبع. وقد حاولت أن ألم بمجمل تلك الصفات فحصرتها في عشرين صفة وهذه الصفات يكون بعضها موجود بعض الناس وبعضها الآخر في آخرين، وقد تجتمع في رجل واحد مثل الصديق رضي الله عنه.
أولًا: قبل كل شيء فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء
[إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {القصص:56}.
فلما يختار الله للنبوة أفرادًا بعينهم يصطفيهم على بقية البشر، فإن الله بعد ذلك يصطفي عبادًا من عباده يعينون رسل الله في قضاء مهمتهم، وفي توصيل دعوتهم، وقد كان الصديق ولا شك في ذلك من هؤلاء المصطفين. بل إن الله يصطفي من البشر أناسًا على فترات متعددة بعيدًا عن زمان الرسل، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، إذًا أول أمر هو اصطفاء الله للصديق لينال هذه المكانة الراقية وذلك لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وكما صنع الأنبياء على عين الله عز وجل، فكذلك الصديق رضي الله عنه قد صنع على عين الله
وهنا قد يقول قائل أن هذا الأمر ليس بيده، أي اصطفاء الله له، ولكنه لا بد أن يعلم أن هذا الاصطفاء ليس عشوائيًا، حاشا لله، ولكن الله بسابق علمه يعلم أن في هذا العبد صلاحًا وإيمانًا، فيقربه، ويهديه، نـسـأل الله عز وجل أن نكون كذلك.
ثانيًا: قد يصد الناس عن سماع الحق كراهيتهم لقائله، والحق أن أهل مكة جميعًا ما كانوا يكرهون محمدًا قبل بعثته، بل كان جلهم أو كلهم يحبه صلى الله عليه وسلم، فهو الصادق الأمين الشريف العفيف، لكن أتراهم أحبوه مثلما أحبه الصديق رضي الله عنه؟
أشك كثيرًا في ذلك، فإني لا أعتقد أن أحدًا أحب أحدًا مثلما أحب الصديق محمدًا صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كانا صديقين حميمين حتى قبل البعثة، وكما ذكرنا من قبل، حديث الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ.
فقد تعارفت روحا النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، وأول درجات الدعوة الصحيحة أن يحب المدعو الداعية، وأن يحب الداعية المدعو، هذا الحب المتبادل يفتح القلب، وينور العقل، ولا شك أنه درس لا ينسى لكل الدعاة، إذا أردت أن يستجيب الناس لدعوتك فلا بد أولًا من حب متبادل، أَحِبّ الناس وكن أهلًا لحبهم.
ثالثًا: من الموانع الخطيرة لإجابة الدعوات الجديدة الصالحة، الكِبر، آفة عظيمة تصيب قلوب بعض العباد فتصدهم عن كل خير، الكبر أخرج إبليس من الجنة، والكبر أخرج المتكبرين في كل العصور من جنة الإيمان إلى جحيم الكفر والضلال
[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ] {النمل:14} .
الكبر أخرج معظم عمالقة الكفر في مكة من دائرة الإيمان إلى دائرة الجحود، بل قل معظم أفراد الكفر، فالكافر لا يكون عملاقًا، مثلًا الوليد بن المغيرة كان يستكبر أن يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم
[وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] {الزُّخرف:31}.
لو نزل على عظيم في مكة كالوليد بن المغيرة، أو على عظيم في الطائف كعروة بن مسعود الثقفي، لو نزل على هؤلاء لاتبعوهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عظيمًا فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق، ولا عقيدة، بل في وفرة مال أو سعة أملاك أو بأس سلطان.
هؤلاء المتكبرون المتغطرسون يطمس الله على قلوبهم، فلا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا
[سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ] {الأعراف:146}.
وهكذا صرف الله قلوب المتكبرين عن الإيمان، ولكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس من هذا الصنف، كان الصديق متواضعًا شديد التواضع، هينًا لينًا سهلًا محببًا، ذكرنا طرفًا من تواضعه وسنذكر أطرافًا أخرى في مواقف قادمة، ومن الصعب أن تخص مواقف التواضع في حياة الصديق؛ لأن تواضعه لم يكن مختلقًا أو مصطنعًا، بل كان تواضعًا فطريًا أصيلًا في شخصيته، هذه النفس المتواضعة للحق كان من السهل عليها جدًا أن ترى سبيل الرشد، وأن تتخذه سبيلا، وأن ترى سبيل الغي، ولا تتخذه سبيلا، وهو درس لا يُنسى للدعاة، فدعوة الإنسان الهين اللين المتواضع أبرك ألف مرة من دعوة المتكبر المتغطرس، وإن كان زعيمًا ممكنًا، وسبحان الله، فكما أن الحب المتبادل يسهل الدعوة، ويسهل قبول الفكرة الجديدة، فالتواضع المتبادل يسهل الدعوة أيضًا، ويسهل قبول الفكرة الجديدة أيضًا، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم من أشد الناس تواضعًا، بل هو أشدهم على الإطلاق، ولا شك أن قبول الفكرة من الداعية الذي لا يتكبر على الخلق يكون سهلًا سلسًا طبيعيًا، بينما لا يقبل الناس عادة أفكار المتكبرين.
رابعًا: يمنع طائفة من الناس أن يصدقوا غيرهم أنهم شخصيًا اعتادوا الكذب، فالكذاب كثير الكذب، والخائن كثير الخيانة غالبًا ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين، أو يأتمن الآخرين، ذلك لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما يتصرف، وأبو بكر لم يكن صادقًا فقط، بل كان صديقًا، كان يستقبح الكذب، وما أوثر عنه كذبة واحدة، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره، بل هو يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق، والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، ولم يشتهر بهذا عامًا أو عامين بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم أموره، بل كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟
وكيف لهذا الذي ترك الكذب على الناس أن يكذب على الله رب العالمين؟
هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق، بل إنه لم يغب عن ذهن رجل ما عاشر محمدًا ولا حتى رآه مثل هرقل ملك الروم، فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان وكان ما زال كافرًا قال أنه لا يكذب، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب عليكم ليكذب على الله.
وهكذا فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول الفكرة، وإن كانت جديدة تمامًا.
خامسًا: كثيرًا ما يمتنع كبراء القوم عن إجابة الدعوات، بل يواظبون على حربها، ومقاومتها بسبب الخوف على السيادة والحكم.
فالحاكم الذي يستمد قوته من شرعه الذي وضعه للناس، يخشى إن جاء شرع جديد أن يستبدل بصاحب هذا الشرع، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو أن يكون الحكم لله
[إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:40}.
ألا لله [أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54}.
فأسياد البلد يرفضون السيادة الجديدة، وهذا الأمر صد طائفة ضخمة من حكام مكة في ذلك الزمان، وهذا الأمر هو الذي صد زعماء القوم من زمان نوح وإلى يوم القيامة، الخوف على السلطان، عبد الله بن أُبَي ابن سلول زعيم المنافقين في المدينة، لماذا كان يكره محمدًا صلى الله عليه وسلم؟
لأن الأوس والخزرج كانوا ينسجون له الخرز حتى يتوجوه ملكًا على المدينة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلم سدة الحكم بالمدينة، وجعل الشرع لله والأمر لله والحكم لله، فأبت نفس ابن أبي سلول ذلك، فرفض الإيمان، ثم ادعاه ظاهرًا فأصبح منافقًا، أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يكن زعيمًا من زعماء قريش، وإن كان من أهل الشرف هناك، فلم يكن يخاف على ملك ضائع، أو سلطان مبدد، فلم تكن السيادة والزعامة عائقًا أمامه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيضًا لم يكن زعيمًا في مكة، ولم يكن يطلب زعامة بدعوته الجديدة، بل عرضت عليه الزعامة مقابل ترك هذه الدعوة، فرفض رفضًا حاسمًا باتًا، وهكذا التقى الحبيبان من جديد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، التقيا في رفض الزعامة، ورفض طلبها، فهان على محمد صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة، وهان على الصديق رضي الله عنه قبولها، ولكنه هذا لا يعني عدم قبول الزعماء للدعوة بشكل مطلق، فقد يهدي الله أحدهم، كما حدث مع سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وهم من زعماء الأنصار، ولكن لا تبدأ بالزعمـاء.
سادسًا: تعارض المصالح من أشد المعوقات لقبول الدعوات الجديدة، وخاصة المصالح المالية، قد تؤثر الدعوة الجديدة سلبًا على مصلحة أحد الناس المادية، فيقاوم الدعوة حفاظًا على مصلحته، وأبو بكر الصديق كان تاجرًا، ودين الإسلام لا يمنع التجارة، بل على العكس يحفز عليها، وهو حتى إن لم يكن يعرف تفاصيل هذا الدين، وماذا يبيح أو يمنع التجارة؟ إلا أنه يرى الداعية لهذا الدين يعمل تاجرًا، وذلك أكثر من خمسة عشر عامًا متتالية منذ زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها، بل قبل ذلك، فقد كان يرعى تجارة عمه أبي طالب، إذن الوظيفة محفوظة، لكن ما بال تجار مكة غير الصديق يقاومون الدعوة بينما انخرط فيها الصديق؟
مكة بلد آمن، وبه المسجد الحرام وأهل الجزيرة العربية كانوا يذهبون بتجارتهم، وأموالهم يتاجرون في هذا المكان الآمن، وتجار مكة يستفيدون من هذا تمامًا، فإذا انتشرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأهل مكة يتوقعون حربًا لها من العرب، وستتحول البلد الآمن إلى بلد قلاقل وفتن ولا يأمنوا على تجارتهم؛ فلذلك سارعوا حماية لمصالحهم التجارية والاقتصادية، بمقاومة الدعوة في مهدها، بينما الصديق وإن كان تاجرًا، إلا أنه جُبِل على العطاء والكرم والزهد في المال حتى قبل إسلامه، فلم يكن حب المال عائقًا أمام الصديق يمنع من دخول الدين، وسيأتي تفصيل هذه النقطة إن شاء الله عند الحديث عن السمة الرابعة من سمات الصديق وهي ( إنكار الذات ) إذ نذكر طرفًا من عطائه رضي الله عنه، لكن المهم هنا أن نعلم أن تجار مكة الذين تغلغل حب المال في قلوبهم كانت أموالهم حجر عثرة في طريق إيمانهم، بينما تميز الصِّديق عن أقرانه بعطائه وكرمه،.ما بالكم إن كان يستمع إلى دعوة تأتي على لسان رجل ما تعلق بالمال في حياته ولو مرة واحدة سواء قبل بعثته أو بعد بعثته، وسواء قبل تمكينه أو بعد تمكينه، لا شك أن لقاء الزاهدين في المال سيكون لقاءًا مثمرًا إيجابيًا، فإن أردت أن تبدأ فابدأ بالكريم، الذي لا يتعلق بمال، ولا يبكي على ثروة.
سابعًا: التحرر من قيود القبلية والتعصب.
والقبلية عند المتحمسين تكون حاجزا لا يُعبر، وعائقًا لا يُتخطى، وخاصة في هذه البيئة العربية، ويزداد الأمر خطورة إذا كان هناك تنافس شديدًا وحاميًا بين قبيلتين من القبائل، فهذا الأمر على سبيل المثال هو الذي صد رجلًا عاقلًا حكيمًا كعمرو بن هشام (أبو جهل) فإذا به بسبب قبيلته ينقلب إلى أبي جهل، قال أبو جهل وهو من قبيلة مخزوم:
تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا، فحملنا، وأعطوا، فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء.
فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه.
فهكذا منعت القَبَلية أبا جهل وأمثاله من دخول الإسلام.
ورجلٌ من بني حنيفة، وهي فرع من ربيعة آمن بمسيلمة الكذاب، وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولما سئل عن ذلك قال:
والله أعلم أن محمدًا صادق، وأن مسيلمة كذاب، لكن كاذب بني ربيعة، أحب إليَّ من صادق مضر.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قبيلة ضعيفة، وهي فرع صغير من فروع قريش، تلك هي قبيلة تيم، ولم تكن القبيلة تنازع أحدًا، أو تنافس أحدًا فوقاه الله بذلك شر التعصب القبلي، ثم هو يستمع الدعوة من رجل نجيب كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أشرف قريش نسبًا، ومن قبيلة قوية ذات منعة، ومع ذلك فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا يعتمد على نسبه وقبيلته، بل يدعو أبا بكر وهو من قبيلة أخرى، وهي كما ذكرنا قبيلة ضعيفة نسبيًا، إذن هذان رجلان نزعا من قلبيْهما حمية الجاهلية، ونزعا من قلبيْهما النعرة القبلية، وبحثَا عن الحق أينما كان، لا فرق بين هاشمي أو مخزومي، ولا هاشمي وتيمي، بل لا فرق بين قريش وغيرها، بل لا فرق عربي وأعجمي، الدعوة لجميع الخلق، والمفاضلة بينهم بالتقوى، هذا مقياس عادل يعجب رجلًا حصيفًا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
والقبلية قديمًا هي في مقابل القومية حديثًا، فالقومية العربية، والقومية التركية، والقومية البربرية ،والقومية الكردية، كل هذه صور من القبلية القديمة صدت ومازالت تصد كثيرًا من الناس عن سماع كلمة الحق وإجابة داعي الإيمان، وما تفرق المسلمون إلا بقومياتهم، ووالله لا يجتمعون إلا على الإسلام، وذلك مصداقًا لقول الفاروق رضي الله عنه:
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فأينما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
ثامنًا: بعض الناس يكون أسيرًا للتقاليد، وإن كانت باطلة، ويكون مفتونًا بالآباء والأجداد، ولا يتخيل أن ما عاش هو عليه فترات وعاش عليه الأقدمون فترات أطول ما هو إلا ضلال في ضلال، الدين الجديد لا يُسَفّه أحلامهم فقط، بل يسفه أحلام السابقين، يسفه أحلام الآباء والأجداد، يهدم التقاليد، يزلزل التراث، هذا الذي صد رجلًا مثل أبي لهب، فأبو لهب من ذات قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عمه، لكنه يرفض أن يسفه فكر الآباء والأجداد، وأن يسفه فكره هو شخصيًا، ولذلك فهو يرفض الدعوة، بل أشد من ذلك وأعجب أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر الناس رعاية له، ومن أشد الناس حبًا فيه، ومع ذلك وقف حاجز التقاليد أمام إيمانه، ووقف تقديسه لآبائه وأجداده أمام دخول الدين مع أنه يصدق محمد في كل كلمة قالها، لكن أيخالف الأجداد؟
هذا في عرفه مستحيل، فإذا به على فراش الموت، وخير الدعاة وأحب الخلق إلى أبي طالب يقف على رأسه يرجوه أن يقول كلمة واحدة، ثم سيموت بعدها: أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ.
وماذا سيضره بعد الموت من كلام الناس والعرب، ولكن أبدًا التقاليد الموروثة والعقائد العقيمة المسمومة، أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يقفان على رأسه يلعبان على هذا الوتر القبيح، وتر التقاليد المخالفة للشرع، يقولان:
يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزالا يكلماه حتى كانت آخر كلماته:
على ملة عبد المطلب.
لا حول ولا قوة إلا بالله خسارة فادحة، وخطب عظيم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكن متمسكًا بتقاليد آبائه وأجداده، وكان من القليلين الذين يرتبطون بالحق لا بقائل الكلام، فالرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال، فهو يعلم أن الحق قد يأتي على لسان رجل شاب من قبيلة أخرى، وقد لا يأتي على لسان مُعَمّر خبير ولو كان أبوه أو جده، كما أن الله مَنّ عليه بأبيه وأمه أحياء عند ظهور الدعوة الإسلامية، فما زالت هناك الفرحة عند دعوتهما إلى الحق، وبذلك لا تسفه أحلامهما، وقد تم له بفضل الله ما أراد وما استراح إلا وقد أدخل أبويه وأولاده وزوجاته في هذا الدين، فاعرض كل تقليد أو موروث من الآباء والأجداد على الحق، فإن اتفق فبها ونعمت، وإن خالف، فلا تعدل بشرع الله شيئًا.
تاسعًا: بعض الناس يفتنون بالديانة القديمة، ويعتقدون في صحتها، وفي نبل القائمين عليها، هذا الذي صد بعض النصارى مثلًا، فهم قد غالوا في المسيح جدًا حتى جعلوه إلهًا، أو ابن الله، تعالى عما يصفون، ومن ثم فهم لا يتخيلون أن يأتي رجل، أو تأتي دعوة ترد هذا الإله المعبود إلى عبوديته، وترد هذا الرب إلى بشريته، فكانت الحرب التي لا هوادة فيها.
أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأي شيء يُعَظّم؟
أيُعَظّم اللات؟
أيعظم العزى؟
أيعظم هبل؟
ألهم تاريخ يشهد لهم بالاحترام والتقديس؟
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما سجد لصنم قط في حياته سواء قبل إيمانه أو بعد إيمانه، بل كان دائم الازدراء لهذه الأحجار، ويعلم علم يقين أنها ليست آلهة، فكيف ينفع غيره من لا يستطيع نفع نفسه؟
فكانت دعوة الإسلام لأبي بكر خلاصًا من دين ثقيل على النفس، وراحة لقلب شك طويلًا في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
عاشرًا: من العوائق الهامة عند بعض الناس، أو عند كثير من الناس انغلاق الفكر، وضيق الأفق، وغياب الفطنة والذكاء، والحقيقة إنني اعتبر الكافر إنسانًا غبيًا شديد الغباء بكل ما تحمله الكلمة من معان، حتى وإن كان في ظاهره عالمًا أو حكيمًا أو فيلسوفًا إذ كيف لا يهديه ذكاؤه إلى أن خالق هذا الكون بما فيه هو إله حكيم قدير ليس كمثله شيء، دائمًا ما تأتي آيات التدبر والبحث لأولي الألباب والعقول والنهي:
[إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19}.
[أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ] {الأعراف:184} .
[قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] {سبأ:46} .
كيف يعقل أن الحجر الأصم خلق، وصور، وهدى، ورحم، وعاقب، ورزق، ونجّا؟
كيف يعقل أن بقرة تشرع أو أن شجرة تحكم وتدبر؟
الكافر شديد الغباء، هذا الذي منع مثلًا رجلًا مثل حبيب بن عمرو الثقفي من زعماء ثقيف في الطائف، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك.
وكأنه لا يستطيع التفكير وما قاده عقله القاصر إلا إلى هذا الجهل المُطبق.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس كذلك، بل هو حاد الذكاء تمامًا وكثيرًا ما كان يلتقط ببساطة ما يذهب عن ذهن الجميع، اتسم بذكاء فطري، وعبقرية فذة، إذا كان يلتقط الصعب من الأمور، أفلا يلتقط أن لهذا الكون خالقًا؟ وأن محمدًا رسول؟
حادي عشر: الجبن والخوف الشديد إلى درجة الهلع يمنع كثيرًا من الناس من تغيير المألوف، الجبن يمنع كثيرًا من البشر أن يظهروا آراءهم، أو يعبروا عن أفكارهم، وكم من قضية ماتت بسبب جبن أصحابها، وكم من حق ضاع بسبب جبن طلابه، أبو بكر أشجع الصحابة وأقواهم شكيمة، ما نكص على عقبيه منذ أسلم، ولم يؤثر عنه فرار ولا خضوع ولا فتور، فلما عرض عليه الإسلام، ورأى الحق فيه ما خاف من أحد، ولا اعتبر بالجموع التي ستواجه الدعوة حتمًا، والإسلام قرار جريء، ويحتاج إلى رجل جريء وكان أبو بكر رضي الله عنه ذلك الرجل.
ثاني عشر: الانغماس في الشهوات أيضًا من الموانع المعروفة للدعوات الإصلاحية، فصاحب الشهوات لا يريد أن ينقطع عنها، ولا يريد أن يبتعد عنها ولو إلى فترة قليلة
[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] {مريم:59}.
هكذا الذي جعل من نفسه تابعًا للشهوات لا بد أن يضيع الصلاة، ومن أضاع الصلاة كان على إضاعة غيرها أقدر، بل إنه الله يجعل طائفة من الناس وكأنهم يعبدون هواهم وشهواتهم، اسمع إلى قوله عز ووجل:
[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {الجاثية:23} .
هذا الرجل الغارق في الشهوات المنغمس في المعاصي يكون بعيدًا تمامًا عن الدعوات الأخلاقية الفاضلة.
أبو بكر لم يكن من هذه الطائفة، بل على العكس، إنه من خيار الناس أخلاقًا حتى قبل إسلامه، ويعظم من شأن الفضائل والمكارم، وما طعنه طاعن بشيء في أخلاقه، حتى بعد إسلامه ومعاداته للكفر والكافرين، ودعوة الإسلام هي دعوة الأخلاق العظمى في الأرض، والداعي إليها صلى الله عليه وسلم أكمل البشر أخلاقًا، قبل وبعد البعثة، ولا يخفى ذلك على أحد، وكان الجميع يعلم أن هذه الدعوة هي دعوة أخلاق، حتى قبل التحريم الكامل للخمر، والزنا، والربا، وغيرها من الفواحش، ها هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطب النجاشي ملك الحبشة في العام الخامس من البعثة يصف أخلاق الإسلام:
أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله وحده؛ لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، .
إذن الدعوة الإسلامية أخلاقية منذ اللحظات الأولى لها، ورجل له أخلاق الصديق لا بد أن يستجيب لهذه الدعوة.
ثالث عشر: من الموانع الخطيرة للدعوات الإصلاحية التعود على الذل.
يكون المرء ذليلًا لا يستطيع الحراك إلا بإذن الذي يسقيه الذل والهوان، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان عزيزًا في قومه، صاحب رأي وشرف ومكانة، فكان يأخذ رأيه بإرادته، لا يمليه عليه أحد، والإنسان الذليل ليس بالتبعية أن يكون عبدًا، فكم من العبيد كانت لهم نفوس حرة، وكم ممن يظنون أنفسهم أحرارًا هم أذلاء لغيرهم، هذا بلال العبد يأخذ قراره بنفسه وينخرط بسرعة في فريق المؤمنين، وهذا على الجانب الآخر وفد بني شيبان، وهو على درجة عالية من المكانة والعز والشرف بين العرب يرفض الإسلام لماذا؟
لأنهم أذلاء لفارس، يسكنون بجوار فارس، ومع عزتهم الظاهرة إلا أنهم لا يأخذون قرارًا ولا يقطعون رأيًا يغضب الأسياد الفارسيين، وقالوا:
إن هذا الأمر- أي الإسلام- مما تكرهه الملوك.
ولذلك أجلوا إسلامهم سنوات وسنوات؛ ولذلك نلاحظ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا إلى هرقل عظيم الروم، كان مما قاله فيها صلى الله عليه وسلم:
أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. كما جاء في البخاري.
وفي رسالة كسرى فارس قال صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ.
فشعوب الروم وفارس كانت ذليلة، لا تأخذ قرارا إلا بعد رأي الأسياد، حتى لو كان القرار قرار جنة أو نار.
رابع عشر: دعوة الإسلام دعوة رقيقة لطيفة حانية، تمس القلب، وتربت على الكتف، وتسمو بالروح، وقلوب العباد متفاوتة، فمنهم من له قلب ألين من الحرير، ومنهم من قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة، ولا شك أن غليظ الطباع، قاسي القلب، جافي النفس، سيكون بعيدًا عن هذا الدين، ولا شك أيضًا أن أبا بكر الصديق لم يكن كذلك، وتحدثنا كثيرًا عن رقته وعاطفته الجياشة ودموعه القريبة، ورجل كهذا لا بد أن يدخل الإيمان في أعماق قلبه، ولا بد أن يتأثر بكلمات الرحمن عز وجل، ولا بد أن يتأثر بكلام حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم:
[اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] {الزُّمر:23}.
فإذا بدأت فابدأ برقيق القلب، ليّن الجانب، واتل عليه كتاب الله، وسترى عجبًا.
خامس عشر: بعض الناس يعاني مرضا خطيرا لا يرجى في وجوده تغيير ولا إصلاح، بل يقعده هذا المرض حتى يرى كيف تسير الأمور؟ ثم يسير معها أينما سارت، ذلك المرض هو السلبية، السلبية تقعد بصاحبها عن كل خير، فلا يفعله إلا إذا فعله الناس، ويصبح بذلك رجل إمعة، كهذا الذي صوره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث له رواه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه:
لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا.
فالرجل الإمعة هذا لا يصلح إلا أن يكون تابعًا، وهي صفة من صفات المنافقين
[الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141} .
هذه السلبية هي التي صدت رجلًا عاقلًا مثل عتبة بن ربيعة، فإنه لما سمع كلام الله عز وجل على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعًا يتحدث عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام، قال:
سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.
فماذا كان نتيجة هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وماذا فعل بعد العلم، اقرأ إليه وهو يعرض رأيه، يقول عتبة بن ربيعة:
يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
فالرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام بشر، ومع ذلك فرأيه الذي يظنه حكيما أن تخلي قريش بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب، فإن انتصر العرب عليه فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصبهم أذى، وإن انتصر محمد صلى الله عليه وسلم على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا:
سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
فماذا فعل؟
ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي أدرك صدق الرسالة؟
قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، فإذا بعتبة بن ربيعة يحمل سيفه، ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلًا تيقن أنه نبي، أي سلبية، وأي إمعية، هذا الطراز الفاشل لا يصلح للدعوات المصلحة.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه على طرفي النقيض من عتبة بن ربيعة، فليس في الإسلام رجلًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ظهرت إيجابيته في كل مواقفه رضي الله عنه، ظهرت في إسلامه، وفي إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة مكة، ثم المدينة، وفي إعداده للهجرة، وفي ثباته في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت إيجابيته عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت في حروب الردة وفارس والروم، وفي جمعه للقرآن، ظهرت إيجابيته في مساعدة الفقراء والمحتاجين وكبار السن من عامة المسلمين، كان رضي الله عنه وأرضاه نبراسًا لكل مصلح، ودليلًا لكل محسن، وما معروفًا إلا وأمر به، ولا رأى منكرًا إلا وحاول تغييره بكل طاقاته، بيده، ولسانه، وقلبه؛ لذلك شق عليه كثيرًا أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية من آيات الله عز وجل على غير معناها الصحيح، لقد سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} .
ظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنوا أن الله يقول لهم: عليكم أنفسكم؛ أي اهتموا بأنفسكم فقط لا يضركم ضلال الآخرين فلا تهتموا بهم.
والأمر على خلاف ذلك تمامًا، وقف أبو بكر رضي الله عنه ليصحح لهم الفهم، وليصلح فهم الطريق، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} .
وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ يُوشِكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ. روى ذلك أصحاب السنة، والإمام أحمد، وابن ماجه، وهكذا فإن الرجل الإيجابي العظيم كان ولا بد أن يسعى للتغيير، والإصلاح إذا وجد المنهج القويم المعين على ذلك، وقد وجد ضالته في الإسلام فما تردد ولا تأخر.
سادس عشر: كثيرًا ما يقتنع الرجل بفكرة، أو قضية، أو موضوع، ثم إذا به يُصَد عنها بصحبته السيئة، فكما روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ.
كثيرًا ما رأينا في فترة مكة مجموعات من الأصدقاء تؤمن أو مجموعات من الأصدقاء تكفر، فالرجل يتأثر بأحبابه وأصحابه، رأينا مثلًا رجلًا عاقلًا ذكيًا لبيبًا مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه يتأخر الإسلام عشرين سنة كاملة، فمَنْ أصحابه المقربون؟
عمرو بن العاصي رضي اله عنه، ظل أيضًا عشرين سنة كافرًا،
وعثمان بن أبي طلحة ظل أيضًا كافرًا عشرين سنة، والثلاثة من أصحاب الذكاء والفطنة والمروءة والنجدة، لكن اجتمعوا على باطل، فأضل كل واحد منهم صاحبيه، وتعاهدوا على ذلك، ثم سبحان الله بعد السنوات الطوال، يدخل الإيمان تدريجيًا في قلب أحدهم فيسري بسهولة إلى الآخر، ثم إلى الثالث، ثم إذا بهم يذهبون للإسلام على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم واحد في السنة السابعة للهجرة، وذلك ليثبتوا قيمة الصحبة، وقيمة الأخلّاء فلما كانوا على الكفر تعاهدوا عليه، ولما أشرف الإيمان في قلوبهم أيضًا تعاهدوا عليه.
مثال آخر: هو أبو البَختري بن هشام، وكان من المشركين، لكنه لم يكن يؤذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على العكس كان من الذين قاموا لنقض صحيفة المقاطعة المشهورة، ولكونه كف الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله يوم بدر، فقابله أحد الصحابة المجذر بن زياد البلوي، فوجده يقاتل بجوار صديق له، فقال:
يا أبا البختري، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك.
فقال: وزميلي؟
فقال المجذر:لا والله ما نحن بتاركي زميلك.
فقال: والله لأموتن أنا وهو جميعا.
ثم اقتتلا فاضطر، المجذر إلى قتله، فهذه صداقة كافرة قادتهما إلى موت على كفر، ولو لم تكن الصداقة لنجا أبو البختري، ولكن اختياره لأصدقائه كان سببًا في هلاكه.
أصدقاء الصديق رضي الله عنه
[ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا] {التوبة:40} ..
صاحبه الأول حتى قبل الإسلام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى به صاحبًا، ثم أصحابه الآخرون عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله، وغيرهم من أبطال الإسلام، هؤلاء هم أصحابه قبل الإسلام، إذن رجل أحاط نفسه بدائرة من أصحاب كهؤلاء، لا بد وأن يسهل عليه أمر الإيمان، ولو صاحب الأراذل من الناس لصدوه عن الفضائل، روى البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.
سابع عشر: من الصفات الذميمة التي كثيرًا ما صدت أقوامًا عن دعوة الإسلام صفة الجَدَل، والجدل لا يهلك الأفراد فقط، بل يهلك الأمم، والمجادلون قوم فتنوا بعقولهم، فآثروا أن يستمروا في حوار لا ينقطع، غالبًا لا ينبني عليه كثير عمل، ويخرجون من نقطة إلى نقطة، ويناقشون من زاوية، ثم إلى زاوية أخرى، وليس في العزم اتباع الحق، وليس في النية الاهتداء إلى سواء السبيل، اقرأ وصف القرآن للمجادلين من أهل قريش: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] {الأنعام:25} .
وصورة أخرى من الجدل:
[وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا]. {الإسراء:49، 50}.
صورة أخرى عقيمة من الجدل:
[وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا] {الإسراء 93}.
صورة مكررة من الجدل والنقاش والحوار ليس من ورائها طائل، وحتى لو تحقق ما يطلبون، فسيأتون بشبهة جديدة وسؤال عقيم آخر:
[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ] {الحجر:14، 15}.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كما وصفه مقربوه كان سهلًا لينًا هينًا، كان رضي الله عنه قليل الجدل، قليل السؤال، بل قليل الكلام، كان يضع أحيانًا حصاة في فيه، فإذا أراد أن يتكلم رفعها ليتكلم، وذلك حتى لا يتكلم كلما اشتهى الكلام، بل يفكر أولًا، ما إن عُرض عليه الإسلام حتى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله ما جربت عليك كذبا، وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك، وحسن فعالك، مد يدك فإني مبايعك، وموقفه في حادث الإسراء موقف لا ينسى، مواقفه جميعًا رضي الله عنه كانت مبرأة من الجدل والمراء، فسَلِم وسلمت خطواته، وهكذا فالجدل من الصفات الذميمة التي تصد كثيرًا من الخلق عن طريق الهداية، وهي رسالة إلى كل الداعين إلى الله، أن اختبر من تدعوه فإن كان ممن تمرسوا على الجدال، ورغبوا فيه، فكن كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكن كعباد الرحمن الذين وصفهم الله عز وجل: [وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63} .
ثامن عشر: البخل والشح من الصفات التي تبتعد بصاحبها عن دعوة الإسلام، الرجل الشحيح يعلم أن هذه الدعوة الجديدة ستحتاج إلى حماية ورعاية وتضحية وإنفاق، وهو لذلك يفكر ألف مرة، قبل أن يرتبط بهذه الدعوة، ولذلك فالشح قد يؤدي بالرجل إلى التهلكة، وتكون التهلكة باستبداله بغيره:
[هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُ |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #4موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:19 pm | |
| آبو بكر الصديق ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] بل إن الشح قد يهلك أمة، روى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهَمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
فالشح قد صد اليهود مثلًا عن الإيمان بهذا الدين:
[لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ] {آل عمران:181} .
قالوا هذا القول الفاحش لما سمعوا قول الله عز وجل:
[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] {البقرة:245} .
هم جُبِلوا على التضحية بكل شيء في سبيل المال، فكيف يرتبطون بدعوة تدعو إلى جهاد بالنفس والمال؟!
أمـا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان مجبولًا على حب الإنفاق، وعلى حب العطاء، وليس في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو أكرم من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومواقفه في ذلك لا تحصى ولا تعد.
وكان هذا العطاء قبل وبعد الإسلام، وقبل وبعد الهجرة، وقبل وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل وبعد استخلافه، وحتى آخر لحظة في حياته، رجل جُبِل على الكرم، وهذا الصنف من الرجال لا تكفيه الاستجابة فقط لدعوات الخير، بل يسعى ويكد ويجتهد، حتى يرتبط بمثل هذه الدعوات.
تاسع عشر: دعوة الإسلام هي دعوة لكل الأجيال والأعمار، هي دعوة للصغير والكبير والشاب والشيخ، لكن مما لا شك فيه أن أنسب الأعمار لتحقق الإجابة هي الفترة المتأخرة في سن الشباب، أقصد فترة الثلاثينات من العمر وأحيانًا العشرينات من العمر، وذلك أن الشيخ الكبير يكون مطبوعًا على عقائد معينة، وأفكار خاصة من الصعب أن تغيرها، وأحيانًا يعتاد أشياء خاطئة، ثم يعلم أنها خاطئة فلا يستطيع تصحيحها، وهذا واقع نشاهده وندركه، والشاب الصغير كثيرًا ما يكون طائشًا في تصرفاته، متسرعًا في أحكامه، تنقصه الخبرة اللازمة، والرأي الحكيم، ثم إنه قد يكون ملتفتًا إلى شهواته، وملذاته، منصرفًا عن من ينغص عليه هذه الشهوات والملذات، وفوق ذلك فإنه في الغالب ما يكون تابعًا لرأي والده وعائلته، وبالذات في المجتمع القبلي المعتز بالآباء والأجداد، أما الرجل البالغ في متوسط العمر فإنه قد تجاوز مرحلة الطيش والشهوات والاتباع، وأصبح يقود نفسه وعائلته، وتكون قد حنكته التجارب فيحكم الرأي، ويصيبه، ومن الناحية الأخرى فهو لم يبلغ من العمر أرذله بحيث تصده السنوات الطوال عن التغيير والإصلاح، أبو بكر الصديق أسلم وهو في الثامنة والثلاثين من العمر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين من العمر، وهو سن يجمع بين كل الخير، ففيه حماسة الشباب وطاقتهم، وفيه أيضًا حكمة الشيوخ وخبرتهم، فلم يكن عجيبًا أن يأخذ قرارًا هامًا مثل قرار دخول الإسلام إذا رأى فيه خيرًا، دون انتظار لرؤية والد أو كبير، يظهر هذا في حواره مع أبيه بعد ذلك، وقد أسلم الابن أبو بكر الصديق، وظل الوالد فترة كبيرة دون إسلام، فمع اختلاف العقيدة لم يكن الأب يلوم عليه كثيرًا في إسلامه، ولم يكن يعنفه أو يعذبه، مثلما فعلت القبائل الأخرى مع شبابها، بل كان يبادله الرأي، وينصحه، فمثلًا ينصحه مرة أن يعتق الرجال الأشداء من العبيد بدلًا من إعتاق الضعفاء حتى يحمونه، ومرة ينصحه بترك مال للأولاد، ولا ينفقه كله في سبيل الله، نعم وجهات نظر مختلفة عن وجهة نظر الصديق رضي الله عنه، لكنه لم يكن يفرض عليه رأيًا، أو يجبره على فعل، فقد صار الصديق رجلًا حكيمًا عاقلًا، قد يحتاج إلى مشورة، ولكنه لا يحتاج إلى إكراه أو إرغام، وسبحان الله، فإن سن الأربعين هذا هو غاية النضج والرشد، وفيه تكتمل جميع الطاقات، ويصبح الإنسان قادرًا على التفكر والتدبر والرجوع إلى الصواب، والاستقامة على المناهج السليمة، وقد بين الله ذلك في كتابه عندما قال:
[حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ] {الأحقاف:15} .
بلوغ الأشد، وهذا الكلام العاقل الرزين، وهذه العودة إلى الله أقرب ما تكون عند سن الأربعين وما حولها، يقول ابن كثير:
[وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً] {الأحقاف:15} أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه.
وأبو بكر لم يختر أن تنزل الرسالة، وهو في سن الثامنة والثلاثين قريبًا من الأربعين، ولكن الله اختار ذلك، فكما صنع محمدًا على عينه سبحانه، وهيأه للرسالة، وهو في الأربعين من عمره، فإن الله أيضًا اصطفى من الخلق من يصلح أن يكون صاحبًا لهذا الرسول، وخليفة من بعده، فهيأه منذ خلق، وولد؛ ليكون في هذا العمر وقت نزول الرسالة
[صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] {النمل:88}.
عشرون والأخيرة: إذا توافقت بعض صفات الفرد مع فرد آخر، فإنه ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين، وكلما زادت التوافق كلما ازداد التجاذب، حتى يصل إلى حد أن يكون الفردان روحًا واحدة في جسدين، فيفرح أحدهما فرحًا حقيقيًا لفرح الآخر، ويحزن أحدهما حزنًا حقيقيًا لحزن الآخر، ويألم أحدهما حقيقة لألم الآخر، حالة كهذه تفسر أن يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل يدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع كون هذا الرأي محارَبًا من عامة الناس، ذلك أنه أصبح دون تكلف، ولا افتعال كرأيه تمامًا، ولا أحسب أن رجلًا في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالطبع فالمقصود هو الشبه في الأخلاق والأفعال لا في الصور والأجساد، ألا يلفت الأنظار أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل البعثة وبعدها هي صفة الصدق، والأمانة، فعُرف بالصادق الأمين، ثم تجد أن الصفة الرئيسية التي اشتهر بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه هي أيضًا صفة الصدق حتى عرف بالصديق، بل كان عمله في الجاهلية كما سيأتي شرحه إن شاء الله هو ضمان الديات والمغارم، وهو عمل يحتاج إلى صدق وأمانة، ألا يلفت هذا الأنظار إلى شخصيتين متقاربين جدًا، حتى في غلبة صفة معينة على لقبهم الذي يشتهران به، فيعرف هذا بالصادق الأمين، وهذا بالصديق، بل أعجب من ذلك، لما نزل الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عاد مذعورًا إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وهو يقول:
زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي.
ثم أخبر خديجة بالخبر، وقال لها:
لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.
فقالت خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا.
ثم بدأت تصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا قالت؟
قالت: إنك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
هذه هي المبررات التي قالت من أجلها السيدة خديجة إن الله لا يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي جميعًا صفات تختص بعلاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمجتمع الخارجي، وعلاقاته بالناس، وهي أساس الدين.
احفظ هذا الموقف، وتعال نراجع ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجرًا إلى الحبشة، فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي.
هنا قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله.
لماذا في رأي ابن الدغنة لا يجب أن يخرج ولا يخرج رجل مثل أبي بكر؟ يبرر ذلك فيقول:
إنك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
سبحان الله، نفس الخمس صفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيرًا سرعة تلبية الصديق لدعوة الإسلام، فالدعوة وكأنها أنزلت عليه لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحركته لها ستكون في حماسة قريبة جدًا من حماسة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نجد شخصًا فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي كان بين الصاحبين الجليلين مما يؤكد أن الله كما اختار محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.
ثم من فضل الله على الأمة أن استخلف أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان امتدادًا طبيعيًا جدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع عظم الخطب بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الاستخلاف بالصديق هون كثيرًا من المصيبة على المسلمين.
إذن نقول: إن موانع الاستجابة لدعوة الإسلام لم تكن موجودة عند الصديق رضي الله عنه، بل على العكس كانت لديه دوافع كثيرة لسرعة التلبية، عددنا منها عشرين أمرًا، ولعل هناك أكثر من ذلك، والأمر مفتوح للبحث؛ لأن الحدث كبير، ويحتاج إلى وقفات كثيرة، وتحليلات أكثر.
كانت هذه الفقرة السابقة بكاملها، وهي فقرة سبقه إلى الإسلام عبارة عن نقطة من النقاط التي تثبت الصفة الثالثة من صفات الصديق رضي الله عنه الأساسية التي نتحدث عنها، وهي صفة السبق والحسم وعدم التسويف، وإن كان السبق إلى الإسلام حدثًا هامًا لا يغفل، فالسبق في حياة الصديق رضي الله عنه كان علامة مميزة له في كثير من المواقف الأخرى، بل لعله كان حريصًا ألا يُسبق في أي مجال من مجالات الحياة، تشعر وأنت تقرأ سيرته أنه قد اتخذ في حياته شعارًا واضحًا: [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] {طه:84} .
فكأنه رضي الله عنه وأرضاه دائم العجلة إلى الله عز ووجل.
نذكر هنا بعض الأمثلة الأخرى التي تساعد في فهم معنى السبق في حياة الصديق رضي الله عنه، وإن كان من المستحيل حصر كل الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها:
سبقه إلى الاطمئنان على إيمانه
حرصه، وسبقه، وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى عقيدته، وهذا كلام قد يتعجب له الكثير، قد نفهم أن نعرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة؛ لغرابتها، ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيمانًا وأمنتهم عقيدة، فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه، هل من الممكن أن يشك أحد في هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة، اسمع إلى هذه القصة العجيبة:
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ربعي حنظلة بن ربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال:
كيف أنت يا حنظلة؟
فالصديق رضي الله عنه يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي: كيف أنت؟ لكن حنظلة رضي الله عنه فاجأ الصديق بإجابة غير عادية، إجابة غريبة، قال:
نافق حنظلة.
نافق حنظلة؟! حنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه، تعجب الصديق رضي الله عنه، وسارع يقول:
سبحان الله، ما تقول؟
فبدأ حنظلة رضي الله عنه يفسر كلماته العجيبة وقال:
نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة، والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا.
يقصد أنهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثرون كثيرًا بالكلام عن الجنة والنار، حتى وكأنهم يرونها عيانًا بيانًا، ومن المؤكد وهم في هذه الحالة يعتزمون أن لا يفعلوا شيئًا في حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا، فيفردون الأوقات الطويلة في الصلاة والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد تام في الدنيا وقناعها، لكن سبحان الله إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني لاعبنا وتعاملنا مع الأزواج، والأولاد، والمعايش المختلفة، عند هذه الحالة الأخيرة ينسون كثيرًا مما سمعوه من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هذا التباين في حالتهم في مجلس العلم، وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقًا، وهذه ولا شك حساسية مفرطة وتحرٍ عميق لقضية الإيمان، وكان من المتوقع من أبي بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة، ويوضح له أن ذلك يعتبر شيئًا طبيعيًا، فمن المستحيل على المرء أن يظل على حالة إيمانية مرتفعة جدًا دون هبوط، ولو قليل، كان من المتوقع من هذا الصديق رضي الله عنه الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحًا والمقدم على غيره دائمًا، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برباطة جأش، وثبات قدم، لكن الصديق رضي الله عنه رجل المفاجآت رضي الله عنه، وقف يحاسب نفسه بسرعة، عقله لا يتوقف عن مساءلة نفسه، وقلبه لا يطمئن على عظيم إيمانه، حاسب نفسه بصراحة ووضوح فكانت المفاجأة العظمى أن قال:
فوالله إنا لنلقى مثل هذا.
سبحان الله، أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ليس إيمانًا عاديًا، بل إيمان كإيمان أمة، أو يزيد، والمشهود له بالتقوى من الله عز وجل، حيث قال في حقه:
[وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى] {الليل:17} .
يقصد أبا بكر، هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقًا، ومع أن الخاطر عجي ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تمامًا لرجل في مكانته أن يطرد هذه الأفكار بسرعة، إلا أن الصديق ليس كذلك، الصديق يسبق إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاطمئنان على قضية الإيمان، يقول حنظلة رضي الله عنه:
فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم هنا سارع حنظلة يقول:
نافق حنظلة يا رسول الله.
فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
وَمَا ذَاكَ؟
قال حنظلة:
يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، كأنا رأي العين،فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا.
هنا يتكلم الطبيب الماهر، والحكيم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأني الحظ على وجهه ابتسامة رقيقة وبشرًا في أساريره وحنانًا في صوته بأبي هو وأمي، وهو يقول في هدوء وتؤدة:
والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكِمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً.
ثلاث مرات.
ومن المفهوم يقينًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد ساعة طاعة وساعة معصية كما يفهم كثير من الجهال أن هناك ساعة لله، وساعة يخرجون فيها عن منهجه وشرعه، لكن المقصود هو ساعة تفرغ وخلوة واجتهاد في الطاعة، وساعة أخرى تفرغ لأمور الدنيا الحلال، والذي يطالب الإنسان بها أيضًا في شرع الله كرعاية الأزواج والأولاد، ومتابعة أسباب الرزق واللهو الحلال، والنوم الذي لا يضيع صلاة، وغير ذلك من أمور الحياة المختلفة.
الشاهد اللطيف في القصة هو حرص الصديق على قضية الإيمان مع أنه كان من الممكن أن ينتظر حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة من الصلوات، لكنه سارع إليه مطبقًا شعاره
[وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] {طه:84}.
سبقه إلى الدعوة
وسبحان الله، إن كان عجيبًا سبق الصديق إلى الإسلام، فلعل الأعجب من ذلك سبقه إلى الدعوة إلى هذا الدين، وحماسه لنشره وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في تبليغ ما علم من الرسول صلى الله عليه وسلم مع قلة ما علمه.
سَبَق الصديق إلى الدعوة إلى هذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول لدعوته بمجموعة من الرجال قَلّ أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل بألف رجل أو يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة هم:
عثمان بن عفان.
الزبير بن العوام.
سعد بن أبي وقاص.
طلحة بن عبيد الله.
عبد الرحمن بن عوف.
ما هذا؟! هؤلاء الخمسة، صناديد الإسلام، وعباقرته، أتوا جميعًا على يد الصديق؟ نعم، صِدْق، فهو الصديق، والحدث عظيم، ويحتاج إلى وقفات، فبتحليل إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجبًا:
الملحوظة الأولى:
ليس من هؤلاء أحد من قبيلة بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من قبائل أخرى فعثمان بن عفان أموي، من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف من بني زُهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كان له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة بكثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام، وهذا ولا شك أساس من أسس الدعوة.
الملحوظة الثانية:
أن أعمار هذه المجموعة كانت صغيرة جدًا، وبعيدة عن عمر الصديق، فالزبير بن العوام رضي الله عنه كان في الخامسة عشر من عمره، ومع ذلك لم يستقله أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأَسَرّ له بهذا السر الخطير، سِرّ دعوة الإسلام في بلد لا محالة ستحارب هذه الدعوة، في الخامسة عشر من عمره، هذا يعني أنه في سن ولد في الصف الثالث الإعدادي في زماننا، يعني الزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وتغيير الدين ومحاربة أهل مكة جميعًا وهو في الإعدادية، ويبدو أن تربيتنا لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا ينظر إلى ابنه في الجامعة، وبعدها على إنه صغير لا يتحمل مسئولية، ولا يأخذ قرارًا بمفرده، وطلحة بن عبيد الله كان أكبر من ذلك قليلًا، وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان في السابعة عشر من عمره، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نحو ذلك أيضًا، وكان أكبرهم هو عثمان ن عفان، ويبلغ من العمر آنذاك حوالي الثامنة والعشرين.
إذن أبو بكر الصديق قبل الإسلام كان له علاقات طيبة مع كل طوائف مكة على اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر في تبليغ الدعوة بلغها للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف، وحسن السيرة، فكان لهم بمثابة الأستاذ لتلامذته، سمعوا له، واستجابوا، فكان خيرًا له ولهم، وللإسلام، والمسلمين، وهي إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدرًا أكبر وأعظم للشباب، فعلى أكتافهم تقوم الدعوات.
الملحوظة الثالثة:
أنه بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول، وهذا المجهود الوافر، ما فتر حماسه، وما كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم، أتى بأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرون عامًا، وجاء أيضًا بالصحابي الجليل عثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم أتى بالأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد وهما من بني مخزوم، وما أدراك ما بنو مخزوم، هي قبيلة تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أثر عليهما حتى يأتي بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟
هذا أمر لافت للنظر ولا شك، ومن الواضح الجلي أن الصديق رضي الله عنه كان قريبًا من قلوبهم إلى درجة أقرب من القبيلة والعنصرية والعصبية وحمية الجاهلية، وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان، ومن الجدير بالذكر أن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه والذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدون فيه لقاءاتهم ويتعلمون فيه دينهم بعيدًا عن عيون مكة، ومعرضًا نفسه لخطر عظيم وخطب جليل، جدير بالذكر أن هذا البطل المغوار والمغامر الجريء كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا فقط، ولا تعليق.
الملحوظة الرابعة:
أن ستة من الذين دعاهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه للإسلام من العشرة المبشرين بالجنة، وهم صفوة الصحابة وخير الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرون أيضًا من أهل الجنة إن شاء الله فهم من السابقين السابقين، وإن العقل ليعجز أن يتخيل حجم الثواب الذي حصله أبو بكر الصديق من جراء دعوته لهؤلاء وغيرهم، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْآثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.
وكما قال أيضًا صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري:
مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ.
فتدبر يا عبد الله في أفعال العظماء الذين أتى بهم الصديق رضي الله عنه، تدبر في أعمال عثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وأبي عبيدة، والأرقم، وأبي سلمة، وعثمان بن مظعون، ثم سيأتي بعدهم آخرون أمثال بلال، وعامر بن فهيرة، وغيرهم، تدبر في ذلك، وأعلم أن أجور هؤلاء جميعًا، ومن هداهم الله على أيديهم، كل هذا في ميزان الصديق رضي الله عنه وأرضاه، حتى تعلم عظم الدعوة إلى الله، وشرف العمل الذي وكله الله للأنبياء ومن سار على نهجهم
[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}. تدبر في كل هذا، ثم تدبر في مجهوداتنا لهذا الدين، هذا الصديق أتى بهؤلاء، وحمل معه أجور هؤلاء، فمَن مِن البشر أتينا به إلى طريق الله، وكم من الأجور حملنا معنا في ميزاننا، سؤال لا بد أن نقف مع النفس وقفة لإجابة، ونسأل الله أن يسدد خطانا ويبصرنا بما يصلح ديننا ودنيانا وأخرتنا.
نعود إلى بطلنا الصديق رضي الله عنه، ونتساءل لماذا استجيب لدعوته بهذه السرعة؟
ولماذا أحبه قومه لهذه الدرجة؟
اسمع كلام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وهو يصف أبا بكر الصديق، ولاحظ أن هذا الوصف قاله طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يوم إسلامه، قال:
وكنت أعرف أبا بكر، فقد كان رجلًا سهلًا محببًا موطأ الأكناف.
أي لين الجانب، فها هي صفة أولى نلاحظها في كلام طلحة رضي الله عنه، فالصديق كان سهلًا محببًا إلى القلوب، كان لينًا مع الناس رفيقًا بهم، كان حنونًا عطوفًا رحيمًا، ورجل بهذه الصفات لا بد أن يحبه الناس، وصدقت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تصف المؤمن فتقول:
الْمُؤْمِنْ مُؤْلَفٌ وَلَا خَيْرٌ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ.
روى ذلك الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وروى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها أنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
ونكمل الاستماع إلى وصف طلحة رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:
وكان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
وهنا أيضًا نلاحظ سمات لا بد أن تجذب القلوب لصاحبها، الصديق كان تاجرًا، وكان كثير الأموال، وكان رجلًا معطاءً، كثير العطاء، والناس بطبعها تحب مجالسة الرجل الذي ألف العطاء، وألف السخاء، وإن كانوا لا يريدون منه مالًا، فعلى الأقل هو لن يطلب منهم شيئًا، والناس أيضًا بطبعها تنفر من الذين يطلبون منهم شيئًا، ويستقرضونهم في كل مناسبة، ومن ثم فلا عجب أن أهل مكة كانوا يحبون مجلس الصديق رضي الله عنه، فوق ذلك يقول طلحة رضي الله عنه:
كان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
والتجارة والمال الكثير كثيرا ما يغيران من نفوس الناس، وكثيرًا ما يغش التاجر في تجارته، ويدلس على زبائنه، وكثيرًا ما يحلف على بضاعته بالكذب ليزداد ربحًا، والتاجر المستقيم صاحب الخلق لا بد وأن يكون محبوبًا، ولا بد أن يكون مقربًا لقلوب الناس، وبالتبعية، فإن الله يعظم جدًا من أجر التاجر المستقيم، روى الترمذي والدارمي وقال الترمذي: حديث حسن. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
فإذا كان التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقي فما بالك بالتاجر الصِّديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويكمل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه كلامه عن الصديق فيقول:
وكنا نألفه، ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش، وحفظه لأنسابها.
فها هي صفة جديدة تحبب الناس في الصديق، وكان لها أثرًا في استجابة الناس له، فالصديق كان عالمًا بالعلم الذي يفيد في زمانه، والعلم الذي يحتاجه أهل البلد، علم الأنساب كان رضي الله عنه أعلمهم بالنسب، وهذا أمر بالغ الأهمية في المجتمع المكي القديم، شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته بنت الصديق عائشة رضي الله عنها وجاء في صحيح مسلم أن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وفوق علمه بالنسب، فهو كريم الخلق، فلم يطعن في نسب أحد مهما علم فيه من مثالب ومساوئ، وهذا يجعله، ولا شك محبوبًا للناس جميعًا، وهي رسالة إلى كل الدعاة أن عليهم أن يتعلموا العلم النافع الذي يصلح بيئتهم ومجتمعهم، وأن لا يتكبروا بعلمهم على الناس، فذلك- كما علمنا الصديق- الطريق إلى قلوب العباد.
الملحوظة الخامسة:
والصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يكن حريصًا على أصدقائه ومعارفه على حساب أهل بيته، كثير من الدعاة ينفقون الساعات الطوال في دعوة الآخرين، ثم هم يقصرون تقصيرًا شديدًا في دعوة أهل بيتهم، مع أنهم سيسألون عنهم قبل الآخرين، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
الصديق رضي الله عنه كان راعيًا في بيته، وكان مسئولًا عن رعيته رضي الله عنه، أدخل في الإسلام زوجته أم رومان رضي الله عنها، وزوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأدخل أولاده عائشة، وأسماء، وعبد الله رضي الله عنهم أجمعين، ثم ما لبث أن أدخل أمه أيضًا في الإسلام بعد أن طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية، وتأخر ابنه عبد الرحمن عن الإسلام كثيرًا فقد أسلم يوم حديبية، فشق ذلك على أبي بكر وكان له موقف عجيب معه سيأتي شرحه لاحقًا إن شاء الله، وتأخر إسلام أبيه أكثر من ذلك، لكن ما نسيه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يوم فتح مكة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق رجلًا مسنًا طاعن في السن حتى قالوا كان رأسه ثغامة (والثغامة نبات أبيض يُشَبه به الشيب) فجاء به الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول الكريم المتواضع صلى الله عليه وسلم:
يَا أَبَا بَكْرٍ هَلَّا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَأْتِيَهُ.
فقال أبو بكر في أدب جم:
هو أولى أن يأتيك يا رسول الله.
فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّا نَحْفَظُهُ لِأَيَادِي ابْنِهِ عِنْدَنَا.
وهكذا فعائلة الصديق كلها مسلمة، بل لم تجتمع الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أجيال أربعة متعاقبة في عائلة واحدة إلا في عائلة الصديق رضي الله عنه، فالجيل الأول هو جيل أبو قحافة وزوجته والدا الصديق رضي الله عنه، والجيل الثاني هو الصديق رضي الله عنه وزوجاته، والجيل الثالث أولاد الصديق أسماء وعائشة وعبد الله وعبد الرحمن، والجيل الرابع هم أحفاد الصديق ولهم صحبة مثل عبد الله الزبير بن العوام ابن السيدة أسماء رضي الله عنها، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، فهذه العائلة المباركة بارك الله فيها، وعمت بركتها على أمة المسلمين جميعًا. سبقه في كل أعمال الخير
وكما رأينا سبقه رضي الله عنه وأرضاه في الإسلام والإيمان والدعوة، فإننا أيضًا نرى بوضوح سبقه رضي الله عنه في كل أعمال الخير، يروي لنا الإمام مسلم عن أبي هريرة، والبيهقي عن أنس والبزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر حديثًا يوضح لنا مثالًا لمسارعة الصديق رضي الله عنه إلى الخير، نذكر هنا رواية البزار؛ لأن فيها توضيحًا أكثر للموقف، يقول عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال:
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟
فقال عمر: يا رسول الله، لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطرًا. فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت صائمًا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هَلْ أَحَدٌ مَنْكُمُ الْيَوْمَ عَادَ مَرِيضًا؟
فقال عمر: يا رسول الله لم نبرح، فكيف نعود المريض؟
فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ، فجعلت طريقي عليه؛ لأنظر كيف أصبح؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ مِسْكِينًا؟
فقال عمر: صلينا يا رسول الله، ثم لم نبرح؟
فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا بسائل، فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها، ودفعتها إليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَنْتَ فَأَبْشِرِ بِالْجَنَّةِ.
ثم قال كلمة أرضى بها عمر، بل إن في رواية أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا فيقول:
فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟
فقال أبو بكر: أنا.
وفي نهاية الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
حقًا، من العسير والله أن تحصر مواقف السبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه فالسبق في حياته يشمل كل حياته، يلخص هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. يقول عمر:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا. فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟
قلت: مثله.
وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟
قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
فقلتُ - أي عمر - : لا أسبقه في شيء أبدًا. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #5موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:20 pm | |
| آبو بكر الصديق إنكـار الذات معناه: أن الإنسان لا يرى نفسه مطلقًا، ليس لنفسه حـظٌ في حياته، وإن كان حلالًا، وإن كان مقبولًا في عرف الناس، وفي الشرع، لكنه دائمًا يؤخر نفسه، ويقدم غيره. إنكار الذات معناه: أن تتخلص النفس من حظ النفس، فلا تهتم بثنـاءٍ، ولا مدح، ولا تنتظر أن يشار إليها في قول أو فعل. إنكار الذات معناه: أن تؤخر حاجات النفس الضرورية، وتقدم حاجات الآخـرين، حتى وإن لم تربطك بهم صلات، أو علاقات رحم، أو مصلحة، أو مـال. إنكـار الذات هو أعلى درجات السمو في النفس البشرية، تقترب فيه النفس من الملائكة، بل لعلها تفوق الملائكة، لأن الملائكة جبلت على الطـاعة، أما الإنسان فهو مخير بين الخير، والشر. ولعل أكثر مثل يوضح لنا إنكار الذات نجده في الأم، في تعاملها مع أولادها، وليس معنى إنكار الذات، أن الإنسان لا قيمة له، بل على العكس، فالمنكرون لذواتهم هم أعلى الناس قيمةً، وأرفعهم قدرًا، لكنهم لا ينتظرون من الناس مقابلًا لذلك. الأم مثلًا لا ترى نفسها أمام أولادها، قد تتعب، قد تـسـهر، قد تنفق، قد تـسـاعد، تفعل أي شيء، أي شيء، وهي سعيدة بذلك؛ لأنها أسعدت أولادها، ولا ترى ما أصابها من تعب أو سهر أو مرض، هذه هي الأم.بيد أن إنكار الذات عند المؤمن أعلى من ذلك، أعلى من ارتباط الأم بوليدها، لمـاذا؟ ذلك لأن الأم ترتبط بوليدها برابطة فطرية، طبيعية، كما أنها لا تنكر ذاتها إلا مع أطفالها، فقد لا تفعل ذلك مع جيرانها، أو معارفها، أو أقاربها، أو حتى مع زوجها، أمـا المؤمن الذي يفعل ذلك، فإنه ينكر ذاته في حياته كلها، مع القريب والبعيد، مع الأهل، وغيرهم، مع الأصحاب، وغير الأصحاب، بل قد يفعل ذلك مع من أخـطـأ في حقه وآذاه، صفة عجيبة حقًا ، صعبة، عالية جدًا، في أعلى درجات سلم الإيمـان.
| أين حظ النفس عند الصديق؟ | ولقد كان الصديق رضي الله عنه من أروع الأمثلة الإسلامية على صفة إنكار الذات، أنكر الصديق رضي الله عنه ذاته في حق الله عز وجل، فلا يأمره الله بشيء، ولا ينهى عن شيء، إلا امتثل، واستجاب، مهما كانت التضحيات، الصديق أنكر ذاته في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في إنكار ذاته مع الرسول لا تحصى، فهو لم يكن يرى نفسه مطلقًا بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصديق قد أنكر ذاته مع المؤمنين، حتى من أخطأ في حقه منهم، بل حتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة، المعروفة بين الناسابحث في حياة الصديق، ونَقّب، أين حظ النفس عند الصديق؟لا تجد، أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر من حبٍ للمال، وحبٍ للجاه، والسلطان، وحب للسعادة، وحب الظهور، بل حب الحـيـاة؟أين ذلك عند الصديق؟لن تجده أبدًا، مثال عجيب من البشر، وآية من آيات الرحمن في خلقه، ولعلنا نكتفي هنا بالمرور السريع على مثال من إنكار الصديق لذاته، ولعلنا نتوقف عند المـال مثلًا.أين حظ الصديق من ماله؟جبل الصديق رضي الله عنه على حب العطاء، حتى لتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء ويبحث عنه، وهذا شيء عجيب، فالإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حبًا شديدًا، قال عز وجل: [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا] {الفجر:20} .وقال: [قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا] {الإسراء:100} .أي شديد البخل وشديد المنع، الصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سَوّاه على هذه الصورة، فالصديق كان يحب الإنفاق حتى في الجاهلية قبل أن يسلم. عمله في ضمان الديات: كان رضي الله عنه قبل إسلامه مسئولًا عن ضمان الديات والمغارم في مكة، فإذا سأل قريشًا ضمانًا قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه، وهذا عمل خطير، فقد يتحمل الصديق دية رجل، ثم لا يوفي أهله، فيكون على الصديق قضاؤها، أي أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير من المال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس، وتحمل مغارمهم، إذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه، فما بالكم بعد أن أسلم؟ما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قدسيًا ينقله عن رب العزة عز وجل يقول فيه الله تعالى: انْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ؟وذلك كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ الصديق لا يحتاج إلى قسم الرسول صلى الله عليه وسلم ليصدقه، الصديق رضي الله عنه كان واضعًا نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي:إن كان قال فقد صدق.هكذا، مجرد القول يعني عنده التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمعه صلى الله عليه وسلم يقسم؟ |
| الصديق ينفق ماله كله في سبيل الله | هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لنا كثيرًا من مواقف الصديق رضي الله عنه، فالصديق رضي الله عنه شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة، التعذيب الشديد والتنكيل الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، تألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية المفرطة من الكفار مكة، وسارع بماله ينقذ هذا، ويفدي ذاك، يشتري العبد، ثم يعتقه لوجه الله، هكذا [لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا] {الإنسان:9} . مر رضي الله عنه ببلالٍ رضي الله عنه، وهو يعذب على صخور مكة الملتهبة، وعلى صدره الأحجار العظيمة، فساوم عليه سيده أمية بن خلف عليه لعنة الله، وعرض عليه أن يشتريه، أو يبادله بعبد آخر أجلد منه، وأقوى، وليس بمسلم، وفي رواية أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، ودار حوار رائع بين الصديق رضي الله عنه، وبين أمية بن خلف عليه لعنه الله، قال أمية يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق:لو عرضت عليَّ أوقية واحدة من الذهب لبعته لك.قال الصديق العظيم رضي الله عنه في هدوء: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لأشتريه.سبحان الله، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف، أمية بن خلف المشرك لا يدرك قيمة بلال، بعد أن أسلم، لكن الصديق رضي الله عنه يدرك ذلك، فهذا العبد الأسود القليل في نظر المشركين، وأهل الدنيا، هذا العبد ذاته ثقيل في ميزان الله عز وجل، بما يحمل في قلبه من إيمان وتوحيد وإسلام، هذه المعاني الرقيقة السامية لا يفهمها أهل المادة، لكن يفهمها الصديق بعمق ويتعامل على أساسها. اشترى الصديق رضي الله عنه أم عبيس رضي الله عنها وأعتقها، واشترى زنيرة رضي الله عنها وأعتقها، واشترى النهدية وابنتها رضي الله عنهما وأعتقهما، ولهما قصة لطيفة رواها ابن إسحاق في سيرته، كانت النهدية وابنتها ملكًا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما الصديق رضي الله عنه، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول:والله لا أعتقكما أبدًا. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: حلّ يا أم فلان. أي تحللي من يمينك، فقالت: حل أنت، أفسدتها فأعتقهما.قال: فبكم هما؟قالت بكذا وكذا، قال الصديق رضي الله عنه: قد أخذتهما، وهما حرتان، ارجعا إليها طحينها.هنا نجد ردًا لطيفًا عجيبًا من الجارتين المسلمتين اللتين تخلقتا بخلق الإسلام الرفيع قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟سبحان الله، بعد النجاة من هذا الظلم الشديد، والسخرة المهينة ما زالتا تحرصان على مال سيدتهما، قال الصديق رضي الله عنه: ذلك إن شئتما. ومر الصديق رضي الله عنه بجارية بني مؤمل (حي من بني عدي) وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله آنذاك مشركًا، وكان شديد الغلظة على المسلمين، وكان يضربها ضربًا مؤلمًا لساعات طوال، ثم يتركها ويقول: إني لم أتركك إلا عن ملالة.مر بها الصديق رضي الله عنه، فابتاعها ثم أعتقها لوجه الله. ودعا الصديق رضي الله عنه غلامه عامر بن فهيرة إلى الإسلام، فلما أسلم أعتقه أيضًا لوجه الله.وكما رأينا فإن الصديق رضي الله عنه لم يكن يفرق بين عبد وأمه، أو قوي وضعيف، هذا الأمر لفت نظر أبيه أبي قحافة فقال له:يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالًا جلدا، يمنعونك، ويقومون دونك؟ ولا ننسى أن الصديق رضي الله عنه من بطن ضعيف من بطون قريش، فقال الصديق رضي الله عنه في إيمان عميق:يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل.فأنزل الله في حقه قرآن كريمًا، قال عز وجل:[وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) ]. {الليل17: 21} .قال ابن الجوزي: أجمع العلماء أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.وتخيل معي أن الله عز وجل ينزل قرآنًا يشهد فيه للصديق بالتقوى، بل بأنه الأتقى، ويشهد له بإخلاص النية، فهو يريد أن يتزكى، ولا يريد جزاء من أحد، وإنما يريد وجه الله فقط، ثم انظر الوعد الرباني الجليل العظيم، ولسوف يرضى، ومهما تخيلت من ثواب وجزاء ونعيم، فلا يمكن أن تتخيل ما أعده الله عز وجل لمن وعد بإرضائه [وَلَسَوْفَ يَرْضَى] {الليل:21} .روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي. الصديق رضي الله عنه كان يملك عند إسلامه أربعين ألف درهم، أنفقها جميعًا في سبيل الله عز وجل، أنفق منها خمسة وثلاثين ألف درهم في مكة، حتى لم يبق إلا خمسة آلاف درهم، أخذها معه في الهجرة أنفقها على رسول الله وعلى المؤمنين، حتى فني ماله، أو قل: بقي ماله. وليس: فني ماله. فالذي يبقى هو الذي يُنفق في سبيل الله، والذي يفنى هو الذي يُمْسك في يد العبد، ولكن تخيل قدر هذا الإنفاق لا بد أن نعرف قيمة هذه الأربعين ألف درهم في زماننا، لا تنسى أننا نتحدث عن زمن مر عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام، إذا كانت قيمة الجنيه المصري مثلًا قد تغيرت كثيرا في غضون عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة، فما بالك بألف وأربعمائة من السنين تعالوا نقوم بحسبة لطيفة، ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشترى شاة بدرهم، إذن الصديق رضي الله عنه كان يملك ما يساوي أربعين ألف شاة، ونحن اليوم نشتري الشاة بمتوسط 800 جنيه مصري مثلًا، إذن الصديق رضي الله عنه كان يملك ما يساوي 32 مليونًا من الجنيهات المصرية، يعني أكثر من 6 مليون دولار، وطبعًا كان الدرهم له قيمته، ولم يكن هناك تضخم، ولا أزمة اقتصادية، ولا تعويم للدرهم.سبحان الله أنفق كل هذه الثروة الطائلة في سبيل الله، وفوق ذلك كان تاجرًا لم يتوقف عن تجارته، فهناك إنفاق فوق كل هذه الأموال المدخرة، وفوق ذلك هناك إنفاقه في المدينة المنورة من تجارته هناك، فقد أنفق كل أمواله في فترة مكة كما ذكرنا، لكن عاود الكسب من جديد، فمثلًا أنفق في تبوك أربعة آلاف درهم (حوالي مليون ونصف جنيه مصري) كانت هي كل ما يملك من مال، ولم يترك لأهله إلا كما قال: تركت لهم الله ورسوله.هذا الإنفاق العجيب، والنفس المعطاءة هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنَي مَالُ أَبِي بَكْرٍ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ. وفي رواية الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَأْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #6موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:21 pm | |
| آبو بكر الصديق لما علم الله عز وجل من الصديق إيمانًا عميقًا في قلبه، ويقينًا صادقًا في عقله، وعملًا صالحًا في كل جوارحه، لما رأى منه حبًا جارفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل، واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقًا حانيًا عطوفًا، ووجد خلقه حسنًا رفيعًا عاليًا، لما علم منه سبقًا إلى الخيرات، ومسارعة إلى الحسنات وحسمًا وعزمًا في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاء، لما رأى منه كل ذلك وغيره، أنعم عليه بنعمة عظيمة وهِبة جليلة، أنعم عليه بنعمة الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإيمان، وعلى الإسلام، الثبات على الطاعة وحسن الخلق، الثبات على العطاء، الثبات أمام الفتن، كل الفتن صغيرة كانت أو كبيرة، دقيقة كانت أم عظيمة، خفية كانت أم ظاهرة.
والثبات شيء صعب وعسير، الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات، ولكنه سرعان ما يفتر، قد يقوى في زمان، لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ.
ولكن العجيب في حياة الصديق رضي الله عنه أن ترى ثباتًا في كل الفضائل، وفي كل المواقف منذ أسلم، وحتى مات، مهما تغيرت الظروف والأحوال، والثبات فعلًا شيء عسير، الدنيا من طبيعتها التقلب، من النادر أن تجد فيها شيئًا ثابتًا، كما قالوا قديمًا: دوام الحال من المحال، يقول سبحانه:
[يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ] {النور:44} .
ويقول:
[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:140} .
ويقول:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] {الحج:5} .
هكذا الإنسان دائمًا في تقلب، والأرض كذلك دائمًا في تقلب، والقلب أيضًا كذلك، كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلبًا؛ لأنه سريع التقلب.
روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ.
فقلت:
يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟
قال: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنِ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ.
ويزداد الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حوله، فقلب قد يثبت على حاله من الغنى، فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حاله من الفقر، فإذا اغتنى الإنسان فتن، قد يثبت في بلد، ويفتن في آخر، قد يثبت في عمل، ويفتن في آخر، قد يثبت في سن، ويفتن في سن آخر، بل قد يثبت في نهار، ويفتن في ليل، بل قد يثبت لحظة، ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس متروكًا في حاله، كثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، الشيطان لا يهدأ ولا يستكين
[ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] {الأعراف:17} .
فالدنيا مجموعة متراكمة من الفتن
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5} .
النفس، نفس الإنسان تُغير كثيرًا من قلبه [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي] {يوسف:53}.
وشياطين الإنس أحيانًا ما يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المتقلبات يعيش القلب، فكيف لا يتقلب؟ وهو القلب المشهور بالتقلب، والقلب إن كان ضعيف الإيمان فتقلبه خطير
[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] {الحج:11} .
والنجاة من التقلب عسيرة إلا إذا مَنّ الله بها على عبده، والله لا يَمُنّ بالثبات على عبد خامل كسلان، بل لا بد أن يقدم شيئًا، اسمع إلى قوله عز وجل:
[لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} .
إذن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا لصيقًا دقيقًا يقي الإنسان شر الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلًا أن يَمُنّ الله عليه بنعمة الثبات، جميع الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، اقرأ إن شئت كلام الله سبحانه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا] {الإسراء:74} .
واقرأ معي قوله تعالى:
[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .
وأكثر المسلمين اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأكثر المسلمين تلقيًا لتثبيـت الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، حياته عجيبة رضي الله عنه وأرضاه، كم من الفتن عرض عليه، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه، روى الترمذي وغيره حديثًا وقال: حديث حسن. يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي عرضت للصديق رضي الله عنه في حياته، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يُتْرُكُهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.
ولكون الصديق هو الأمثل في الإيمان، بعد الأنبياء، فإن ابتلاءه كان شديدًا. ولنتجول في حياة الصديق رضي الله عنه، نتعرف على طرف من ابتلائه وطرف من ثباته.
ثباته أمام فتنة المال
وقصدت أن أبدأ بها؛ لأنها فتنة عظيمة، وكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى، فإذا جاءوا إلى فتنة المال، وقعوا فيها، ويقول أحد الصحابة:
ابتلينا بالضراء، فصبرنا، وابتلينا بالسراء، فلم نصبر.
حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء، فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لقد شاهدنا كثيرًا من المتقين، وشاهدنا كثيرًا من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة، ومواقف مشهودة، لكننا لم نسمع عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله، لا يُبقي لأهله، ولنفسه شيئًا، ليس مرة أو مرتين يفعلها، ولكنه اعتاد الثبات على ذلك، ونحن تحدثنا من قبل عن إنفاقه رضي الله عنه في الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة، أو المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله لذلك، لكن نذكر هنا طرفًا سريعًا من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة:
- فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله، يمتلك مقاليد الحكم في المدينة، ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وتأتي صدقاتها، ويمتلأ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح، والشام كذلك تفتح، وتأتي الغنائم وفيرة، والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟
ما تغير قدر أنملة، وما فتن بالدنيا لحظة، ليس الصديق الذي يتبدل، لقد أعطى الدنيا حجمها، وزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، فقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثًا وضح فيه حجم الدنيا مقارنة بالآخرة، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعُهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ. يعني التي تلي الإبهام.
ما غاب عن ذهنه أبدًا هذا المقياس، ومن أجل هذا لم يفتن بالدنيا لحظة، لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا، ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعها نصب عينيه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ.
- أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة، وعلى يده أبراد (والبُرد هو الثوب المخطط) فكان يحمل هذه الأبراد متجهًا إلى السوق؛ ليتاجر كعادته، حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله:
أين تريد؟
قال:إلى السوق.
قال عمر: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين.
قال: فمن أين أطعم عيالي؟
ولنتأمل، يده على بيت المال بكامله، ويتساءل هذا السؤال! فأشار عليه أن يذهبا إلى أبي عبيدة أمين بيت المال، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له، إلى هذه الشفافية في الضمير، والأمانة في اليد، والنقاء في النفس وصل الصديق رضي الله عنه، ينزل إلى السوق، وهو خليفة كي يتاجر حتى يطعم عياله، وطبعًا عف الصديق، فعفت الرعية، لم نسمع عن وزير من وزراء، أو مستشار من مستشاريه هرّب أمواله إلى بنوك فارس والروم.
- وانظروا إلى الصديق، وهو على فراش الموت، بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني، انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة التي دكت حصون فارس والروم، يقول مخاطبًا عائشة رضي الله عنها:
أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم دينارًا، ولا درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم (يقصد الطعام البسيط) في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضب، وهذه القطيفة (كساء في بيته رضي لله عنه)، فإذا مت فابعثي بهن (العبد الحبشي، والبعير الناضب، والقطيفة) إلى عمر وابرأي منهن.
تقول السيدة عائشة: ففعلت.
فلما جاء الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر، بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول:
رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَن بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وجاء في رواية أخرى موقفًا آخر له عند الوفاة يصور مدى عفته وثباته، إذ قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها.
يقصد أن عمر قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، يرى الصديق أنه كان كبيرًا، مع أنه لم يكن يكفي إلا الكفاف، كما ثبت في روايات أخرى، فالآن سيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال.
فلما توفي الصديق ذُكِر ذلك لعمر فقال:
رحم الله أبا بكر، لقد أحب أن لا يدع لأحد بعده مقالًا.
هذا طرف من ثباته أمام فتنة المال
ثباته أمام فتنة الرئاسة والمنصب
فتنة الرئاسة فتنة عظيمة، وابتلاء كبير، وكثير من الناس يعيش حياة التواضع، فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر، فتنة عظيمة، وانظر إلى الحسن البصري يقول في كلمة عظيمة له:
وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب الرئاسة.
أما الصديق رضي الله عنه، فإنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ البداية، كان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة، وهذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا:
إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه. والله لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ولولا اليقين في بشريته لكانت شبيهة بأفعال الملائكة، هو قد سمع من حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ.
والصديق جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح، ولذا فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها، كيف يتكبر الصديق، وهو الذي كان حريصًا طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته، وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره، يروي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وقعت الكلمات في قلب أبي بكر، وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، أسرع الصديق رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده.
أشعر أنه قالها، وهو يرتجف، ويخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه، ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال:
إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ.
شهادة من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى، إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى الحقيقة المجردة، تواضع الصديق رضي الله عنه.
وإلى مواقف من حياة الصديق كخليفة ورئيس وحاكم.
ذكرنا بعض المواقف له في السابق، ذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قبل ذلك وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال، والآن نذكر بعض مواقفه الأخرى:
- موقف عجيب من مواقف الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان الصديق رضي الله عنه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه، وذلك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة:
اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا.
فسمعها الصديق رضي الله عنه فقال:
بلى، لعمري لأحلبنها لكم.
فكان يحلبها، وربما سأل صاحبتها:
يا جارية أتجدين أن أرغي لك أو أصرح؟
أي يجعل اللبن برغوة، أم بدون رغوة، فربما قالت: أرغ. وربما قالت: صرّح. فأي ذلك قالته فعل.
- موقف آخر أغرب، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواش المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة فقال عمر:
أنت هو لعمري.
وكان من الممكن أن يكلف رجلا للقيام بذلك، ولكنه الصديق، يشعر بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الأمة، كما أنه رضي الله عنه قد آثر أن يخدمها بنفسه، يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه على ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
- أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم الجمعة فقال:
إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن.
صدقات الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق، فوضعوها في مكان، وسيدخل في اليوم التالي أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا أبو بكر يحذر الناس، فقالت امرأة لزوجها:
خذ هذا الحظام لعل الله يرزقنا جملًا.
فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل، فدخل معهما، هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة لخليفة البلاد، ودخل عليه بغير إذن، مع كونه نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال:
ما أدخلك علينا؟
ثم أخذ منه الحظام، فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام، وقال:
استقد.
أي اقتص مني، كما ضربتك اضربني، سبحان الله، فقال عمر رضي الله عنه:
والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة.
يعني كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية، قام المظلوم بضرب الأمير فتضيع هيبته، فقال الصديق رضي الله عنه:
فمن لي من الله يوم القيامة؟
فقال عمر: أَرْضِهِ.
فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة، ورحلها وقطيفة (أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه بها.
هذا خليفة البلاد، وقد ضرب أحد رعاياه ضربة واحدة فقط، ولكنه يريد أن يُضْرب مكان هذا السوط الذي ضرب، حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصًا، ليس لأحد عنده شيء.
- بل اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي تخرج لحرب الروم، في بعث أسامة بن زيد، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى فتح الروم، كان يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء، كان يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال لهم:
لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له.
وتأمل معي يا أخي، أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟!
والله ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام، ورقي الإسلام، ونور الإسلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أين هذا من حروب الشرق والغرب؟
أين هذا من حروب غير المسلمين؟
فالمسلمون قد علّموا غيرهم الرحمة في كل شيء حتى في الحرب. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #7موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:23 pm | |
| آبو بكر الصديق ثباته أمام فتنة الأولاد
فالمرء قد يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة، إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده، فإنه قد يتردد كثيرًا، فغالبًا ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد، ورقتهم، واعتمادهم على الأبوين، يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، واقرأ قول الله عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التغابن:14} .
روى الترمذي، وقال: حسن صحيح. أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية قال:
هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم، وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم (أي يعاقبوا أولادهم)، فأنزل الله:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التغابن:14} .
الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن تقول:
[إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15} .
هكذا بهذا التصريح، التقرير الواضح: إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
أين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات؟
القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه، وأوراقه كانت مرتبة تمامًا، الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل شيء، والصديق مع رقة قلبه، وعاطفته الجياشة، ومع تمام رأفته مع أولاده، كان لا يقدم أحدًا منهم، مهما تغيرت الظروف على دعوته، وجهاده، وما فتن بهم لحظة.
- أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا، محتاجين في وسط الكفار المتربصين، كان يجاهد، ويعلم أنه إذا أراد الحماية للذرية الضعيفة أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة، وكلمة الحق أيًا كانت العوائق
[وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا] {النساء:9} .
- لما هاجر الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح، لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر، مخلفًا وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث، وضرب أبو جهل لعنه الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، فسال الدم منها، ما رأى الصديق كل ذلك، كل ما رآه هو نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريق الله عز وجل، ليس هذا فقط ولكنه حمل معه كل أمواله، كل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم، خمسة آلاف درهم حملها جميعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وماذا ترك لأهله؟
ترك لهم الله ورسوله، يقين عجيب، وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، أبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان طاعنًا في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره، دخل على أولاد الصديق، وهو على وَجَل من أن الصديق قد أخذ كل ماله، وترك أولاده هكذا، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة بنت الصديق أسماء رضي الله عنها، وعن أبيها، وضعت يد الشيخ على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، الشيخ الكبير لن يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق رضي الله عنه.
- الصديق يوظف أولاده في عملية خطيرة، عملية التمويه على الهجرة، عملية قد تودي بحياتهم في وقت اشتاط الغضب بقريش، حتى أذهب عقلها، عبد الله بن الصديق كان يتحسس الأخبار في مكة نهارًا، ثم يذهب ليلًا إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارسًا على باب الغار حتى النهار، ثم يعود أدراجه إلى مكة، السيدة أسماء كانت حاملًا في الشهور الأخيرة من حملها، ومع ذلك، فكان عليها أن تحمل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق في غار ثور سالكة طريقًا وعرًا، وصاعدة جبلًا صعبًا، وذلك حتى إذا رآها أحد لا يتخيل أن المرآة الحامل تحمل زادًا إلى الرسول وصاحبه، مهمة خطيرة، وحياتها في خطر، لكن ما أهون الحياة إن كان الله هو المطلب، وإن كانت الجنة هي السلعة المشتراة.
- ومر بنا كيف تبرع بكل ماله في تبوك، وما ترك شيئًا لأولاده رضي الله عنه، وأرضاه، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماذا أبقى لأهله؟ قال:
أبقيت لهم الله ورسوله.
- ثم ها هو الصديق يقدم فلذة كبده عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، ها هو يقدمه شهيدًا في سبيل الله، علمه حب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله، فأصيب في الطائف بسهم، ولم يمت في ساعتها، بل بقى أيامًا وشهورًا، ويقال: إنه خرج بعد ذلك إلى اليمامة في حروب المرتدين، واستشهد هناك. الثابت أنه استشهد في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكأن الله أراد أن ينوع عليه الابتلاءات حتى يُنقى تمامًا من أي خطيئة، بل إنه قال كلمة عجيبة لما رأى قاتل ابنه عبد الله وكان قد أسلم بعد أن قتله قال:
الحمد لله الذي أكرمه بيديك (يعني أكرمه الشهادة) ولم يُهْلِكّ بيده (أي الموت كافرًا) فإنه أوسع لكما.
سعيد لأن ابنه قد مات شهيدًا في سبيل الله، وأيضًا لأن هذا الرجل لم يقتل على يد عبد الله، فكانت أمامه فرصة للإسلام، أي رجل هذا؟!
- لكن إن كان لنا أن نفهم كل هذه التضحيات، فإن له موقفًا مع ولد من أولاده يتجاوز كل حدود التضحيات المعروفة، والمألوفة لدى عامة البشر، الصديق رضي الله عنه في غزوة بدر يكون في فريق، فريق المؤمنين، وابنه البكر عبد الرحمن بن أبي بكر في الفريق الآخر، فريق المشركين، ولم يكن قد أسلم بعد، وإذا بالصديق رضي الله عنه يبحث عن فلذة كبده، وثمرة فؤاده؛ ليقتله، نعم ليقتله!
وقف كفر الابن حاجزًا بين الحب الفطري له، وبين حب الله عز وجل، فقدم الصديق حب الله عز وجل دون تردد، ولا تفكير، وضوح الرؤية، نعم وضوح الرؤية إلى هذه الدرجة، لكن بفضل الله لم يوفق الصديق في أن يجد ابنه؛ لأن الله مَنّ عليه بعد ذلك بالإسلام، أسلم يوم الحديبية، ولما أسلم قال لأبيه:
لقد أهدفت لي يوم بدر، فملت عنك، ولم أقتلك.
أي رأيتك هدفًا سهلًا في بدر، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه من أمهر الرماة في فريق المشركين، فقال أبو بكر في ثبات وثقة:
ولكنك لو أهدفت إليّ، لم أمل عنك.
وسبحان الله، وكأن الله أراد أن يشبه أبا بكر بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، فقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم مثلًا للصديق بعد تخيير الحكم في أسارى بدر، أراد الله أن يشبه أبا بكر بالخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلي البلاء المبين بذبح ابنه، فيبتلي الصديق كذلك بالبحث عن ابنه ليذبحه بيده، أيّ مثل رائع ضربه الصديق لهذه الأمة؟!
كيف تغلّب على هذا المعوق الخطير الذي كثيرًا ما خلف أناسًا عن السير في طريق الدعوة، وعن السير في طريق الجهاد؟
[شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا] {الفتح:11}.
لكن هذا لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبق إلى الخيرات، والشعور بأهمية الدعوة، واستحقار أمر الدنيا، وتعظيم الآخرة، كان كل ذلك وراء هذا اللون العجيب من الثبات.
فتنة ضياع النفس وثباته أمامها
والنفس غالية، وإن ذهبت النفس فلا عودة لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق واضح الرؤية، وثاقب النظر، له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {التوبة:51}. من هذه القواعد:
[لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {يونس:49}.
من هذه القواعد:
[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111} .
من هذه القواعد:
[وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78} .
من هذه القواعد:
[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185} .
إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانبًا لا بأس به من حياة الصديق، تعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه، نرقب كيف خلصت نفسه من حظ نفسه:
- تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلًا (يعني في أوائل فترة مكة) ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال:
يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ.
فلم يزل أبو بكر يلح، حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو أن هذا لم يكن ظهورًا كاملًا للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل لم يكن إلا بعد إسلام الخطاب رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، فوقف خطيبًا يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لذا يقولون: إن الصديق أول خطيب في الإسلام.
بعد رسول الله طبعًا، ماذا كان رد فعل المشركين؟
ثار المشركون ثورة عنيفة، وقاموا يضربون الصديق ضربًا عنيفًا، تنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم، دنا الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وذلك من شدة تورم وجهه، وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد، وقالوا:
والله لئن مات أبو بكر، لنقتلن عتبة بن ربيعة.
ثم رجعوا إلى أبي بكر، فجعلوا يكلمون أبا بكر، وهو في إغماءه طويلة، حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، فماذا قال؟
قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
سبحان الله حتى، وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت، طبعًا بنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه، وها هم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة، ولا شك إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب، وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق، فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذه في عرف العرب إهانة لا تستقيم بعدها حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق، ويلومونه، ويكيلون له الكلام، بما فيهم أبوه أبو قحافة، ومع ذلك فالصديق رضي الله عنه له مكانة كبيرة في قلوبهم، التفوا إلى أمه أم الخير وكانت آنذاك مشركة، وقالوا:
انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه.
فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه، وتسقيه، لكنه جعل يقول:
ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمى عليها ثم أفاقت، أيكون لهم من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟!
هكذا أحَبّ الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يزيد، قال الصديق لأمه:
اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.
وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها مشركًا، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت:
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.
هنا نرى موقفًا لطيفًا من أم جميل بنت الخطاب رضي الله عنها، فتلك المرأة المسلمة الواعية الحذرة خشيت من أم الصديق، أم الصديق ما زالت مشركة، أفتكشف نفسها وتعرفها بإسلامها هكذا؟!
وإن فعلت أتثبت له أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول يجلس مع صحابته في دار الأرقم، وقريش لا تعرف ذلك أفتدل هي عليه؟
هنا فكرت أم جميل بسرعة وقالت:
ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله.
لكنها في نفس الوقت تعرف من هو الصديق، فهو الرجل الثاني في الدعوة، وقد يكون في احتياج إلى شيء هام، ثم إنه يعلم أن أمه مشركة، ومع ذلك أرسلها إليها، فأسرعت المرأة الحكيمة، وقالت بلباقة:
إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟
قالت أم الصديق:
نعم.
فذهبت معها حتى دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فوجدته صريعًا ملازمًا الفراش في حالة خطيرة بين الحياة، والموت، فقالت فزعة:
والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
أعرض الصديق عن كل هذا، وكان له همًا واحدًا قال:
فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
احتارت أم جميل رضي الله عنها، أم الصديق واقفة، وستعرف خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهمست إلى الصديق:
هذه أمك تسمع.
قال الصديق مطمئنًا:
فلا شيء عليك منها.
ويبدو أن الصديق كان يرى قربًا من أمه للإسلام، فلم يرى بأسًا من ذلك؛ لأن أمه ما لبثت أن أسلمت، قالت أم جميل رضي الله عنها:
سالم صالح.
قال الصديق رضي الله عنه:
أين هو؟
قالت: في دار الأرقم.
قال الصديق رضي الله عنه في إصرار وعزم:
فإن لله عليّ أن لا أذوق طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانتظروا حتى جاء المساء، وهدأت الرجل بمكة، وسكن الناس، وخرجت المرأتان بالصديق رضي الله عنهم، لا يقوى على السير، ولكنه يتكئ عليهما، سارا به، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تألم لما فيه، وأسرع إليه، وأكب عليه يُقَبّله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فأسرع الصديق يُطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس، إلا ما نال الفاسق من وجهي.
ثم إن الصديق رضي الله عنه، وهو في هذا الموقف لم ينس دعوته، ولم ينس أمه أنها ما زالت مشركة، وها هي ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنوار النبوة على وجهه، فتاقت نفسه إلى إسلامها، قال:
يا رسول الله، هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله، وادع الله لها، عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله، فأسلمت الحمد لله أسلمت رضي الله عنها، وعن ابنها، وعن زوجها، وعن أحفادها، وعن أولاد أحفادها.
كان هذا طرفًا من جهاد الصديق بمكة وبذله لروحه؛ فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاء لدين الله عز وجل، تعالوا نقلب صفحات من جهاده رضي الله عنه في المدينة المنورة.
ثباته في بدر
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة قافلة بني سفيان، وعزم زعماء مكة على قتاله استشار الصحابة في ذلك، الموقف خطير، الصحابة لم يخرجوا من المدينة في الأصل ليقاتلوا جيشًا، بل مجرد قافلة، فلم يكن معهم إلا السيوف، فلم تكن العدة عدة قتال، كما أن هناك أقوام في المدينة كانوا يرغبون في اللقاء، ولكن لم يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقاتل، إذًا من الممكن أن يأتي على ذهن الصحابة، أن لو أجلنا القتال لنقوم به في ظروف أفضل، وعدد أكبر، فرصة ضياع الحياة في هذه المعركة كبيره، والحق أن بعض الصحابة ترددوا، يصورهم ربنا سبحانه وتعالى في كتابه فيقول:
[كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5)يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] {الأنفال:5،6} .
أين كان الصديق رضي الله عنه في هذا الموقف؟
كان أول الرجال قيامًا، يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على القتال، دائمًا يسبق الناس، حتى ولو كان السبق لفقد الحياة، قام الصديق فقال وأحسن، وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من بعده الرجال الواحد تلو الآخر، لكن، سبق بها الصديق، ولما تقرر القتال، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعملية استكشافية، يستكشف فيها مواقع جيش المشركين وعدتهم، قام بالعملية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومن معه؟
إنه أبو بكر الصديق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الأحداث، مهمة خطيرة، ولكن لا أقل من الدنيا في عين الصديق، وتبدأ المعركة، ويلتحم الجيشان، ويتصاعد الغبار، وتسيل الدماء أنهارًا، وتتناثر الأشلاء في كل مكان، يوم الفرقان، فأين كان الصديق رضي الله عنه؟
كان في أخطر المواقع على الإطلاق، كان رضي الله عنه يقف بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه أخطر موقع على الإطلاق، لأن القوم كانوا حريصين على قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثباته في أحد
تعالوا نتحدث عن ثباته في أحد مثلًا، ويوم أحد يوم عظيم كانت الجولة في بدايتها للمؤمنين، ثم خالف الرماة، وعصوا فداول الله الأيام، ونقلها إلى قريش، وأصبحت الغلبة للمشركين، وفر من فر، وثبت من ثبت، ولا شك أن الصديق كان من الثابتين رضي الله عنه، قال الله عز وجل:
[وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] {آل عمران:152} . ولا شك أيضًا أن الصديق كان ممن أراد الآخرة، كان الصديق أول من وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع معه حول الرسول صلى اله عليه وسلم مجموعة من السابقين الأولين، عمر، وطلحة، وعلي، وأبو عبيدة، والزبير، وغيرهم، ودار قتال شرس ما لانت فيه قناة الصديق، ولا من وقف معه، وتم إنقاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسحبوا في مكان آمن، وفي اليوم التالي لأحد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج في أثر المشركين حتى لا يظنوا أن المسلمين قد كسرت شوكتهم، فانتدب المسلمين أن يخرجوا إلى مكان يعرف بـ"حمراء الأسد " فقام له رجال، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان منهم، يروي الإمام مسلم أن عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى:
[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] {آل عمران:172} .
أي الذين استجابوا في الخروج إلى حمراء الأسد، بعد القرح الذي أصابهم في أحد، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
يا ابن أختي كان أبواك منهم، الزبير، وأبو بكر (الزبير أبوه وأبو بكر جده، لأنه كان ابن أسماء بنت أبي بكر)، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركين، خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في أثرهم؟
فانتدب منهم سبعون رجلًا، كان فيهم أبو بكر، والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وأرضاهم.
- ثباته في الحديبية: بعد عام واحد من الاجتياح الرهيب للمشركين لأرض المدينة المنورة، وحصار المؤمنين في المدينة في غزوة الخندق، والموقف العصيب الذي مر به المؤمنون، لدرجة وصفها ربنا سبحانه وتعالى بقوله:
[هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا] {الأحزاب:11} .
بعد عام واحد من هذا التهديد المروع، يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى العمرة في مكة بألف وأربعمائةٍ من الصحابة، والآن يذهبون إليهم في عقر دارهم، فلما علمت قريش بقدوم النبي للعمرة جمعت الجيوش، لتصد المؤمنين عن الكعبة، ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس للشورى نذهب أو لا نذهب؟
قام بطلنا الصديق رضي الله عنه، وقال:
يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد حربًا، ولا قتل أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه.
وتحرك المسلمون إلى مكة، ثم كانت المفاوضات، وانتهى الأمر إلى الصلح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في المفاوضات أمام المشركين، كان الصديق رضي الله عنه واقفًا وراءه بسيفه، وفي جلسة من جلسات المفاوضات، قال عروة بن مسعود الثقفي مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، محاولًا أن يلقي الهزيمة النفسية في قلبه، وفي قلوب المؤمنين، قال:
يا محمد أجمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش، خرجت رجالا ونساءً، صغارًا وكبارًا، قد لبسوا جلود النمور (أي لباس الحرب)، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة، وايم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك.
يقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنهم سيتركونه عند القتال، وهنا لم يعط الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة للرد، بل انطلق في حمية وجرأة عجيبة، يرد على المشرك، فسبه سبة منكرة شنيعة، ثم قال في ثبات واضح له:
أنحن نفر عنه وندعه؟
أنحن نفر عنه وندعه؟
هذا فعلا هو المستحيل، وصدق رضي الله عنه، وصدقوا جميعًا، فقد بايعوا فعلا على الموت، فسبحان الله، أيّ جيل ثابت كان هذا الجيل العظيم؟
ثباته في حنين
ونقفز أعوامًا أخرى لنصل إلى يوم حنين، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كانت له مواقف مشهودة في كل مشاهد صلى الله عليه وسلم، لكني آثرت التعليق على حنين، حيث فر كثير من المسلمين، وحيث كانت الفتنة عظيمة، فيظهر ثبات الصديق بجلاء، ووضوح، فر المسلمون في حنين، وتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم تجابهه جموع غفيرة من هوازن، والوقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل هذه الآلاف المؤلفة لا يعني إلا شيئًا واحدًا، الموت، لكن:
تَهُونُ الْحَيَاةُ وَكُلٌّ يَهُونُ وَلَكِنَّ إِسْلَامَنَا لَا يَهُونْ
نُضَحِّي لَهُ بِالْعَزِيزِ الْكَرِيمِ وَمِنْ أَجْلِهِ نَسْتَحِبُّ الْمَنُونْ
نعم، كان الصديق رضي الله عنه يستحب المنون، يستحب الموت ما دام في سبيل الله عز وجل، أكاد أراه رضي الله عنه، وهو يصول ويجول تحت فتنة السيوف، وكأنه لا يراها، لا يرى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، يقاتل عن يمينه تارة، وعن يساره تارة أخرى، وأمواج البشر المشركة تتكسر على صخرته رضي الله عنه وأرضاه، فكان الثبات ثم الثبات
[ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ] {التوبة:26} .
الصديق كان ثابتًا في كل مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أيضـًا ثابتًا أثناء خلافته في معاركه.
فتنة ترك الديار والأوطان
وترك الوطن فتنة عظيمة فكم من الذكريات، وكم من الأهل، وكم من الأصحاب، وكم من الأحباب، ترك الوطن فتنة عظيمة، ولا سيما لو كان الرجل صاحب مكانة، وكثير المال، كالصديق رضي الله عنه، فالصديق تاجر، أوضاعه مستقرة، وتجارته رابحة، وها هو يترك الاستقرار، والراحة، وينطلق مهاجرًا إلى أرض مجهولة، وأقوام غريبة، ثم أي البلاد يترك، يترك مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا، يترك البلد الحرام، يترك البيت الحرام، يترك أشرف بقعة في الأرض، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند خروجه من مكة مهاجرًا إلى المدينة يقول:
وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ.
الصديق مع عظم تجارته، واستقراره، هاجر مرتين من هذه البقعة المشرفة إلى غيرها من بقاع الأرض، الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وتحدثنا عنها في موقف سابق وذكرنا فيها أن ابن الدغنة سيد قبيلة القارة أجاره، وأعاده إلى مكة، وكان الصديق في هذه الهجرة متجهًا إلى بلاد بعيدة عبر الصحراء والبحار، إلى قوم لا يتكلمون العربية، وإلى بلد لم يألف العادات المكية، لكن الصديق هاجر، ولسان حاله يقول كما قال النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا يحتذي به الصديق رضي الله عنه قال:
[وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] {الصَّفات:99}.
والهجرة الثانية كانت إلى يثرب، والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة لما نورها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، وقد ذكرت سابقًا فقرات من هذه الهجرة المباركة، وفيها برز الدور العظيم للصديق سواء في الإعداد قبل الهجرة، أو أثناء الهجرة، وسواء في المساعدة المادية، أو المعنوية، وسواء في التضحية بالنفس، أو بالمال، أو بالجهد، أو بالوقت، كان الصديق رضي الله عنه في الهجرة ثاني اثنين، وهذا يكفيه، يكفيه أن يكون ثانيًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن الديار، والأوطان، والأملاك، والأعمال ما وقفت أبدًا مهما تعاظمت أمام إيمان الصديق رضي الله عنه، وكانت على ثقلها فتنة عارضة ثبت فيها الصديق ثباته المعهود.
ثباته أمام غلبة أهل الباطل
كثير من المسلمين ينظرون نظرة إحباط، ويأس إلى واقعهم، عندما يشاهدون محاور القوة الرئيسية في الأرض في أيدي الكافرين، عندما يجدون أن الكفار قد ملكوا من المادة والسلاح والعدد، والعدة ما يفوق المسلمين أضعافًا مضاعفة، فتنة تحتاج إلى كثير إيمان، وكثير فقه، وكثير ثبات، وقد كان الصديق رضي الله عنه المؤمن الفقيه الثابت الذي مَنّ الله به على أمة المسلمين، فحفظها خير الحفظ، ونصح لها خير النصح، وجهد لها خير الجهد.
فتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه
فتنة عظيمة هائلة مروعة، لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن نشير فقط إلى ثبات الصديق رضي الله عنه، هذا الثبات الذي فاق كل تخيل، حتى فاق تخيل الصحابة أنفسهم، والفتنة كانت هائلة، ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: مكة، والمدينة، والطائف، وقرية جواثا في منطقة هجر بالبحرين، لا أقول عشرات الآلاف من المرتدين، بل مئات الآلاف، وليس فقط بمنع الزكاة، بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة،
غلبة عظيمة لأهل الردة، وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه:
الزم بيتك، وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
يأس كامل في الإصلاح، وإحباط يملأ القلوب، موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة، لكن الصديق رضي الله عنه كان أعلم الصحابة، وأفقه الصحابة، وأثبت الصحابة، تحول الشيخ الكبير الرحيم المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور، عظيم الثورة، شديد البأس، عالي الهمة، سريع النهضة، أصر على قتال المرتدين جميعًا وفي وقت متزامن، قال في شأن مانعي الزكاة:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا (الأنثى من ولد الماعز) وفي رواية عقالًا (وهو الحبل الذي يربط به البعير) كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها.
وقال في شأن بقية المرتدين، والذين يبلغون مئات الآلاف:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
أي تقتطع عنقي، بهذه العزيمة، وهذه العقيدة، لما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل، يقول عمر كما جاء في صحيح البخاري:
فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق.
وهكذا أخرج الصديق رضي الله عنه الجيوش تلو الجيوش، أحد عشر جيشًا في ملحمة خالدة، تضحيات عظيمة، تعب وجهد، ودم وشهادة، ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن، وأعز الله الإسلام وأهله، وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا في عام واحد، عام واحد فقط، والحمد لله رب العالمين |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #8موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:23 pm | |
| آبو بكر الصديق فتنة غلبة أهل فارس والروم وفارس والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض، يقتسمان العالم، ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، دول متقدمة صاحبة حضارة، ومال، وعمران، وجنات وأنهار، وأعداد لا تحصى من الرجال، وسلاح لا مثيل له في زمانهم، وأعوان في كل بقاع الأرض، وتاريخ في الحروب، وتنظيماتها، وخططها، وطرقها، الصديق رضي الله عنه في الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب، لم تتعود على الحروب النظامية، فقيرة الموارد، ضعيفة السلاح قليلة العدد، ليس هذا فقط، ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر واليابس، تلك هي حروب الردة، يخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال، ولا تهزه عروش كسرى وقيصر، ويأخذ قرارًا عجيبًا، وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على انتهاء حروب الردة، ثم يتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور، وهو فتح الشام، وقتال الروم في وقت متزامن مع قتال الفرس، وكما فصلنا من قبل، فالصديق كان على يقين من النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض معاركه بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل، ومعارك هائلة، وضع فيها الصديق رضي الله عنه خططًا عبقرية، وقال فيها أراءً سديدة وفعل فيها أعمالًا مجيدة.
| الثبات على فتنة الطاعة وعبادته | وقد يظن ظان أن هذا الأمر بسيط، وهين إلى جوار غيره من الفتن التي تعرضنا لذكرها آنفًا، فتن المال، والرئاسة، والأولاد، والإيذاء، وضياع النفس، وترك الديار، وغلبة أهل الباطل، قد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة سيثبت حتمًا في أمر الطاعة، والعبادة، فهي أمور في يد كل مسلم، يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي، بديهيات عند كثير من الناس، لكن هذه لمن أعظم الفتن، قد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئًا عظيمًا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم كل يوم، بلا كلل ولا ملل ولا كسل، فإن هذا يحتاج إلى قلب عظيم، وإيمان كبير، وعقل متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال، وقد كان الصديق رضي الله عنه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابَ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَانِ.فبعض الناس يكون مكثر في الصلاة، فيدخل من باب الصلاة، وهكذا.قال أبو بكر رضي الله عنه:مـا على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:نَعَمْ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.ذلك أن الصديق رضي الله عنه كان مكثرًا، وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، ومر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائمًا ومتبعًا لجنازة وعائدًا لمريض ومتصدقًا على مسكين؟ هكذا حياته كلها لا قعود، ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرج جدًا من فوات فضيلة أو نافلة، روى أحمد، وأبو داود، والحاكم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:مَتَى تُوتِرُ؟قال: أول الليل بعد العتمة.أي بعد صلاة العشاء، قال:فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟قال:آخر الليل.قال: أَمَا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ.أي بالحزم، والحيطة مخافة أن يفوت الوتر.وَأَمَا أَنْتَ يَا عُمَرُ فَأَخَذْتَ بِالْقُوَّةِ.أي بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر؛ لصلاة قيام الليل، ثم الوتر. فالصديق رضي الله عنه لا يتخيل أن يفوته الوتر، ماذا يحدث لو استيقظ على صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟في حقه تكون كارثة، لذلك يأخذ نفسه بالحزم يصليه أول الليل، ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ، ويصلي قيام الليل صلى، ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ الفجر ليصلي، منهجان مختلفان، ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومع حرصه، وطاعته، ومثابرته، وثباته على أمر الدين كان شديد التواضع، لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، كان يقول:والله، لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.وروى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:دخل أبو بكر حائطًا (حديقة) وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء، ثم قال:طوبى لك يا طير، تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك.وكان يقول إذا مُدح:اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.رضي الله عن الصديق، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. |
| ثباته أمام فتنة الموت | والموت فتنة عظيمة، والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا أن الصديق رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته: - مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم، وبرضا واسع. - وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان رضي الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، ماتت في السنة السادسة من الهجرة في المدينة، بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب، والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال، كانت خير المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم، لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع. - ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب بن عمير، ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب، ومات زيد بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل:[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23} .- وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه، ونام على فراش لا بد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟هل جزع أو اهتز؟حاشا لله، إنه الصديق رضي الله عنها وأرضاه، ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثبات، وثقة، واطمئنان:اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار.يحذره من التسويف، وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته.وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.انظر إلى صدق الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمةثم انظر إلى هذا الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى بن حارثة رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة موته، ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه ما زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم يُصَب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق (سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام)، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم. أرأيت عبد الله كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟لم ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟ هذا هو الصديق الذي عرفناه.ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في آخر اللحظات، ونفسه تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُأي لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر إلى كالغضبان، ثم قال في لطف:ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق:[وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] {ق:19} .هكذا ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.هكذا بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى:[تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] {يوسف:101} .- غير أنه مع كل ما سبق من فتن عرضت للصديق في حياته إلى لحظة موته، فإن كل هذه الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة القصوى التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر، وسيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما مات النور المبين الذي أضاء الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه أنه مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.وفي موضوع ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الصديق رضي الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال: كان الصديق رضي الله عنه كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.رضي الله عن الصديق وعن الصحابة أجمعين. | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #9موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:24 pm | |
| آبو بكر الصديق استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة، ثم إن المهاجرين بالآلاف، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، فكل رجل من المهاجرين أمة، مَن مِن هؤلاء سيتولى هذه الخلافة، وقد نتخيل أن الأمر شاق، وعسير، ولكن فلننظر ماذا حدث؟
| عمر يبايع أبا بكر رضي الله عنهما | قال الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:ابسط يدك نبايع لك. فقال عمر: أنت أفضل مني. قال أبو بكر: أنت أقوى مني. قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك. أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟ونحن نرى اليوم بعض الإخوة الملتزمين، ويفترض أنهم مدركين للدين جيدًا، ولكنهم يختلفون على إمامة مسجد، أو إمامة في صلاة، فماذا سيكون حالهم لو كانت إمامة أمة؟! تقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وقال:لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟وروى النسائي والحاكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس:ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر للصلاة؟قالوا: بلى.قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.هنا وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاروق، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة، وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور فماذا حدث؟ |
| والأنصار يبايعون أيضًا | قام أسيد بن حضير، وبشير بن سعد رضي الله عنهما يستبقان للبيعة، ووثب أهل السقيفة للبيعة، بايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه، وبايع زيد بن ثابت رضي الله عنه، وبايع كل الأنصار في السقيفة.إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه، وحتى لا يذهب الذهن بعيدًا، فإن سعد بن عبادة رضي الله عنه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة موقفه، فقد كان مبايعًا للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه لا يستطيع حراكًا لمرضه، ويحسب له أن أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه أي اعتراض على إمارة الصديق، بل إنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهدًا حيث استشهد هناك. وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا تاريخكم، تطلعوا حولكم، وشاهدوا في كل بلاد العالم، كيف يكون الصراع على السلطة؟آخر ما سمعت هو نصف مليون قتيل في صراعات على السلطة في أنجولا، وها نحن نرى ما يحدث في معظم بلاد العالم اليوم، ثم انظر ما يحدث أيضًا في البلاد التي يطلقون بلادًا حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات.والمحور الثاني: محاولة التعريض، والسب، والقذف، والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر.ألا يبحث كل مرشح عن عيوب غيره؛ ليبرزها للناس فيسجل بها نقاطًا لصالحه؟ألا تسمعون عن تزييف، وتزوير، ومكيدة؟ألا تسمعون عن قهر، وتعذيب، وظلم، وبهتان؟قارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة، وما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين ورقي هذا التشريع. لاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم كما لم يحضرها عامة الأنصار، بل حضرها رءوس القوم، ولذلك ففي اليوم التالي ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عامة الناس، وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد، حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة، ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، وهم أهل بيته: علي بن طالب ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، والعباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم،والزبير بن العوام ابن عمة رسول صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها. |
| الجميع يبايع الصديق رضي الله عنه | في اليوم الثاني صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر، ويقدمه إليهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي.يقصد مقالة أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى، وجميل جدًا أن يعترف الإنسان بأخطائه أمام الناس، وهذا من عظمة الصحابة.ثم يكمل: وما وجدتها في كتاب الله عز وجل، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى رسول الله صلى اله عليه وسلم سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا.أي أنه كان يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون آخر من يموت في هذا الجيل، ولكن الله عز وجل شاء أن يموت، حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونون نبراسًا لمن بعدهم، وهو اعتذار لطيف عما بدر منه أمس، فعمر قدوة وقد يتأثر به الناس.ثم قال عمر رضي الله عنه:وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.فقام الناس جميعًا من المهاجرين، والأنصار وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الخلافة، في إجماع عجيب، ثم قام الصديق رضي الله عنه، وخطب خطبته المشهورة الرائعة، ثم بعد الانتهاء من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه، وبايع أبا بكر الصديق، ثم جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما روى ابن سعد، والحاكم والبيهقي، وبايع في هذا اليوم الثاني، وهذا هام جدًا؛ لأن كثير من الناس، وخاصة الشيعة يطعنون في بيعة علي للصديق رضي الله عنه، ويصرون على أنها تأخرت ستة شهور كاملة بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وسنأتي إن شاء الله إلى تحليل موقف علي بالتفصيل فيما بعد، ثم بعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه وبايع الصديق على الخلافة. إذن اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق رضي الله عنه، واستقرت الأوضاع، واجتمع الناس على قلب رجل واحد، كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم، مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المصاب ما عطل شرعًا، ولا أذهب عقلًا، ولا أوقف حياة، لا بد للحياة أن تسير، وعلى الوجه الذي أراده الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم. |
| بعض ما أثير من شبهات بشأن بيعة الصديق رضي الله عنه | رواية الطبري بشأن سعد بن عبادةجاءت رواية عجيبة في الطبري، أعجب بها المستشرقون أيما العجب، وأظهروها في تأريخهم للحدث، ورددها وراءهم عدد من المعجبين بهم، والحق أن الطبري رحمه الله، مع أنه كان عالمًا جليلًا، وإمامًا عظيمًا، ما كان ينظر كثيرًا في إسناد الروايات التي يذكرها في كتابه، وقد اعترف هو بنفسه بذلك في مقدمة كتابه المشهور (تاريخ الأمم والملوك)، وقال إن همه كان الجمع، وليس التحقيق، وإن على علماء الرجال، والحديث، والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه.جاءت في الطبري رواية تقول:إن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال بعد مبايعة الصديق رضي الله عنه:لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي.فكان- كما تقول الرواية- لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجمعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم. أي في الحج.هذه الرواية الباطلة إذا بحثت في أسانيدها ذهب عنك العجب، ففي إسنادها لوط بن يحيى، وهو شيعي صاحب هوى معروف، كثير الكذب، متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله:إخباري تالف، لا يوثق به، ولم ينقل عنه إلا الشيعة، ولا يؤخذ بقوله البتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن. فالرواية سندًا لا تصح بالمرة، كما أنها متنًا لا تصح أيضًا، فمن المستحيل أن ينسب مثل هذا الكلام إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة، ومن المستحيل أن يقول مثل هذا الكلام، ولا يخاطبه فيه الصحابة، ولا يخاطب فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كلام في غاية الخطورة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه ليس رجلًا عاديًا، بل سيد الأنصار، ولو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، ولو كان هذا الموقف حقيقيًا، لذكرته كتب السيرة الموثقة، ولكنه لم يرد في أي كتاب سيرة، ولا كتاب سنن، ولا في أي كتب من الصحاح، وبذلك يتضح فيه الاختلاق، سواء في السند، أو في المتن.مسألة غضب علي والزبير يوم المبايعةتذكر إحدى الروايات أن عليًا والزبير غضبا يوم المبايعة، والرواية صحيحة، وفعلًا غضب علي رضي الله عنه، وغضب الزبير رضي الله عنه، ولكن لماذا غضبا؟أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانا يريان أن غيره أفضل، وطبعًا المقصود بغيره هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن، بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية وتركوا بقيتها، روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بسند صحيح كما صححه ابن كثير رحمه الله، قال:ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.إذن غضب علي والزبير رضي الله عنهما كان؛ لأن مشورة اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وهو أمر مفهوم ومقبول، ومن الطبيعي أن يغضبا لذلك، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعًا لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولا شك أن كثيرًا منهم من أهل الرأي والمشورة، كان ينبغي أن يكونوا حضورًا في اختيار الخليفة، ولا يكتفى بثلاثة من المهاجرين فقط، هذا عذرهم، لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة رضي الله عنهم معذورون كذلك في غياب بقية المهاجرين، وقد رأينا الأحداث بالتفصيل، وكيف أن أبا بكر وعمر كانا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اجتماع الأنصار، وجاء إليهما رجل أخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وفي الطريق لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على غير اتفاق، فأخذاه معهما، ودخلوا جميعًا السقيفة، وتسارعت الأحداث في السقيفة كما رأينا، وكان يُخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال، والخلاف والتفرق، فما حدث لم يكن القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، ولكن سرعة التقاء الأنصار، ولهم ما يبررهم كما بَيّنا سابقًا هي التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة، ويبدو أن بعض المهاجرين الآخرين كانوا يجدون في أنفسهم لنفس السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما، مما دعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقف خطيبًا في المهاجرين بعد المبايعة بأيام كما روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال:خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المهاجرين فقال:ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة، ولا سألتها في سر، ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قُلّدت أمرًا عظيمًا ما لي طاقة به ولا يد إلا بتقوى الله.فقبل المهاجرون مقالته. والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا، فهم يعرفون صدق الصديق، وزهده، ومكانته، وقلبه، وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعًا ما اختاروا غير الصديق رضي الله عنه، ولكنه رضي الله عنه أراد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئًا في استثنائهم، بل كان مضطرًا. إذن كان من الواضح أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهادًا مصيبًا منهم، فها هي آثار، ورواسب حدثت في نفس المهاجرين مع أن الخليفة أبا بكر منهم، فكيف لو كان من غيرهم؟ونعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمر قبلية، أو عصبية، أو اعتراض عن الاختيار، ولكن وجدوا في أنفسهم لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة، هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هو الذي حدا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، لم يفقههما القارئ غير المتتبع للأحداث، وللظروف التي قيلت فيها هاتان العبارتان:أما العبارة الأولى فقد قالها يوم السقيفة وبعد مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ قال رجل من الأنصار لعمر بن الخطاب:قتلتم سعدًا والله.يقصد قتلتم سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب:قتل الله سعدًا.وهذه رواية صحيحة، بل في البخاري، وهذه الكلمة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي دعاء على سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولا شك أنها تعبير عما يجيش في صدر عمر رضي الله عنه من أسى وحزن وغضب لاجتماع الأنصار بمفردهم، وذلك خشية الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيمًا ليس على رغبة المهاجرين، يروي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفسيرًا لهذا الموقف فيقول:وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ، أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا.أي مخافة أن يقتلا نتيجة الفتنة التي قد تحدث، وليس معنى دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بهذه الكلمة أن بينهما شقاقًا، أو كرهًا، فعمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة كما يغضب رجل من رجل عند الإختلاف، وهذا شيء طبيعي جدًا أن يحدث بين المؤمنين، ولكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا ما لم ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم، وليس من الطبيعي، ولا الفطري أن بتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر جميعًا، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم هو العودة سريعًا إلى الاجتماع بعد الاختلاف.العبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاءت في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال:بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا. | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #10موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:27 pm | |
| آبو بكر الصديق استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة، ثم إن المهاجرين بالآلاف، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، فكل رجل من المهاجرين أمة، مَن مِن هؤلاء سيتولى هذه الخلافة، وقد نتخيل أن الأمر شاق، وعسير، ولكن فلننظر ماذا حدث؟
| عمر يبايع أبا بكر رضي الله عنهما | قال الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:ابسط يدك نبايع لك. فقال عمر: أنت أفضل مني. قال أبو بكر: أنت أقوى مني. قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك. أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟ونحن نرى اليوم بعض الإخوة الملتزمين، ويفترض أنهم مدركين للدين جيدًا، ولكنهم يختلفون على إمامة مسجد، أو إمامة في صلاة، فماذا سيكون حالهم لو كانت إمامة أمة؟! تقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وقال:لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟وروى النسائي والحاكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس:ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر للصلاة؟قالوا: بلى.قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.هنا وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاروق، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة، وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور فماذا حدث؟ |
| والأنصار يبايعون أيضًا | قام أسيد بن حضير، وبشير بن سعد رضي الله عنهما يستبقان للبيعة، ووثب أهل السقيفة للبيعة، بايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه، وبايع زيد بن ثابت رضي الله عنه، وبايع كل الأنصار في السقيفة.إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه، وحتى لا يذهب الذهن بعيدًا، فإن سعد بن عبادة رضي الله عنه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة موقفه، فقد كان مبايعًا للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه لا يستطيع حراكًا لمرضه، ويحسب له أن أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه أي اعتراض على إمارة الصديق، بل إنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهدًا حيث استشهد هناك. وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا تاريخكم، تطلعوا حولكم، وشاهدوا في كل بلاد العالم، كيف يكون الصراع على السلطة؟آخر ما سمعت هو نصف مليون قتيل في صراعات على السلطة في أنجولا، وها نحن نرى ما يحدث في معظم بلاد العالم اليوم، ثم انظر ما يحدث أيضًا في البلاد التي يطلقون بلادًا حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات.والمحور الثاني: محاولة التعريض، والسب، والقذف، والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر.ألا يبحث كل مرشح عن عيوب غيره؛ ليبرزها للناس فيسجل بها نقاطًا لصالحه؟ألا تسمعون عن تزييف، وتزوير، ومكيدة؟ألا تسمعون عن قهر، وتعذيب، وظلم، وبهتان؟قارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة، وما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين ورقي هذا التشريع. لاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم كما لم يحضرها عامة الأنصار، بل حضرها رءوس القوم، ولذلك ففي اليوم التالي ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عامة الناس، وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد، حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة، ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، وهم أهل بيته: علي بن طالب ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، والعباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم،والزبير بن العوام ابن عمة رسول صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها. |
| الجميع يبايع الصديق رضي الله عنه | في اليوم الثاني صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر، ويقدمه إليهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي.يقصد مقالة أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى، وجميل جدًا أن يعترف الإنسان بأخطائه أمام الناس، وهذا من عظمة الصحابة.ثم يكمل: وما وجدتها في كتاب الله عز وجل، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى رسول الله صلى اله عليه وسلم سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا.أي أنه كان يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون آخر من يموت في هذا الجيل، ولكن الله عز وجل شاء أن يموت، حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونون نبراسًا لمن بعدهم، وهو اعتذار لطيف عما بدر منه أمس، فعمر قدوة وقد يتأثر به الناس.ثم قال عمر رضي الله عنه:وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.فقام الناس جميعًا من المهاجرين، والأنصار وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الخلافة، في إجماع عجيب، ثم قام الصديق رضي الله عنه، وخطب خطبته المشهورة الرائعة، ثم بعد الانتهاء من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه، وبايع أبا بكر الصديق، ثم جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما روى ابن سعد، والحاكم والبيهقي، وبايع في هذا اليوم الثاني، وهذا هام جدًا؛ لأن كثير من الناس، وخاصة الشيعة يطعنون في بيعة علي للصديق رضي الله عنه، ويصرون على أنها تأخرت ستة شهور كاملة بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وسنأتي إن شاء الله إلى تحليل موقف علي بالتفصيل فيما بعد، ثم بعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه وبايع الصديق على الخلافة. إذن اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق رضي الله عنه، واستقرت الأوضاع، واجتمع الناس على قلب رجل واحد، كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم، مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المصاب ما عطل شرعًا، ولا أذهب عقلًا، ولا أوقف حياة، لا بد للحياة أن تسير، وعلى الوجه الذي أراده الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم. | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #11موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:27 pm | |
| آبو بكر الصديق بعض ما أثير من شبهات بشأن بيعة الصديق رضي الله عنه | رواية الطبري بشأن سعد بن عبادةجاءت رواية عجيبة في الطبري، أعجب بها المستشرقون أيما العجب، وأظهروها في تأريخهم للحدث، ورددها وراءهم عدد من المعجبين بهم، والحق أن الطبري رحمه الله، مع أنه كان عالمًا جليلًا، وإمامًا عظيمًا، ما كان ينظر كثيرًا في إسناد الروايات التي يذكرها في كتابه، وقد اعترف هو بنفسه بذلك في مقدمة كتابه المشهور (تاريخ الأمم والملوك)، وقال إن همه كان الجمع، وليس التحقيق، وإن على علماء الرجال، والحديث، والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه.جاءت في الطبري رواية تقول:إن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال بعد مبايعة الصديق رضي الله عنه:لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي.فكان- كما تقول الرواية- لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجمعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم. أي في الحج.هذه الرواية الباطلة إذا بحثت في أسانيدها ذهب عنك العجب، ففي إسنادها لوط بن يحيى، وهو شيعي صاحب هوى معروف، كثير الكذب، متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله:إخباري تالف، لا يوثق به، ولم ينقل عنه إلا الشيعة، ولا يؤخذ بقوله البتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن. فالرواية سندًا لا تصح بالمرة، كما أنها متنًا لا تصح أيضًا، فمن المستحيل أن ينسب مثل هذا الكلام إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة، ومن المستحيل أن يقول مثل هذا الكلام، ولا يخاطبه فيه الصحابة، ولا يخاطب فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كلام في غاية الخطورة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه ليس رجلًا عاديًا، بل سيد الأنصار، ولو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، ولو كان هذا الموقف حقيقيًا، لذكرته كتب السيرة الموثقة، ولكنه لم يرد في أي كتاب سيرة، ولا كتاب سنن، ولا في أي كتب من الصحاح، وبذلك يتضح فيه الاختلاق، سواء في السند، أو في المتن.مسألة غضب علي والزبير يوم المبايعةتذكر إحدى الروايات أن عليًا والزبير غضبا يوم المبايعة، والرواية صحيحة، وفعلًا غضب علي رضي الله عنه، وغضب الزبير رضي الله عنه، ولكن لماذا غضبا؟أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانا يريان أن غيره أفضل، وطبعًا المقصود بغيره هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن، بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية وتركوا بقيتها، روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بسند صحيح كما صححه ابن كثير رحمه الله، قال:ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.إذن غضب علي والزبير رضي الله عنهما كان؛ لأن مشورة اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وهو أمر مفهوم ومقبول، ومن الطبيعي أن يغضبا لذلك، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعًا لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولا شك أن كثيرًا منهم من أهل الرأي والمشورة، كان ينبغي أن يكونوا حضورًا في اختيار الخليفة، ولا يكتفى بثلاثة من المهاجرين فقط، هذا عذرهم، لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة رضي الله عنهم معذورون كذلك في غياب بقية المهاجرين، وقد رأينا الأحداث بالتفصيل، وكيف أن أبا بكر وعمر كانا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اجتماع الأنصار، وجاء إليهما رجل أخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وفي الطريق لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على غير اتفاق، فأخذاه معهما، ودخلوا جميعًا السقيفة، وتسارعت الأحداث في السقيفة كما رأينا، وكان يُخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال، والخلاف والتفرق، فما حدث لم يكن القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، ولكن سرعة التقاء الأنصار، ولهم ما يبررهم كما بَيّنا سابقًا هي التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة، ويبدو أن بعض المهاجرين الآخرين كانوا يجدون في أنفسهم لنفس السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما، مما دعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقف خطيبًا في المهاجرين بعد المبايعة بأيام كما روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال:خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المهاجرين فقال:ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة، ولا سألتها في سر، ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قُلّدت أمرًا عظيمًا ما لي طاقة به ولا يد إلا بتقوى الله.فقبل المهاجرون مقالته. والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا، فهم يعرفون صدق الصديق، وزهده، ومكانته، وقلبه، وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعًا ما اختاروا غير الصديق رضي الله عنه، ولكنه رضي الله عنه أراد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئًا في استثنائهم، بل كان مضطرًا. إذن كان من الواضح أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهادًا مصيبًا منهم، فها هي آثار، ورواسب حدثت في نفس المهاجرين مع أن الخليفة أبا بكر منهم، فكيف لو كان من غيرهم؟ونعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمر قبلية، أو عصبية، أو اعتراض عن الاختيار، ولكن وجدوا في أنفسهم لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة، هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هو الذي حدا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، لم يفقههما القارئ غير المتتبع للأحداث، وللظروف التي قيلت فيها هاتان العبارتان:أما العبارة الأولى فقد قالها يوم السقيفة وبعد مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ قال رجل من الأنصار لعمر بن الخطاب:قتلتم سعدًا والله.يقصد قتلتم سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب:قتل الله سعدًا.وهذه رواية صحيحة، بل في البخاري، وهذه الكلمة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي دعاء على سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولا شك أنها تعبير عما يجيش في صدر عمر رضي الله عنه من أسى وحزن وغضب لاجتماع الأنصار بمفردهم، وذلك خشية الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيمًا ليس على رغبة المهاجرين، يروي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفسيرًا لهذا الموقف فيقول:وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ، أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا.أي مخافة أن يقتلا نتيجة الفتنة التي قد تحدث، وليس معنى دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بهذه الكلمة أن بينهما شقاقًا، أو كرهًا، فعمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة كما يغضب رجل من رجل عند الإختلاف، وهذا شيء طبيعي جدًا أن يحدث بين المؤمنين، ولكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا ما لم ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم، وليس من الطبيعي، ولا الفطري أن بتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر جميعًا، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم هو العودة سريعًا إلى الاجتماع بعد الاختلاف.العبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاءت في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال:بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا.يقصد أنه سيبايع فلانًا، وفلانًا هذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دون مشورة أحد، فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر، يكمل عمر فيقول: فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وتمت.فلتة بمعنى فجأة، فعمر يريد أن يحذر من يقول بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب، ومع ذلك تمت، ونجحت، وبويع أبو بكر، فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلًا فجأة، ويتم له الأمر.ثم يكمل عمر يصحح المفاهيم للأمة، ويقول:ألا وإنها- أي بيعة الصديق- قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها.وهذه عبارة هامة جدًا، يقصد عمر أن عملية الانتخاب الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم، فلا بد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور، وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن أن لا تقر من عامة المسلمين، لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم فاختار بعضهم طلحة مثلًا، واختار بعضهم عليًا مثلًا، واختار بعضهم عمر مثلًا، وهكذا، كيف يجتمعون؟ولذلك قال عمر بن الخطاب تعقيبًا على هذا الكلام: وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.أي أن السابق فيكم الذي لا يُلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له، فأبو بكر الصديق وقعت له المبايعة بالإجماع في الملأ اليسير في السقيفة، ثم وقعت له المبايعة في عامة الناس من رءوس القوم الذين لم يحضروا البيعة، وليس هذا إلا للصديق رضي الله عنه. لذا نصيحة عمر للأمة ألا تتسرع في أمر اختيار قائدها، فليس منهم من سيجمع الناس عليه مثلما أجمعوا على أبي بكر، فعليهم بالشورى المتأنية وبطرح كل الأسماء المرشحة، وبدراسة كل واحد منهم، ثم اختيار واحد، ومن المؤكد أن هذا الواحد سيكون مقبولًا من بعض الناس، ومرفوضًا من غيرهم، فإذا حدث اختياره بعد شورى حقيقية، أمن الشعب الفتنة، وإن أرغم الناس عليه إرغامًا فلا تؤمن الفتنة. سؤال لا بد أن يطرح نفسه الآن: |
| لماذا أجمع الناس على بيعة الصديق رضي الله عنه؟ | يبدو أننا مهما قلنا، ومهما شرحنا، ومهما ذكرنا من مواقف وأحداث، فإننا لن نوفي هذا الرجل حقه، فنحن إن كنا نقارنه بأناس عاديين، لكان يسيرًا أن نفقه هذا الاجتماع على صعوبته، لكنه رضي الله عنه، يقارن برجال أعلام أفذاذ عباقرة، ما تكرر في التاريخ جيل مثلهم، كل رجل منهم أمة، وأَخْرِج كتب السيرة، والتاريخ، واقرأ:- اقرأ مثلًا قصة حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فعله للإسلام والمسلمين منذ أسلم وحتى مات، اقرأ عن علمه، وعدله، وفقهه، وورعه، وتقواه.- اقرأ مثلًا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما قدمه في حياته الطويلة، اقرأ عن كرمه، وزهده، وعن أخلاقه.- اقرأ مثلًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن تاريخه المجيد، وفضله العظيم، وكلامه الحكيم، اقرأ عن قوته، وحكمته، وحلمه، وشجاعته، وذكائه.- اقرأ عن غيرهم من الصحابة، عن الزبير، عن طلحة، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن سعيد بن زيد، عن عبد الرحمن بن عوف، عن سعد بن أبي وقاص.من المؤكد أن كل اسم من هذه الأسماء يترك في النفس العديد من ذكريات من الإيمان، والجهاد، والبذل، والمروءة.- اقرأ عن حمزة، عن مصعب، عن سلمان، عن حذيفة، عن صهيب، عن بلال، اقرأ عن أبي ذر، عن معاذ، عن ابن مسعود، عن ابن عباس، عن عمار، عن خالد.- اقرأ عنهم وعن عشرات معهم، وعن مئات معهم، وعن آلاف معهم، بل عن ملايين معهم.- اقرأ عن عظماء، وعلماء المسلمين في كل عصر، وفي كل مكان، اقرأ عنهم جميعًا.- واعلم أنهم لو جمعوا في كفة جميعًا، كل من سبق ذكرهم، لو جمعوا في كفة، والصديق في كفة لرجح بهم الصديق،أيّ فضل!وأيّ قدر!وأيّ عظمة!وأيّ مكانة! | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #12موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:28 pm | |
| آبو بكر الصديق روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال:رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ، فَوُزِنَ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ، فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.أي رفعت الموازين، ويبدو أيضًا أننا لا نعطي القدر الكافي لعمر رضي الله عنه، ولعثمان رضي الله عنه، ونسأل الله أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل، لاحقًا إن شاء الله.نعود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهناك العديد من الأحاديث التي تذكر فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أكثر من أن تحصى هنا، فالصحابة ما ترددوا في اختيار الصديق، وما اختلفوا عليه؛ لأنه بالإجماع كان أفضلهم، وكانوا يعلمون ذلك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنمر قليلًا بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في حق هذا الرجل الجليل: - روي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. وفي رواية الطبراني زاد:فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره. - وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:كنا لا نعدل بأبي بكرٍ أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم.- وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال:كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت.- وأخرج الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.يعلق الذهبي على هذا الحديث فيقول:هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم.الرافضة أي الطائفة من الشيعة التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. - وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وبالطبع فهذا الحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنتجه عمر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح به من قبل.- روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟قال: عَائِشَةُ.قلت: من الرجال؟قال: أَبُوهَا.قلت: ثم من؟قال: عُمَرُ.قلت: ثم من؟قال عمرو بن العاص: فعد رجالا.- وروى الطبراني، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال:من فضل على أبي بكر، وعمر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أزرى على المهاجرين والأنصار.أي انتقص من المهاجرين والأنصار.- وروى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:متى الساعة؟قال: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.فقال الرسول: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بعملهم.فإحساس أنس رضي الله عنه بأبي بكر، وعمر، كان هو إحساس كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.- وأخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه وأحمد وغيرهم عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِيينَ وَالْآخِرِينَ خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ.الكهل بين الثلاثين والأربعين، وقيل المقصود بالكهل العاقل الحكيم، وأخرج الترمذي نفس الحديث عن علي. - وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ.وأخرج الطبراني نفس الحديث عن جابر بن سمرة وعن أبي هريرة. - وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما وقال:هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه. - وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. - وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال:هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمرو وبطرق أخرى عن ابن عباس وعن جابر. - وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ، وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ.والصحبة في الغار فضيلة ولا شك. هذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق على باقي الصحابة، وهي ليست كل ما ورد في حق الصديق رضي الله عنه، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها، وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السند يتفقون على أفضلية الصديق رضي الله عنه، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة رضي الله عنه أجمعين، هذه الدرجة العالية من الفضل، والإيمان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى إيمان الصديق، وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، وهذه درجة عالية جدًا في الفضل، بمعنى إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا عجيبًا غريبًا قد يشك فيه بعض الناس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن، ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق، درجة متناهية في الفضل بين الصحابة، وهاكم دليلا على ذلك: - أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل على الناس فقال:بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا، فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ:إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ.فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم.فقال صلى الله عليه وسلم:فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.وما هما ثَمّ.أي لم يكونا موجودين في هذا اللقاء الذي يتحدث فيه رسول الله، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم:وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَى الذِّئْبُ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلَبَهَا، حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ:هَذِهِ اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِي لَهَا غَيْرِي؟فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟قال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.وما هما ثَم.واختلفوا كثيرًا في شرح المقصود بحادثة السبع هذه، لكن الشاهد الثابت من القصة هو تكلم الذئب، وتكلم البقرة، وإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإيمانه بأن الصديق وعمر رضي الله عنهما سيؤمنون بذلك حتمًا، ولم يكونا حاضرين في المجلس، وهي فضيلة ولا شك للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. إذن ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث السابقة، وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعًا كانوا يعتبرونه أفضلهم، وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلاهم منزلة في الدنيا والآخرة، وهذا كله سَهّل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل إن هذا الأمر لم يكن خافيًا حتى على المشركين، كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة قربًا له، حتى في الهجرة لما اكتشف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته، والمشركون يحاصرون البيت ماذا فعلوا بعد هذا الاكتشاف؟أول شيء فعلوه أن ذهبوا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول له، ولا بد أن الصديق يعرف مكانه، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها على وجهها حتى أطار قرطها، لماذا تجاوز أبو جهل الحدود؟لأنه على يقين من أن الصديق رضي الله عنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعماه الحقد عن مراعاة قواعد الجاهلية من احترام حرمة البيوت، ومن عدم التعرض للنساء بالأذى. - في يوم أحد لما هزم المسلمون، وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، فالزعيم الأول بلا شك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان:أفيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟فلم يجيبوه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أمرهم ألا يجيبوه، فماذا قال أبو سفيان؟ لقد قال مباشرة:أفيكم ابن أبي قحافة؟فلم يجيبوه، إذن أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما لم يجيبوه قال:أفيكم عمر؟فلم يجيبوه أيضًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة، فهؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان: أما هؤلاء فقد كفيتموهم.هنا لم يملك عمر نفسه فقال:يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوؤك.إذن الشاهد من هذه الأمور أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب الرسول أو مات، طبعًا، بفضل الله، عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق، وبفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين، وطائفة من الشيعة، وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق رضي الله عنه، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة، ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو هم يعرفون وينكرون لأهداف خبيثة في نفوسهم، وللأسف الشديد فهذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق، وفي نزاهة الصحابة الذين اختاروا هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة في كثير منها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين، وفي ظل الهجمة الصليبية، واليهودية الشرسة على دين الإسلام، وعلى المسلمين، الطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة، وفي أقسام التاريخ، وأقسام السياسة، ولا بد للمسلمين من وقفة، ولا بد لعلماء المسلمين من انتباه، ولا بد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق، وفضل الصحابة، ويعلمونه أولادهم وتلامذتهم، فالدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في صلبه وفي عمقه. وقد يقال من قِبَل العلمانيين والمتشككين:آمنا معكم بفضله، ومكانته، وإيمانه، وتقواه، لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم، وورعهم لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فلم يعط لأبي ذر مثلًا وقال له:إنك امرؤ ضعيف.وولى عمرو بن العاص على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل؛ لأنه أبصر بالحرب، فقد يكون هناك ممن هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي لأن الأيام أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا إننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع كما يقولون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، نقول لهم:.ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟وهذا ما سنتناوله في الفصل القادم إن شاء |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #13موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:28 pm | |
| آبو بكر الصديق هناك من الشروط ما يتفق فيها كل الصحابة:الشرط الأول: الإسلاميتفق فيه كل الصحابة، وهو الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانيًا أو يهوديًا مثلًا، ولا تنظروا إلى ما يحدث في بعض بلدان العالم الإسلامي من ولاية النصارى على الدولة، مثل نيجريا مثلًا، فهذه مخالفة شرعية واضحة. الشرط الثاني: البلوغوهذا أيضًا يجتمع فيه كل الصحابة المرشحين للخلافة.الشرط الثالث: الذكورةلا بد أن يتولى أمور المسلمين وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها رجل، أعلم أن بعض البلدان الإسلامية تجعل على رئاستها امرأة، ولعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمامة، شرط الذكورة طبعًا يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة. إذن هذه الشروط الثلاثة الإسلام والبلوغ والذكورة لا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد. الشرط الرابع: العدالةثم شرط العدالة، والصحابة جميعًا عدول باتفاق العلماء، والعدالة: هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.والتقوى، وإن كانت من الأعمال التي تحتاج توافق بين الظاهر والباطن، والسر والعلانية إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطق فإن تعريف التقوى المطلوبة في الخليفة هو:اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة.لا بد ألا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولا بد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، مثل ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصيام، وفعل الكبائر الأخرى كشرب الخمر، أو الزنا، أو المجاهرة بفحش القول والعمل، أو القتل بغير حق، أو الاستهزاء بالدين، ولا بد أيضًا أن يتجنب البدعة فضلًا عن أن يدعو لها، واختلفوا في الصغائر؛ أي اجتنابها شرط أم لا، واتفقوا على أن الإصرار عليها يخل بشرط العدالة، أما المراد بالمروءة فهو:التنزه عن النقائص التي قد تكون مباحة، ولكن لا تصح في حقه. وهذه ترتبط بالشرع والعرف معًا، مثلا كثرة المزاح، وضياع الهيبة مثلًا تسقط مروءة الرجل، وإن كان صادقًا في مزاحه، وقديمًا كانوا يعتبرون الأكل في الشوارع والأسواق من مسقطات المروءة، لكن العرف الآن يجيز ذلك ولم ينه الشرع عنه كذلك. إذن شرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقيًا صاحب مروءة وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة، إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أكثرهم عدالة، وأعظمهم تقوى، وأشدهم مروءة، لما سبق من الأحاديث ولشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة.
| شروط تفَوّق فيها الصديق رضي الله عنه | تأتي بعد الشروط السابق ذكرها والتي يشترك فيها جميع الصحابة المؤهلين للخلافة في ذلك الوقت؛ تأتي شروط أخرى في غاية الأهمية، وهي تحتاج إلى بعض البحث في أحوال الصحابة لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، هذه الشروط المتبقية ثلاثة:- الشجاعة والقوة والنجدة.- العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة.- حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور. طبعًا هناك شرط رابع تحدثنا عنه من قبل وهو أن يكون من قريش وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا من قبل. فمع هذه الشروط الثلاثة؛ لكي نرى أين موقع الصديق منها | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #14موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:29 pm | |
| آبو بكر الصديق روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ مِنْ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ.
قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحًا وهو:
سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ.
أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، والطبراني عن معاوية رضي الله عنه، والبزار عن أنس وغيرهم.
أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن المطعم رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت، ولم أجدك. كأنها تقول الموت، قال صلى الله عليه وسلم: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ.
قال الشافعي: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال:
بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه سلم أن سله:
إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟
فأتيته، فسألته، فقال:
إِلَى أَبِي بَكْرٍ.
وهذا الحديث يكاد يكون صريحًا، فإن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.
أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكَ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
وهذا تصريح أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول ابن تميمة رحمه الله في منهاج السنة:
هذا نص جلي في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
لكنه لم يكتب كتابًا، لماذا؟!
يوضح ذلك ما جـاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي فيه مات: ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَكْتُبُ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدِي. ثم قال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ.
وهذا الحديث يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بوضوح فهو أيضًا من دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المسلمون فعلًا لم يختلفوا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما طرح اسمه للخلافة، بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانت بإجماع لم يحدث في مكان على الأرض لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، فلم تثبت حالات اعتراض على خلافة الصديق رضي الله عنه، غير ما أشاعه المستشرقون، وغيرهم وسنرد عليهم لاحقًا إن شاء الله.
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت:
من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟.
وفي هذا تصريح إنه لم يستخلف أحد صراحة لا أبا بكر ولا غيره،
قالت: أبو بكر.
قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟
قالت: عمر.
قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟
قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
وأبو عبيدة بن الجراح مات سنة 18 هجرية في ولاية عمر بن الخطاب، ولذلك لم يكن مرشحًا للخلافة عند استشهاد الفاروق رضي الله عنه سنة 23 هجرية.
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:
كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال:
يَا بِلَالُ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فلما حضرت صلاة العصر، أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر، فصلى.
ثم في رواية البخاري قال سهل بن سعد رضي الله عنه:
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص- أي شَقّ الصفوف- حتى وقف في الصف الأول، فصفق الناس.
يريدون أن يلفتوا نظر الصديق رضي الله عنه إلى وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول سهل بن سعد رضي الله عنه:
وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك.
بل إنه في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه ليتقدم للإمامة.
فرفع أبو بكر الصديق يديه فحمد الله، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى الصف، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، فلما انصرف قال:
يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟
فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَالِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قِحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرَبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.
أي سقوا إبلهم، ثم آووها إلى عطنها، وهو الموقع التي تستريح فيه الإبل. فهذا مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما، وظهور أثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره، وأوضح أصوله، وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأنزل الله تعالى:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}.
ثم توفى صلى الله عليه وسلم، فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهرًا وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم
ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ.
وحدث في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام، ثم توفى، فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله.
فعبر صلى الله عليه وسلم بالقليب عن أمر المسلمين، لما فيه من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقى لهم، وسقيه هم قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، وهذا فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ لم يمكث أبو بكر رضي الله عنه إلا سنتين، وأشهر قليلة، ومكث عمر فترة طويلة، ولذلك:
نَزَعَ نَزْعًا لَمْ يَنْزِعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.
الصديق يصلي بالناس
نأتي إلى حديث هام، وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس أيام موته، فظل يصلي بهم عشرة أيام والرسول صلى الله عليه وسلم ما زال حيًا، ولكن يمنعه المرض من القيام:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن لها، فقال:
مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فقالت له السيدة عائشة:
إن أبا بكر رجل أسيف- أي شديد الأسف والحزن، وفي رواية: رجل رقيق- إذا قام مقامك لم يستطع أن يُسمع الناس.
فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر مرة ثانية،فردت عليه نفس الرد، فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مصرًا على رأيه، فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد للمرة الثالثة فقال: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ.
وهو صلى الله عليه وسلم يقصد عائشة رضي الله عنها، ويقصد بصواحب يوسف امرأة العزيز حيث دعت النساء إلى رؤية يوسف عليه السلام بفرض أن يعذروها في حبها له، لكن الظاهر من الدعوة الإكرام في الضيافة، وكذلك موقف السيدة عائشة، ثم حفصة بأمر عائشة، ظاهره أن أبا بكر رجل أسيف، لكن باطنه أن السيدة عائشة لا تريده يصلي بالناس لكيلا يتشاءم الناس به إذا وقف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على ذلك، وقال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فخرج أبو بكر فصلى، ثم تكمل السيدة عائشة، كما جاء في البخاري، فتقول: فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يُهَادى بين رجلين- العباس وعلي رضي الله عنهما - كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه- وفي رواية إلى يساره وهو مقام الإمام- قيل للأعمش أحد رواة الحديث: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه نعم.
يعني في هذه الصلاة بدأ أبو بكر الصلاة إمامًا، ثم لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح هو الإمام إلى آخر الصلاة.
والذي يدعونا إلى قول أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس خشية أن يتشاءم به الناس، ما جاء في كلامها هي في البخاري أيضًا حيث قالت: لقد راجعته، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا.
ولعل السيدة عائشة أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية، منها على سبيل المثال أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة، ومن ثم الخلافة إلى أبيها، وقد حدث وطعن الطاعنون فيها بعد ذلك رغم هذا التردد، ومنها أن تشهد حفصة بنت عمر رضي الله عنها على هذا الأمر، لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة، وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه، وذلك لقوته، وحسن إدارته، وسطوته على الكفار، والمنافقين، فهي بذلك أشهدت أولى الناس بالشهادة، حتى يعلم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مترددًا في أمر إمامة أبي بكر الصديق، وأنه كان حاضر الذهن عندما عهد له بذلك، وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام، وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور، أو لا تقصدها، فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل، وظهر واضحًا لعموم المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
هذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال:
رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا.
كما روى الحاكم في مستدركه؛ أي رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.
أيضًا استنبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة، يوم قال للأنصار:
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى.
قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.
روى ذلك النسائي والحاكم.
وظل أبو بكر يصلي بالناس طوال فترة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة مرة أخرى، فقد أقعده المرض عن ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرًا على أن لا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك.
يروي أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال:
لما اسْتُعِزّ برسول الله صلى الله عليه وسلم- أي اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال:
مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
وهنا لم يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم باسم أبي بكر أو غيره، يقول: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا، فقلت:
يا عمر قم فصل بالناس.
وواضح أن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الذي يجب أن يصلي بهم هو أبو بكر، لكنه لم يكن موجودًا، فليكن عمر، يقول عبد الله بن زمعة رضي الله عنه:
فتقدم عمر فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلًا مجهرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ.
فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله زيادة حيث جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عبد الله بن زمعة رضي الله عنه وقال له- بعد الصلاة لما سمع غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم-:
ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. فقال عبد الله بن زمعة رضي الله عنه: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
هذا الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد إنه يريد أبا بكر لذاته، وإلا فالصلاة صحيحة، وعمر من أفاضل الرجال، بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق، ولكن في هذا المقام أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يلتبس الأمر أبدًا على المسلمين بعد وفاته، فلا يختلفون على الصديق رضي الله عنه.
تعليقات مهمة على إمامة الصديق للناس في الصلاة
الرشيد يستفسر من ابن عياش
ومن ألطف التعليقات على قضية إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمسلمين في أثناء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عدي رحمه الله عن أبي بكر بن عياش، وهو من العلماء في زمان الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله، قال: قال لي الرشيد:
يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟
يبدو إنه كانت هناك بعض الأمور المبهمة، أو الغامضة في ذهن الرشيد، فيريد أن يتأكد، فقال أبو بكر بن عياش رحمه الله:
يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون.
قال الرشيد: والله ما زدتني إلا غمًا.
يعني لم أفهم ما تقصد، فقال أبو بكر بن عياش:
يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله من يصلي بالناس؟
قال: مُرْ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام، والوحي ينزل، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله.
أي أنه لو إن الله يريد غير أبي بكر لأخبر رسوله عن طريق الوحي، ولكن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر كان اختيارًا يرضي الله عز وجل.
وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأعجب ذلك الرشيد رحمه الله وقال: بارك الله فيك.
أبو الحسن الأشعري يعلق أيضًا
من التعليقات اللطيفة ما علق به أبو الحسن الأشعري رحمه الله على مسألة تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة حيث قال: وتقديمه له، أي تقديم أبي بكر في الصلاة، أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن الصحابة جمعيًا علموا هذا الأمر، وقبلوا أبا بكر إمامًا لهم وتواتر ذلك عنهم، ثم قال الأشعري رحمه الله:
وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم، لما ثبت في الحديث المتفق عليه صحة بين العلماء:
يَؤُمُّ الْقَوْمُ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا.
أي إسلامًا، هذا لفظ الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وفي رواية أخرى:
أَكْبَرْهُمْ سِنًّا بَدَلًا مِنْ أَقْدَمُهُمُ سِلْمًا.
يعلق ابن كثير رحمه الله على كلام الأشعري رحمه الله بقوله:
وهذا كلام من الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهناك تعليقات من بعض الصحابة، والعلماء على استخلاف الصديق رضي الله عنه ومنها
رأي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقبل أن نذكر رأيه نقدم له بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
روى الترمذي وحسنه كذلك الإمام أحمد، وصححه الألباني ،عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي- وأشار إلى أبي بكر وعمر- وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ.
ماذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال فيما رواه الحاكم وصححه:
ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ، وقد رأى الصحابة جمعيًا أن يستخلفوا أبا بكر.
أي أن استنباط ابن مسعود أن هذا ليس فقط حسن عند المسلمين، بل حسن كذلك عند الله عز وجل.
- وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
أجمع الناس على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه اضطر الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي اضطروا إلى أن يجعلوا عليهم قائدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرًا من أبي بكر، فولوه رقابهم.
- يقول معاوية بن قرة رحمه الله- وهو من التابعين-:
ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال.
- قال الخطيب البغدادي رحمه الله:
أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسم أحد بعده خليفة.
خلافة الصديق في القرآن
بعض العلماء استنبطوا من بعض آيات القرآن الكريم أحقية أبي بكر الصديق بالخلافة واستنبطوا أن خلافته كانت خلافة حق:
- علق أبو بكر بن عياش رحمه الله على الآية الكريمة:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8} .
قال أبو بكر بن عياش رحمه الله:
من سماه الله صادقًا ليس يكذب، والمهاجرون قالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خليفة حقًا لا يكذبوا.
علق ابن كثير رحمه الله على هذا الاستنباط فقال: استنباط حسن.
- وقال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره للفاتحة أن قوله عز وجل:
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ] {الفاتحة:6،7} .
فيه إشارة إلى اتباع الصديق رضي الله عنه، ومن ثَم استخلافه، قال:
إن الله يأمرنا أن نطلب الهداية إلى طريق الذين أنعم عليهم الله، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟
فسرها ربنا في سورة النساء يقول:
[وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] {النساء:69} .
فهذه هي الأنواع التي أنعم الله عليها، والتي أمرنا الله بطلب الهداية إلى طريقها، ولم يعد هناك أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم أن نكون مع الصديقين.
ويقول الرازي: إنه لا شك أن الصديق رضي الله عنه هو رأس الصديقين ورئيسهم، ومن ثَم فإننا أمرنا أن نتبعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقال الحسن البصري رحمه الله فيما رواه البيهقي في قوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {المائدة:54}.
قال الحسن البصري:
هو والله أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الإسلام.
- وقال قتادة تعليقًا على نفس الآية:
كنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه.
- وهناك آية علق عليها كثير من العلماء تعليقات كلها تشير إلى خلافة الصديق رضي الله عنه، هذه الآية في سورة الفتح هي:
[قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:16} .
فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مكة في عام الحديبية نزل فيهم هذا القول من الله عز وجل، يقول فيه الله عز وجل لهم: ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون، فالله عز وجل سوف يعطيهم فرصة أخرى للخروج للجهاد، بعد تخلفهم في الأمر الأول، وبعد نفاقهم، وقولهم شغلتنا أموالنا وأهلونا، إذن سيدعي هؤلاء إلى قتال شديد سيأتي بعد من الحديبية.
من الذي يدعوهم إلى هذا القتال؟
قال القرطبي رحمه الله والزمخشري في الكشاف وأبو الحسن الأشعري رحمه الله:
إن الداعي لهم ليس النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القوم الذين سيدعون لقتالهم ليسوا هوازن وثقيف كما قال بعض المفسرين، والذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين والطائف، لماذا؟؟
لأن الله عز وجل أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين المخالفين الذين لم يشتركوا معه في القتال:
[فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ] {التوبة:83} .
إذن أُمر رسول الله عز جل أن لا يدعوا هؤلاء المخلفين إلى القتال، فمن هم يا ترى القوم ألو البأس الشديد، هم بنو حنيفة أهل اليمامة، وأتباع مسليمة الكذاب، ومن ثم فإن الذي دعا إلى قتالهم هو الصديق رضي الله عنه، فلزم أن يكون هو الخليفة الصحيح في هذا الوقت، يقول رافع بن خديج رضي الله عنه إننا كنا نقرأ هذه الآية:
[سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ] {الفتح:16} .
فلا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم، قال ابن أبي حاتم وابن قتيبة رحمهما الله: هذه الآية حجة على خلافة الصديق، لأنه الذي دعا إلى قتالهم، وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: سمعت أبا العباس بن شريح رحمه الله يقول:
خلافة الصديق رضي الله عنه في القرآن من هذه الآية، لأن أهل العلم أجمعوا على إنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبي بكر للناس إلى قتال أهل الردة، ومن منع الزكاة، فدل ذلك على وجوب خلافة أبي بكر وافتراض طاعته، إذ أخبر الله عز وجل أن المتولي عن ذلك يعذب عذابًا أليمًا.
أما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخرساني رحمهم الله جميعًا فقد قالوا:
إن القوم أولي البأس الشديد المقصودين في الآية هم فارس، ومن المعروف أيضًا أن الذي دعا لقتالهم وفتح فارس هو الصديق رضي الله عنه، فكما يقول ابن كثير رحمه الله فهي أيضًا دالة على خلافة الصديق رضي الله عنه.
أما كعب والحسن رحمهما الله فقالا: إن المقصود بالقوم أولي البأس الشديد: الروم، وسبحان الله، أيضًا الذي دعا إلى قتال الروم هو الصديق رضي الله عنه.
فعلى أي تفسير لهؤلاء القوم فالصديق هو الخليفة المقصود، فأي شرف، وأي فضل، وأي قدر، الزعيم قد يخلد ذكراه، ويمجد تاريخه بالدعوة إلى حرب قوم أولي بأس شديد بني حنيفة، أو فارس أو الروم، أما أن يدعوا إليهم جميعًا فهذا هو المجد بعينه، وهذا هو الشرف بعينه، ولا يكون هذا إلا الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
- آية أخرى من آيات الله عز وجل قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره إنها منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه، وعلى خلافة الثلاثة من بعده، يقول الله عز وجل في سورة النور:
[وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} .
يقول ابن كثير رحمه الله:
فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف، والتمكين في أمر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، دل ذلك على أن خلافتهم حق.
*وبعد فهذه مجموعة من الأحاديث، والآيات وهناك غيرها من الأحاديث التي أعرضت عنها إما لتكرارها أو لضعفها، كل هذه الأحاديث والآيات تشير إما قريب أو بعيد إلى رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه.
موقف العلماء من هذه الأحاديث والآيات
ينقسم إلى نوعين ليس بينهما خلاف كبير، الكل يتفق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرغب في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولكن الخلاف بينهما في هل كان ذلك بالنص الجلي الصريح، أم بالنص الخفي والإشارة:
- فمن العلماء مثل ابن حزم الظاهري رحمه الله فقد قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر بالنص الصريح الجلي، واستشهد بأحاديث مثل حديث المرأة الذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ.
وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة:
ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُول قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
وبحديث الرؤيا التي على القليب ورؤيا الأنبياء حق، وغير ذلك من الأحاديث.
- أما الطائفة الأخرى من العلماء فقد قالت أن استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق كان بالإشارة والنص الخفي، وليس صريحًا، ينسب هذا القول مثلًا إلى الحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وابن تميمة، وطائفة كبيرة من أهل الحديث، وهذا هو الرأي الغالب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يصرح فيقول إذا مت فليكن أبو بكر من بعدي، هكذا بوضوح، والأمر ليس أمرًا ثانويًا في حياة المسلمين حتى يتعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بهذا الأسلوب الغير المباشر، إذن كانت هناك حكمة نبوية من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصرح باستخلاف، وترك الأمر لمجرد الإشارة، وكان هناك رضا من الله عز وجل على هذا التلميح دون التصريح لأن كل أمور الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عن طريق الوحي فكيف بهذا الأمر الخطير،
يؤكد هذا المعنى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحًا، ما جاء في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته، فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال عمر:
إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني- يعني أبا بكر- وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويؤكد على هذا أيضًا ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها في أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟
إذن هو لم يستخلف.
فإذن كان الحق أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فلماذا لم يصرح صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟
لماذا لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أمرًا مباشرًا بتعيين أبي بكر خليفة؟
الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة
بالطبع فإن الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمون يدبرون أمرهم في غيابه هو صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحيًا، وليس لهم عصمة، ماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الآن بوضوح؟ لكانت النتيجة إنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، وما فائدة هذا الحوار؟
لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟
وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه القضايا؟
وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟
وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟
وما هي حدود الشرع ما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟
وما هي صفات الخليفة المنتخب؟
وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟
ماذا يحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لهم أبو بكر بالتصريح؟
كان أبو بكر سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟
وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟
لقد اكتمل نمو الصحابة رضوان الله عليهم، وحان وقت الفطام عن الوحي والعصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة، دون رسول حي بين أظهرهم، إذا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم، فليكن هذا الجيل الراقي الرائع النقي التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار، حتى يعطي القدرة والمثل لمن بعدهم، هذا أول ما يبدو لي في هذا الأمر.
ثم أمر آخر ألاحظه:
2- هو أنه لو فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين فرضًا بالتصريح، لكان لزامًا عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترضى نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟
في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كان القوم يخضعون عند الاختلاف إليه، وذلك لمكانته صلى الله عليه وسلم العظيمة في قلب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم أنه معصوم صلى الله عليه وسلم، أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جدًا أن يحدث اختلاف في الرأي لا يَرُد بوحي لا عصمة، وهنا سيقول الناس هو رجل- أي الخليفة- ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل على المسلمين دون اختيارهم سيسبب ضعفًا في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخابًا حقيقيًا من شعبه وأتباعه فإنه يعطي قوة لا مثيل لها، فالجميع يرضى له والجميع يستمع لرأيه، بل الجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل قد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أوتوا به حقيقة إلى هذا المكان.
إذن فالانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لأبي بكر أعطى له قوة حقيقية، وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ، أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث، ومهما تغيرت الظرف، وقد شاهدنا هذا بأعيننا بعد ذلك في حياة الصديق رضي الله عنه كخليفة، فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كانت من الممكن أن لا تلقي هوى في قلوب الناس، أو اقتناعًا في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم، وعلى بصيرة، وثقة في إمكانياته، وإيمانًا بقدراته، فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة، أو ضجر، أو تقصير في الاتباع.
3- الأمر الثالث الهام في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض أبا بكر فرضًا على الأمة: أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحًا من ورائه، لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وإنه سيأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فإن جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلًا آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم بعدم استخلافه على العكس من ذلك ، قد أرسى سنة أن يجتمع المسلمون ويختارون من بينهم من يصلح لهذا الأمر،
وقد يقول قائل إن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف عمر بن الخطاب دون انتخاب، فالرد على ذلك أنه لن يوجد في أجيال المسلمين من هو في قدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد استشار كبار الصحابة في هذا الأمر، ولم يكن هناك من بعد أبي بكر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنه كانت رغبة واضحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون عمر بعد أبي بكر في الخلافة فما أكثر الأحاديث التي رتبت الخليفتين العظمين بهذا الترتيب، وليس المجال هنا لذكرها، ثم- وهذا هو الأهم- لم تصح خلافة عمر، إلا بعد أن بايعه الناس بعد وفاة الصديق رضي الله عنهما، ولو لم يبايعه الناس لوجب اختيار خليفة آخـر يرضى عنه الناس.
ثم مرت الأيام، وقربت منية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرر أن يجعل الأمر بالانتخاب بين المسلمين، وما أراد أن يستخلف مع علم الجميع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضل الصحابة، بعد العملاقين الكبيرين أبي بكر وعمر، ومع ورود أحاديث كثيرة ترتب عثمان بعد أبي بكر وعمر مباشرة، ومع كون عثمان يزن أمة المسلمين إذا خلا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، مع كل هذا إلا إن عمر بن الخطاب أراد أن يرسي قاعدة الانتخاب، وكان يعلم أن الأمر سيئول إلى عثمان بن عفان لعظم قدره بين الصحابة.
وبالفعل هذا ما حدث، وعندما مر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على كل أهل المدينة يرى من يختارون عثمان أم علي، بعد انسحاب بقية الستة المرشحين للخلافة، وجد إجماعًا من عامة المسلمين إلا قليل القليل على اختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه خليفة للمسلمين، المهم أن القاعدة أرسيت وعلمت بذلك طرق اختيار الخليفة في الإسلام، فإما عن طريق الانتخاب، وهذا أفضل، وإما عن طريق الاستخلاف، وهذا جائز، وإن كان لا يكتمل إلا بموافقة الناس.
إذن هذه أمور ثلاثة ذكرناها لعلها تشير إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التصريح بخلافة أبي بكر الصديق، وترك ذلك للمسلمين والاكتفاء بالإشارة، هذه الأمور بإيجاز هي:
- إعطاء الفرصة للمسلمين؛ كي يديروا حياتهم بمفردهم دون وحي، واستغلال وجود أفضل جيل على الأرض؛ ليقوم بهذه المهمة لإعطاء القدوة لمن بعدهم.
- إعطاء القوة والشرعية للخليفة المنتخب من قبل شعب المسلمين، بدلًا من فرضه على الناس دون انتخاب حقيقي.
- إرساء قاعدة الانتخاب، وتجنب قاعدة الاستخلاف قدر المستطاع، حيث إن الهوى قد يتحكم بها، وبالذات عند اختفاء الأفذاذ من الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان.
ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته بالأمة، فهو يريد لها ما يصلح شأنها، وبالذات بعد مصيبة وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن خير الأمة سيكون في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقوم بأمر وسط يمزج فيه بين الاستخلاف وعدم الاستخلاف، ويقدم أمرًا يشبه الاقتراح، وليس الفرض، وبذلك تتحقق قاعدة عدم الاستخلاف، وترسى قاعدة الانتخاب، وفي نفس الوقت ينتخب من أراده صلى الله عليه وسلم، وفي هذا حكمة متناهية وصدق الله العظيم إذ يقول:
[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3،4} .
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث خطوات رئيسية لضمان هذا الاستخلاف دون تصريح:
خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم لضمان استخلافه
أولًا: قال صلى الله عليه وسلم: الْأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ.
وبذلك ضَيّق إلى حد كبير قاعدة الانتخاب، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو كان الأمر في قريش فهو، ولا بد سيئول إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لمكانته.
ثانيًا: أراد التأكيد على استثناء الأنصار؛ لأنه قد يحظر ببالهم كما ذكرنا من قبل أنهم أصحاب البلد، والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة، فيجب أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم، ولكن بأسلوب حكيم لا يجرح شعورهم، ولا يقلل قيمتهم، فقام بحكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كانوا خلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على ولي الأمر أن يستوصي بالأنصار خيرًا، وأكثر من مثل هذه الأحاديث وخاصة عندما قربت منيته صلى الله عليه وسلم، وكان في مرض الموت حتى يؤكد على هذه الحقيقة.
مثال ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار رضي الله عنهم وهم يبكون، فقال:
ما يبكيكم؟
قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا.
وكان هذا في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم الأخير، فهم يبكون لإحساسهم أنهم سيفارقون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال:
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي.
يقصد أن الأنصار بطانتي وموضع سري.
وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ.
والأنصار قضوا ما عليهم: وهو ما كان في بيعة العقبة الثانية، كما يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وهو إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصرته.
وبقي الذي لهم: وهو الجنة، فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعلى من يتولى أمور المسلمين أن يقبل محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
أيضًا في نفس هذا المعنى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء (أي شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم أي الدهن)، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ.
وانظر إلى روعة التشبيه، فهم سيقلون جدًا ليصبحوا كنسبة الملح في الطعام ومع ذلك، فإن الملح شيء لا غنى عنه في الطعام.
ثم يكمل صلى الله عليه وسلم فيقول:
فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وهذه إشارة واضحة بأن الذي سيلي أمور المسلمين ليس من الأنصار.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أشار في أحاديث عديدة، كما ذكرنا لرغبته في استخلاف الصديق رضي الله عنه، وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريق الانتخاب أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وقفة وسؤال:
هل كانت كل هذه الإشارات، والمواقف، والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه في الخلافة؟ أم إن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟
الحقيقة أن الأمرين معًا كانا مقصودين:
الأمر الأول: هذا حق الصديق رضي الله عنه لفضله، ومكانته، وقدراته، وكفاءاته، ولا يجب أن يولي غيره في وجوده.
والأمر الثاني الهام جدًا: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه دون غيره.
خلافة الصديق كانت رحمة بالأمة
كان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتغيير في نسق الحياة، والإدارة، والمعاملة، قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة، فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس، والتخبط، وعدم توقع خطوات المستقبل.
و الصديق رضي الله عنه لطول صحبته لرسول اله صلى الله عليه وسلم، ولقدم العشرة حتى قبل نزول الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرورًا بفترة مكة، والهجرة، وكل المشاهد، والغزوات في المدينة، كان يعرف كل دقائق حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته، وخاصة وأن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في كثرة اللقاءات بينهما، حتى أنه كثيرًا ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العِشاء يتبادلان الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره، ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء.
فوق هذا الاطلاع على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الصديق تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثاره قدر الوسع، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل قبل ذلك.
إذن هو امتلك الرغبة، والعلم الذي يؤيد هذه الرغبة، ومن ثَم كانت حياته رضي الله عنه امتدادًا طبيعيًا جدًا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شعر المسلمون بتغير ملموس في أساليب الإدارة، والمعاملة، والاختيار بين الآراء، وما أحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حيًا لفعل أو رأى غير ما فعل أو رأى الصديق رضي الله عنه، كيف لا وهو الذي قال صلى الله عليه سلم: اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وقال: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي.
فهو صلى الله عليه وسلم كما أطلعه الوحي يعلم أن الخلفاء الراشدين لن يغيروا بعده، وسيختارون من الرأي والفعل ما يرضي الله ورسوله.
ثانيًا: كان اختيار الصديق رضي الله عنه خليفة للأمة فيه مصلحة أخرى كبير، وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة، وكارثة مروعة، وهي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكارثة انقطاع الوحي، وتحتاج في هذه المصيبة إلى الرحمة، لا الشدة، وإلى الرفق، لا العنف، ومَن أرحم بالأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الصديق رضي الله عنه؟
لا نقول نحن ذلك، بل قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي، وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ.
فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها، وهو الصديق رضي الله عنه.
ثالثًا: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضًا أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتًا، وأرسخهم قدمًا، فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالًا عظامًا، وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيرًا من التجمعات، والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، من يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟
من أشد الصحابة ثباتًا وعزيمة؟
من أكثرهم يقينًا في وعد الله بالنصر؟
من أعظم الصحابة غيرةً على الدين؟
إنه الصديق ولا شك في ذلك، ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتًا في كل المواقف، والمشاهد، والأهوال، ظل ثابتًا في الردة، ظل ثابتًا أمام فارس، وظل ثابتًا أمام الروم، ما لانت له قناة وما اهتز له جفن.
- يروي لنا البيهقي بسند صحيح كما ذكر ابن كثير رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال ثانية، ثم قال ثالثة، أي كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له:
مه يا أبا هريرة- أي كفاك ما قلت- إنه لقول عجيب.
فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثًا يبرهن بها على صدق مقولته، قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب (مكان قريب إلى المدينة) قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وار |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #15موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:30 pm | |
| آبو بكر الصديق وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء- يقصدون جيش أسامة- تُوَجه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟
فقال الصديق رضي الله عنه:
والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيش وَجّهه رسول الله، ولا حللت لواءًا عقده رسول الله.
فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
إذن ثبات الصديق رضي الله عنه كان رحمة من الله بالأمة، فاستمرت دعوة الإسلام وتوطدت أركان الدولة، واحتفظت الأمة الإسلامية بمكانتها وهيبتها.
لكل ما سبق نستطيع أن القول بأن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة للمسلمين كان اختيارًا عادلًا موفقًا صحيحًا، بل رحيمًا بالأمة.
كان ذلك لأنه أفضل الصحابة مطلقًا.
كان ذلك لأنه تتوافر فيه شروط الخليفة على أفضل ما يكون، ويتفوق فيها على كل الصحابة.
كان ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان راغبًا في استخلافه وإن كان أشار ولم يصرح.
وكان ذلك لأن مصلحة الأمة الإسلامية كانت في استخلاف هذا الرجل رضي الله عنه. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #16موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:31 pm | |
| آبو بكر الصديق مع كل ما سبق عرضه، إلا أننا نجد المغرضين لا يعجبهم ذلك، فقد أكثرت طوائفهم، وفرقهم، من شيعة، وعلمانية، ومستشرقين، من وضع الشبهات، وأكثروا من الطعن في كل رموز الإسلام، في أبي بكر، في عمر، في علي، في عائشة، في سعد بن عبادة، وفي غيرهم ولعلنا نضع هنا سؤال:
- إذا لم يكن الصديق رضي الله عنه فمن غيره يكون خليفة؟!
وهذا ليس مجرد عصف ذهني، أو مجرد طرح نظري لأسماء أخرى، ولكن هذا السؤال؛ لأن هناك طوائف مختلفة من المشككين في خلافة الصديق رضي الله عنه طرحت أسماء أخرى؛ للطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولتشويه الصورة الجميلة للجيل الأول، ولأهداف أخرى كثيرة، كثير من المستشرقين فعل ذلك، وسار على نهجهم بعض المستغربين من أبناء المسلمين، وكثير من طوائف الشيعة أيضًا فعلت ذلك، ولم يطعنوا في خلافة الصديق رضي الله عنه فقط، بل في خلافة عمر وعثمان أيضًا رضي الله عنهم أجمعين.
وتكاد تنحصر الأسماء المرشحة في شخصين:
الأول: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثاني: هو سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيم الخزرج والأنصار.
أما سعد بن عبادة فقد تحدثنا عن تفصيلات موقفه، ولماذا كان مرشحًا للخلافة؟ وكيف نزل الأنصار عن رأيهم بترشيحه؟ والعدول بعد ذلك إلى ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ وكيف بايعوا جميعًا بما فيهم سعد بن عبادة رضي الله عنه؟
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يطرح اسمه حقيقة من أحد، اللهم إلا من أبي بكر الصديق نفسه يوم السقيفة، لما رشحه للخلافة وقال:
أنت أقوى مني.
فقال عمر:
قوتي مع فضلك.
والجميع يعلم أن أبا بكر مقدم على عمر، وعمر نفسه كان يقول:
والله لئن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلى علي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
كما أن الشدة المعروفة عند عمر رضي الله عنه لم تكن مناسبة للأمة، وهي خارجة من المصيبة الكبيرة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
شبهة أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة
إذن يبقى اسم واحد محل كلام ونقاش وجدال، وهو البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، أشاع كثير من الشيعة أنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأعجبت الفكرة كثير من المستشرقين، فذكروها في كتبهم على أساس أن الخلافة حق منهوب من علي بن أبي طالب، بل إن بعض الشيعة المتطرفة تجاوزت الحدود في علي بن أبي طالب، وادعت أنه كان أولى بالرسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم في ذلك تخاريف عظيمة، بل إن طائفة أخرى تجاوزت هذا الأمر إلى تأليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تعالى الله عما يصفون، هذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر في أواخر أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، في بدايات الفتنة واتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من المغرضين في دين الله، ومحاولتهم هدم الإسلام من جذوره وأصوله، دخل في دين الله كثير من اليهود والمجوس الذين أرادوا أن يقسموا الدولة الإسلامية إلى طائفتين متنافرتين من جهة، وأن يطعنوا في رموز الصحابة من جهة أخرى، وقد يكون عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أشاع بين الناس فكرة التشيع لعلي بن أبي طالب، وإنه أولى بالخلافة من عثمان بن عفان، بل ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وكان لعبد الله بن سبأ أعوان من قبائل شتى، كلها تنقم على الإسلام لأسباب مختلفة، وكثير منهم من أرض فارس حيث الأقوام الذين أكل الحقد قلوبهم، لانهيار دولتهم على أيدي المسلمين بقيادة أبي بكر، ثم عمر رضي الله عنهما.
وما زالت إلى الآن هذه المغالاة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأكثر طوائف الشيعة اعتدالًا ترى شرعية خلافة الصديق، وعمر على سبيل جواز إمامة المفضول للفاضل، أي أنهم يزعمون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لكن يجوز أن يتولى الخلافة الأقل فضلًا، هذا الفكر المتشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يقتصر فقط على طوائف الشيعة، بل كما ذكرنا أعجبت الفكرة المستشرقين، فذكروها في كتبهم، وأفردوا لها البحوث، والتحليلات، وانتقل هذا الفكر إلى طائفة من المسلمين المحسوبين على أهل السنة، والمتعلمين على أيدي هؤلاء الغربيين، والله لقد قرأت في هذا الموضوع كتابات يقشعر منها البدن، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من أولئك الذين يطعنون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وما زال هذا الفكر يدرس إلى الآن في جامعات إسلامية وغربية كثيرة.
وسؤال هام قد يطرأ على الذهن:
لماذا اختار عبد الله بن سبأ اليهودي، أو غيره ممن ابتدع هذه الفكرة، لماذا اختاروا اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليدعوا أنه كان أحق بالخلافة؟
لماذا لم يختاروا أي صحابي جليل آخر، وما أكثر الصحابة؟
لقد فكر هؤلاء في أنه لكي يقتنع الناس بشخصية أخرى غير الصديق رضي الله عنه، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما لا بد أن يأتوا باسم تهفو له نفوس المسلمين بصفة عامة، ويشعرون بعاطفة كبيرة نحوه، ونفوس المسلمين قد تهفو إلى كل الصحابة، إلا أن علي رضي الله عنه يتميز عنهم بأمرين هامين جعلا المغرضين يختارونه لهذا الأمر، أما الأول:
فهو لقرابته رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمه ومن بني هاشم وأقرب إلى الرسول من أبي بكر وعمر وعثمان.
وأما الثاني فهو أنه زوج ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو أحفاده الحسن والحسين رضي الله عنهما أولاد السيدة فاطمة رضي الله عنها، وليس هذا لأحد غيره، نعم تزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه ابنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن له أولاد من السيدة رقية والسيدة أم كلثوم يحملون نسل الرسول صلى الله عليه وسلم.
لهذين السببين اختاروا على بن أبي طالب كي يستغلوا اسمه في تفريق المسلمين إلى طائفتين شيعة، وسنة وما زال هذا التقسيم إلى الآن موجودًا.
وقبل أن نرد على هذين الأمرين فإننا نريد أن نقول أننا لا يجب أن يدفعنا حبنا للصديق رضي الله عنه، ورفضنا لفكرة الإشاعة بأن علي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من الصديق رضي الله عنه، لا يجب أن يدفعنا هذا الأمر إلى التقليل من شأن الصحابي الجليل العظيم على بن أبي طالب رضي الله عنه، فله من المناقب والآثار ما نعجز عن وصفه في مجلدات ومجلدات، وهو أول من أسلم من الصبيان، وله مواقف مشهورة في تاريخ الإسلام، وفي الهجرة، وفي كل الغزوات، وكان مقربًا لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف عظيمة حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ثم في خلافته هو رضي الله عنه، وفي الجملة فهو من أفضل الصحابة على الإطلاق، بل يجزم كثير من العلماء المسلمين أنه رابعهم في الفضل بعد الصديق أبي بكر، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان رضي الله عنهم جميعًا، إذا وضعنا هذه الخلفية في عقولنا، فإننا نكون في مأمن من التقليل من حجم شخصيته، وهذا هو عين الصواب في التعامل مع جيل الصحابة بأكمله، رضي الله عنهم أجمعين.
ونعود إلى الأمرين اللذين تميز بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه على غيره من الصحابة، وهما قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزواجه من ابنته فاطمة رضي الله عنها.
أما الأمر الأول: قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل تكفي القرابة لتقديم شخص على آخر؟
وهل تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم يشير من قريب، أو بعيد في جعل هذا الأمر لقرابته؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
الْأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ.
ولو أراد لقال الأئمة في بني هاشم، لكنه لم يرد ذلك، دعوة الإسلام ليست دعوة قبلية، ولو أخذها علي بن أبي طالب لكان ذلك دليلًا على القبلية لا يقاوم، ومنذ متى تنفع القرابة أو تجدي، حتى وإن كانت قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بل ألم نشاهد أبا طالب العم القريب إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم يظل كافرًا حتى آخر لحظة من حياته فيدخل النار، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وهل كانت العقليات والكفاءات في عائلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى وأكبر من العقليات والكفاءات خارجها؟
لقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته أن يرسخ في أذهان الأمة أن المرء بعمله لا بنسبه، فلو أخذها رجل من بني هاشم مع وجود من هو أعلى منه كفاءة وأعظم فضلًا أكان ذلك يرضيه صلى الله عليه وسلم؟
هذا كله ولا شك لا يقلل من فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن ولا شك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قد فاقوه في الفضل بإجماع الأمة وقتها وبعد ذلك، ولم يكن للقرابة أن تغير من هذا الفضل أبدًا.
ثم هل كان يتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره إلا بقليل على الأشياخ الكبار بالنسبة له كأبي بكر وعمر وعثمان؟ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يبلغ من العمر وقت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حوالي 31 سنة بينما كان الصديق رضي الله عنه في الواحدة والستين من عمره، نعم تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية شباب كثير، لكن قيادة الجيوش شيء وقيادة الأمة شيء آخر، ولا شك أن الخبرات المتراكمة لرجل مثل الصديق رضي الله عنه كانت نفعًا للأمة، والأمة لم تخسر طاقات الشباب، فالصديق الإمام يوجه، وينظم، ويخطط، والجميع في الأمة ينفذ.
والأمر الثاني: هو زواج عليّ من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أكان ذلك الأمر يؤهله للخلافة؟
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغني عن فاطمة نفسها رضي الله عنها شيئًا، ولا تنجو إلا إذا عملت، أفيغني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زوج ابنته إلا إذا عمل؟
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل:
[وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] {الشعراء:214} قال:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- أو كلمة نحوها- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مِالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح أن هذه العلاقات لا تقدم ولا تؤخر في فضل المؤمنين، وإن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى والعمل الصالح، والكفاءة، وغير ذلك من الأمور المكتسبة، ولا يتفاضل الناس بحسب الأشياء التي لا دخل لهم فيها، كالنسب، واللون، والجنس، والحالة المادية، وغير ذلك من أمور التفاضل.
ولعل هذا هو الحكمة أو جزء من الحكمة التي من أجلها لم يعش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولاد من الذكور، فإذا كان الناس تشيعوا هكذا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستخلفوه للتفريق بين المسلمين، فماذا كان يفعل المسلمون مع ابن الرسول صلى الله عليه وسلم لو عاش، لا شك أن طائفة الشيعة هذه كانت ستجد فيه، وفي ذريته ذريعة للاتباع، وتفريق المسلمين تحت قيادات مختلفة.
ولا شك أن الذين أشاعوا هذه القضية كانوا يعلمون أن حجتهم ليست بالقوية، فهم يطلبون خلافة لعي بن أبي طالب رضي الله عنه على أساس القبلية والقرابة، وهي مؤهلات غير مقبولة في الشرع الإسلامي، فماذا يفعلون حتى يثبتوا خلافة في غير موضعها؟ لقد بحثوا عن مصداقية أخرى لهذا الأمر فوجدوها.
قضية ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم
والقضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهي من أول أعماله في الخلافة رضي الله عنه، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون، وأصحابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة، لقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا، كانت له بالمدينة وفدك (قرية خارج المدينة)، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصديق رضي الله عنه لهما كما جاء في البخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ.
ثم قال الصديق رضي الله عنه: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا في رواية أخرى للبخاري:
لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به، إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
يا لها من كلمة جميلة من الصديق رضي الله عنه، كلمة رائعة، هي تلخص فلسفة الصديق رضي الله عنه في حياته:
إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
اللهم ارزقنا فهمًا كهذا الفهم، وعملًا كهذا العمل، وإخلاصًا كهذا الإخلاص.
إذن أبو بكر الصديق عرّف عليا والعباس رضي الله عنهما بحكم هام، وهو أن الأنبياء لا يورثون درهمًا ولا دينارًا، وما تركوه فهو صدقة، أي في بيت مال المسلمين، قد شاء الله عز وجل ذلك حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم، بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذا فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته، تكون زهدًا وورعًا وبعدًا عن الدنيا، وكذلك يكون الحال لورثتهم.
لكن هل كان هذا الحكم خافيًا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
أبدًا لم يكن خافيًا عليه هذا الحكم، سبحان الله، بل لم يكن خافيًا على العباس رضي الله عنه أيضًا، ولم يكن خافيًا عن كثير من الصحابة، فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، والسيدة عائشة، وأبي هريرة، فما تفسير طلب العباس وعلي رضي الله عنهما للإرث؟!
وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها في ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث، تشهد علي رضي الله عنه، وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر فضيلتك، ثم ذكر عليّ قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، أي أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر رضي الله عنه:
والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي.
أي إنه لا يقطع قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقضي بما يراه صوابا، فما تفسير تكرار الطلب من علي رضي الله عنه مع علمه بالحكم؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها أي حزنت، وغضبت، وذلك كما جاء في رواية البخاري، وهجرت الصديق رضي الله عنه، فلم تكلمه حتى مرضها الأخير الذي ماتت فيه بعد ستة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما تفسير غضبها وهجرانها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؟!
طبعًا المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية جدًا للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه بالظلم، لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبا من الإرث، ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من اتهم علي بن أبي طالب بأنه لم يبايع أبا بكر غضبًا لنفسه ولزوجته، ومنهم من اتهم الصحابة بالخلاف على الدنيا والهجران لذلك، فما هو التفسير الحقيقي، والمقبول لهذه المواقف المتشابكة؟
الحق أنه من المستحيل لعلي والعباس والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين أن يطلبوا الدنيا بهذه الصورة مخالفين الشرع ومخالفين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالذات أن السيدة فاطمة تعلم يقينًا أنها أول من سيلحق بأبيها صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، هي تعلم أنها قد اقتربت جدًا من الوفاة وليس من المعقول أن تتعلق بالدنيا إلى درجة المخالفة بهذه الصورة،
التفسير المنطقي للموقف يقول: إن العباس، وعلي، والسيدة فاطمة رضي الله عنهم كانوا يريدون الإرث ليقوموا فيه بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، يعني ينفقوا على آل بيته بما يكفيهم من الطعام، ثم يقومون هم بتقسيم الصدقة على من يستحقها في الوجه الذي يرونه هم، وذلك لأنهم قرابته وأحق الناس به كما يقولون، أي أنهم لا يريدون الإرث لأنفسهم، ولكن يريدون حق تقسيم الإرث على أهل الصدقة، هذا هو ما يفهم في ضوء سيرة هؤلاء الأخيار وهم جميعًا من أهل الجنة السابقين.
لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه رفض هذا الأمر، وأصر على أن يتولى هذا الأمر بنفسه، لأنه قال كما جاء في مسند أبي داود ومسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها لمن يقوم بالأمر من بعده.
أي جعل التصرف في هذا الإرث للخليفة بصرف النظر عن كونه الصديق أو غيره، والعلة في ذلك واضحة، وهي نفي أي شبهة قد تقدح في ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وغلق الباب على اتهامهم بإنفاقها في غير وجهها، كما أنه أصلح لتجنب هوى النفس، فإن كان الوارثون الآن على درجة عالية من التقوى، وسيتصرفون فيه كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أدراك بالجيل الثاني أو الثالث أو الرابع من الوارثين، إذن الأفضل أن تظل في حوزة بيت مال المسلمين يتصرف فيها الخليفة والذي يراقب عمله طائفة كبيرة من المؤمنين، لكن السيدة فاطمة رضي الله عنها لم تفقه هذا الفقه الذي رآه الصديق رضي الله عنه، وكذلك علي بن أبي طالب والعباس رضي الله عنهما، فإنهم اجتهدوا في أنهم من الأصلح والأنسب أن يقوموا هم بهذا الأمر، ولذلك حزنوا لرفض الصديق رضي الله عنه لطلبهم، ولا مانع، أن يجتهد المسلمون فيختلفوا في الاجتهاد، وأن يغضب فريق من فريق، أو رجل من رجل، لا مانع أبدًا، لكن هذا الغضب لم يخرج كُلًّا من الطرفين عن آداب الإسلام وأخلاقه، كما إنه لم يؤثر على طاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصديق رضي الله عنه، ولم يؤثر على معاملة الصديق رضي الله عنه لعلي، وللسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين وذكرنا من قبل وجوهًا من هذه المعاملة بينهم، بل إن الصديق رضي الله عنه زار السيدة فاطمة في بيتها في مرضها الأخير، وأذنت له بالدخول عليها بعد استئذان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتَرَضّاها الصديق رضي الله عنه حتى رضيت كما جاء في رواية البيهقي رحمه الله، أي أنه طيب خاطرها حتى تموت وهي راضية، وهذا من أدب الصديق رضي الله عنه، وخلقه، وسَعَة صدره، فإنه هو المصيب في اجتهاده، وهو الخليفة وهو الأحق بأن يُسترضى، لكن هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ولا مجال هنا لادعاء الهوى والدنيا في نفس الصديق، ففي ضوء سيرته فإن هذا لا يعقل، وفوق ذلك فإن العقل ينفي ذلك، فالصديق بمنعه لميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوصول لورثته قد منع ابنته عائشة رضي الله عنها، ولم يتجه مع ميل الإنسان الفطري بحب ابنته، كما أنه كما ذكر ابن تميمة في منهاج السنة قد أعطى ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أضعاف أضعاف هذا الميراث من بيت مال المسلمين، وذلك بعد أن فتح الله على المسلمين قبائل العرب بعد حرب الردة، وبعد أن فتح عليهم فارس، والشام، ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سار على نفس نهج الصديق رضي الله عنه لما تولى إمارة المؤمنين، فعلي رضي الله عنه لم يقسم التركة على ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، بل عمل فيها بما كان يعمل الصديق رضي الله عنه.
ولا مجال أيضًا لقول أن السيدة فاطمة رضي الله عنها قد هجرت أبا بكر الهجران المذموم المنهي عنه:
فأولًا: ليس من المعتاد في شرع الإسلام أن يختلط الرجال بالنساء، ويتقابلوا يوميًا حتى نقول أن السيدة فاطمة قد هجرت الصديق رضي الله عنه.
ثانيًا: السيدة فاطمة كانت تؤدي أمر ربها لها ولآل البيت، وللنساء بصفة عامة [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] {الأحزاب:33} .
ثالثًا: السيدة فاطمة كانت مشغولة بمصابها الكبير بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مشغولة أيضًا بمرضها، فإنها ما لبثت أن مرضت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: الصديق نفسه كان مشغولًا جدًا عن مثل هذه الأمور، فمن المؤكد أنه قد أخرج القضية من ذهنه تمامًا، فقد كان مشغولًا بمصيبة شنيعة هي ردة الجزيرة العربية، وكانت الأحداث متلاحقة بشكل سريع جدًا، والجيوش تتحرك في كل مكان، واجتماعات الحرب لا تنتهي، والأخبار لا تنقطع، والصديق لا يجد وقتًا لنوم أو لراحة، فكيف له أن يفكر في قضية كان قد حسمها بالفعل وفق سنة حبيبه محمد صلى الله عليه سلم.
إذن، بالتفكير المنطقي، والعاقل، والموزون، وبالبحث الجاد عن الصحيح من الأحاديث، والمواقف، وباتباع الشرع اتباعًا حقيقيًا نرى أن كل الشبهات التي أثارها المستشرقون والشيعة ما هي إلا فقاعات هواء، لا تقوى أمام الحجة والبرهان، والدليل الصحيح، فلا يجب أن يهتز المسلمون أبدًا لهذه التفاهات، ولكن عليهم أن يبحثوا عن تاريخهم في مصادره الصحيحة، ويفقهوه بعقول علمائهم الصادقين المخلصين، لا بعقول المغرضين الطاعنين.
خـطـبـة الاستخـلاف
يتبقى في تأريخ هذه الفترة أن نتعرض سريعًا لخطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والتي ألقاها بعد أن انتخبه الصحابة للخلافة، وسبحان الله، فإن الخطبة على قصرها، وإيجازها كانت بليغة جدًا، ومحددة لسياسة الصديق رضي الله عنه في الحكم، وشارحة للمسلمين وحكامهم الأصول الصحيحة للحكم في الإسلام، والخطبة فعلًا عجيبة، فقد حوت معان كثيرة جدًا في كلمات قليلة جدًا، ولذلك فقد أتت الخطبة في صورة بيان، بيان يلقيه زعيم الأمة في استلامه الحكم، تلا فيه قواعد حكمه، القاعدة تلو الأخرى، في صورة تلغرافات سريعة رائعة، قال الصديق رضي الله عنه في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:
أما بعد أيها الناس فأني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم
هذه هي القاعدة الأولى في بيان الصديق رضي الله عنه، المساواة بين جميع أفراد الأمة، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، لا فرق بين الحاكم المحكوم، لا فرق بين الوزير والغفير، فالكِبر المهلك، الكِبر في الحاكم، أو الكبر في الهيئة الحاكمة يسقط الأمة ويهلكها، الكِبر بطر الحق، وغمط الناس [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ] {المؤمنون:45: 47}.
وهذا هو بطر الحق، أنكروا الحق لأنه أتى من قبل غيرهم. فماذا كانت النتيجة؟
[فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ] {المؤمنون:48} .
الكِبر، مهلك، والصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع قاعدة هامة لكل من تولى أمرًا للمسلمين (لا تتكبر) ها هو أعظم رجال الأمة على الإطلاق بعد رسولها بشهادة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ها هو يقول:
قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم.
إذن كانت هذه هي القاعدة الأولى الهامة.
القاعدة الثانية في بيان الصديق رضي الله عنه
فإن أحسنت، فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني
قاعدة هامة أصيلة نتجت عن القاعدة السابقة، الحاكم والمحكوم كلاهما طرفان في منظومة واحدة تريد الوصول إلى الحق وإلى الصواب وإلى الخير لهذه الأمة، الحاكم بشر معرض لكل ما يحدث للبشر، من اجتهاد مصيب وخاطئ، ومن رأي سديد وغير سديد، والعلاقة بين الحاكم وشعبه ليست علاقة تنافسية، وليست علاقة تقوم على الحذر والرعب، والإرهاب والخوف، أبدًا، العلاقة في الإسلام بين الحاكم والمحكوم علاقة لطيفة جميلة رقيقة، كل من الطرفين يحب الآخر، وكل من الطرفين يخاف على الآخر، الحاكم إذا اجتهد فأصاب أعانه الشعب بكل طاقته، وإذا اجتهد فأخطأ وهذا ولا شك وارد الحدوث، بل هو مؤكد الحدوث، فعلى الشعب التوجيه، والتقويم، والإرشاد، وعلى الحاكم أن يقبل النصح في غير ضجر ولا غضب، فالجميع كما يقولون في مركب واحدة، والجميع يريد لهذه المركب السلامة.
كانت هذه هي القاعدة الثانية من قواعد الحكم في بيان الصديق رضي الله عنه، كما أنه بهذا الكلام قد أرسى قاعدة أخرى هامة، هي قاعدة الشورى، فالحاكم مهما بلغت درجة ذكائه، وفطنته، وورعه، وتقواه يحتاج إلى الآخرين، ليس فقط للنصح، ولكن لأخذ القرار وتنفيذه، ودائمًا يجعل الله البركة في الجماعة والشورى، والاجتماع على الأمر الأقل فضلًا خير من التفرق على أمر فاضل.
القاعدة الثالثة في البيان الصديقي الرائع
الصدق أمانة، والكذب خيانة
كلمة ثقيلة جدًا في الميزان الإسلامي، وتستمد ثقلًا أكبر من كونها تأتي من الصديق رضي الله عنه، والذي كانت حياته كلها تجسيدًا لمعاني الصدق والوفاء، فيلتقي القول مع العمل، فيحدث للقلب يقينًا كاملًا بما يسمع، الصدق أمانة والكذب خيانة.
وآه من الحاكم الكذاب، كم من التداعيات الخطيرة تحدث في بلده وفي شعبه نتيجة الكذب، وإن قام الحكم على الكذب والأباطيل والتصريحات الخادعة فلا أمل في القيام، لا طموح في الصدارة، المصارحة بين الحاكم وشعبه أساس رئيس من أسس الحكم في الإسلام، وركن لا بديل عنه لضمان علو الأمة ورقيها، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهَمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابُ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ.
القاعدة الرابعة الأصيلة في البيان
واعلموا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله
والصديق هنا يرسي قاعدة في غاية الأهمية في بناء الأمم، وفي قيادة الشعوب، وهي قاعدة العدل، ولا تقوم أمة بغير عدل، ولابن تميمة رحمه الله كلمة جميلة في هذا المعنى يقول:
إن الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مسلمة.
لقد ذكر ربنا عز وجل في كتابه الكريم في أكثر من موضع مصير الأمم الظالمة، قال الله عز وجل:
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ] {الأنبياء:11} . وقال:
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102} .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا َ،سَرَقَ فِيهُمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفَََ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.
لا واسطة في الأمة العادلة، لا اعتبار لقرابة أو لمنصب أو لسطوة أو لمال أو لملك، الاعتبار الوحيد هو العدل، حتى مع من تكره
ولا يجرمنكم شنئان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} . وهكذا فالصديق يعطي درسًا لا ينسى في بناء الأمم، ويضع يده على مقومات الأمة الناجحة، هكذا في بساطة وسهولة، في هذا البيان العجيب.
القاعدة الخامسة الرائعة: في بيان الصديق
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل
كلمات تكتب والله بماء الذهب، قالها بلسانه، وصدّقها بعمله رضي الله عنه وأرضاه، ومن أول يوم تولى فيه الخلافة، وهو يجعل الجهاد سبيله، ومن أول يوم تولى فيه الخلافة وهو عزيز، وأمته عزيزة، لأنه لم يعدل عن الجهاد أبدًا، كانت هذه هي أول كلماته عند استلام الحكم، ثم كانت آخر كلماته هي تحفيز عمر بن الخطاب على استنفار الناس للجهاد في أرض فارس مع المثنى بن الحارث، تعلّم دروسًا لا تقدر بثمن من معلمه، ومعلم البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا) وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ (أي في زمن الجهاد) وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.
لا بد للأمة الناجحة من أعداء، ولا بد للحق من باطل يحاربه، ولا بد للحق من قوة تحميه، هكذا فقه الصديق وهكذا نجحت الأمة في زمانه.
القاعدة السادسة الهامة في خطاب الصديق
ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء
قاعدة أخرى أصيلة في بناء الأمم، الذنوب مهلكة، وما أكثر ما ربط الله عز وجل في كتابه الكريم بين هلكة الأمم وبين ارتكاب الذنوب
[أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ] {الأنعام:6} .
وهكذا لا تقوم الأمة التي تنتشر فيها الذنوب، والميوعة، والخلاعة، والفاحشة، هذا عام على كل أهل الأرض، وخاص بصورة أكبر في أمة الإسلام، قد تظهر الأمة في أعين الناس قوية صلبة منيعة، ومع ذلك فالذنوب تنخر في عظامها، حتى إذا أراد الله عز وجل لها هلكة حدث السقوط المروع، والانهيار الكامل، وأصابهم الله بأنواع من البلاء ما خطرت على أذهانهم، ولا مرت ببالهم، روى ابن ماجه وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
سبحان الله تظهر الأمراض التي لم نكن نسمع عنها، وما الإيدز في أمريكا مثلًا منا ببعيد، وهكذا يرسي الصديق تلك القاعدة الخالدة في بناء الأمم.
القاعدة السابعة والأخيرة في بيان الصديق هي أهم قاعدة في كل البيان، وعلى أساسها يفرق بين العدل والظلم، وبين الكبر والتواضع، وبين الصدق والكذب، وبين الجهاد والقعود، وبين الأفعال الحميدة والأثام القبيحة، هذه القاعدة السابعة تحدد المرجعية التي بها نعرف كل هذه الأمور، العدل في رأيك قد يكون مختلفًا عن العدل في رأيي، العدل في مقياس أمة، قد يكون ظلمًا في مقياس أمة أخرى، ما تراه أمة ذنبًا قد تراه أمة أخرى فضيلة،
إلى أي شيء نرجع؟ وإلى أي شيء نحتكم؟
يقول الصديق رضي الله عنه في إيجاز:
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم
فالصديق هنا يحدد ببساطة المرجعية للحاكم وللأمة، المرجعية لا تكون إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أو قل للكتاب والسنة، وهكذا يحدد الصديق مصادر التشريع في أمته، ولا فلاح للأمة في الدنيا، أو في الآخرة إلا باتباع الكتاب والسنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،
أصول ثوابت، تربى عليها الصديق، وخرجت من فمه ببساطة ويسر، ولو تدبرتها لعلمت أن معانيها تحتاج إلى مجلدات ومجلدات.
وهكذا انتهت الخطبة الموجزة الرائعة، انتهى البيان الجليل، لم يستغرق سوى دقيقتين أو ثلاث، واستمعوا إليه مرة أخرى، كاملًا كما قاله الصديق يوم الاستخلاف، وتخيلوا الصديق يقف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من حوله يستمعون بإنصات:
أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، واعلموا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
الله أكبر، بناء الأمة الإسلامية القوية، ليس لغزًا من الألغاز، وليس من ضروب المستحيل، ولكن الصرح القوي العظيم يحتاج إلى أساس متين، وها هو الصديق يشرح لنا في إيجاز كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.
بعد هذه الخطبة الجليلة، وهذه المبايعة المباركة ستبدأ فترة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، ستبدأ فترة عظيمة بكل ما تحمله كلمة عظيمة من معان، ستبدأ حياة قصيرة جدًا في أيامها، طويلة جدًا في أعمالها، ستبدأ فترة خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
المدة الزمنية لهذه الفترة هي سنتان وثلاثة شهور، أما الأعمال فلا تكفي القرون لأدائها، طبعًا في هذه الكتاب من المستحيل أن نشرح هذه الأحداث، وكان الغرض منه هو شرح ما حدث في سقيفة بني ساعدة، وما دار حولها من أحداث وما ورد على ألسنة المستشرقين والشيعة من شبهات، وكيف يكون الرد عليها، ولم نتعرض في هذه المجموعة لمعظم الأحداث التي تمت في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكننا سنفرد لها كتبًا أخرى إن شاء الله .
ومع ذلك فإنه من المستحيل أن نوفي هذا الرجل حقه في التكريم والتبجيل، فكل ما ذكرناه هو ملخص لطرف من حياته، ولست مبالغًا في قول أن دراسة كل يوم من أيام الصديق رضي الله عنه تعتبر أمرًا حتميًا لفهم كيف يفلح المؤمنون في الدنيا والآخرة، ولفقه كيف تتقدم الأمم، وكيف تصنع الحضارات.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وُزِنَ بِأُمَّتِي فَوَزَنَ بِهِمْ.
فرضي الله عن الصِّدِّيق ورضي الله عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أجمعين. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #17موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:32 pm | |
| آبو بكر الصديق لا شك أن كل قارئ له تعليقات كثيرة، وقد يستنبط دروسًا عدة، ودروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه كما ذكرنا من قبل لا تنتهي، لكن هنا أشير إلى بعض الدروس والتعليقات، وأترك المجال لكم للزيادة عليها حسبما رأيتم، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وينفعكم بما علمناه من حياة هذا الرجل الجبل، ومن دراسة هذا الحدث الجليل حدث استخلاف الصديق رضي الله عنه وقصة سقيفة بني ساعدة. أعددت من هذه الدروس والتعليقات عشرة:
| أولا: الفلاح في اتباع الكتاب والسنة | لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع الكتاب والسنة؛ القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] {المائدة:49} .تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي، سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج، ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا، ولذلك نجحوا، ولا معنى لاتباع القرآن، دون اتباع السنة، فكما وضح فيما سبق أن الصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله، وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحيًا من الله عز وجل[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3،4} .السنة مُفصلِة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مُقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل أحيانًا تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تمامًا بتمام. رأينا على سبيل المثال كيفية اتباع الصديق رضي الله عنه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، اتباعًا دقيقًا في كل خطوة، رأينا مثلًا إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع معارضة عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن الخير سيكون في إنفاذه، رأينا مثلًا اتباعه لأمره في صلح الحديبية، مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا كيف كان الخير في ذلك، رأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (الأئمة في قريش) وهو ليس قرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن وسنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة، جاء في موطأ الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضَلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كَتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. |
| ثانيًا: شمول الإسلام | إن هذا الدين ليس كما يعتقد البعض صلاة وصيامًا وإيمانًا بوجود الله واليوم الآخر فقط، الإسلام دين متكامل يهتم بكل جزئية من جزئيات الحياة صغرت أو كبرتشمول عجيب لا يفسر إلا بكون هذا الدين نزل من لدن عزيز حكيم، هذا دين يختلف كلية عن تشريعات الأرض والبشر[مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] {الأنعام:38} .روى الإمام مسلم وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.أحد المشركين يقول هذا الكلام لسلمان الفارسي يتعجب المشرك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسلمين كل شيء، علمهم العقيدة، والعبادة، والمعاملات بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الآخرين، وعلمهم القتال، وعلمهم السياسة، وعلمهم التجارة، وعلمهم كل فنون الحياة، ثم هو يعلمهم كل شيء في أدق دقائق حياتهم، يعلمهم كيف يكون الرجل في بيته، كيف يتعامل مع زوجته وأولاده ووالديه وإخوانه وخدامه، كيف يأكل ويشرب، بل كيف يحدث الحدث، وكيف يغتسل، وكيف ينظف نفسه، ويهتم بجسده وهيئته.أمر لافت للنظر جدًا، وقد خاب قوم وخسروا، قصروا الدين على بعض العبادات فقط، وقالوا: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.أبدًا كل شيء في حياتنا يجب أن يكون لله عز وجل[أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54} . وقد رأينا كيف اجتمع الصحابة في نضوج كامل، ووعي دقيق يدبرون أمر دولتهم، يختارون زعيمهم على طريقة الكتاب والسنة، ويسمعون له ويطيعون بشرط اتباع الكتاب والسنة، ويديرون حياتهم بكاملها في ضوء الكتاب والسنة، رأينا هؤلاء الأطهار الذين اشتهروا بطول القيام، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، وجدناهم يحكمون دولتهم، ثم يحكمون الأرض بعد ذلك في حكمة واقتدار. رأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه الذي كان معتادًا على الصيام، وعلى عيادة المرضى، وعلى شهود الجنائز، وعلى إطعام الفقراء، رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم، ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب ويُسَيّر الجيوش، ويفتح البلدان ويقر الشرع، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة، والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم، وجدناه يهتم ببيت المال، وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه مشتركًا في معارك هائلة منذ تولى الخلافة، وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشًا عظيمًا متفوقًا على غيره، وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود، وجدناه لا ينسى أحدًا من رعيته، وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها، ويعد طعامها، وجدناه يحب الشاة للضعفاء، وجدناه ما زال عائدًا للمريض، متبعًا للجنازة، وواصلًا للرحم، مهتمًا بأولاده، وزوجاته عطوفًا حنونًا على خدمه. أيّ شمول! وأيّ كمال!وإن كنا رأينا في هذه السطور أن الصديق رجل عظيم فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صديقًا، الإسلام، أعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال، وبناء الأمم وفي أزمان قياسية، ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة، والمتحاربة تكون في سنوات معدودة دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء، شمول الإسلام وكماله، درس لا ينسى من دروس التاريخ الإسلامي [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} . |
| ثالثًا: الشورى في حياة المسلمين | الشورى ليست أمرًا جانبيًا في حياة المسلمين، ولما وصف الله عباده المؤمنين في كتابه كان من صفاتهم الرئيسية[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}.ورأينا كيف اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في اجتماع من اجتماعات الشورى الرائعة، يقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والدليل بالدليل، فإذا اجتمعوا على رأي، واتفقوا عليه كان هذا الرأي هو رأي الجماعة الذي لا يتبع غيره، ولا يعلن سواه، لا يخرج رجل فيقول لقد اتفقوا على كذا وكذا بينما رأيي كان كذا وكذا، لا يخرج رجل فيقول رأيي كان صوابًا ولم يأخذوا به، أبدًا، المسلمون بعد الشورى لا يحدثون جيوبًا داخلية داخل صفهم، ما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة يقول رأيًا مخالفًا لما اتفق عليه المسلمون بعد الشورى، وهذا هو عين الصواب، ويا حبذا لو استفدنا من هذا الدرس من السقيفة. والشورى لا تكون في الأحكام التي جاءت من الله عز وجل، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو فرق هائل بين الديموقراطية والشورى، فرق المرجعية، الديمقراطية كنظام يقوم على احترام آراء الأغلبية، هو نظام طيب ولا شك، ويعتبر من أفضل نظم الحكم في العالم الآن، لكن هناك فارق خطير بينها، وبين الشورى، وهو المرجعية، نحن في شرعنا نرجع دائمًا إلى الكتاب والسنة، والديموقراطية ترجع إلى حكم الشعب فقط، نحن في شرعنا لا يجوز أن يجتمع الشعب على ما يخالف حكم الله ولا حكم رسوله، رأينا في السقيفة أن الأنصار تم استثناؤهم بالكامل من الترشيح بالخلافة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأئمة في قريش) مع أنهم كانوا يملكون من الحجج والأدلة والبراهين ما يكفي للنقاش والجدال، بل الصراع لشهور وسنوات، ولكن إذا كان الله قال، أو إذا كان الرسول قال، فلا مجال إلا الطاعة ولا مكان للشورى في هذا الرأي. |
| رابعًا: اتباع الشرع يضمن سعادة الدنيا والآخرة | تُرى أي الشعوب أسعد؟ الشعب الذي تتصارع فيه الفرق المختلفة على سلطة وحكم وسيطرة أم هذا الشعب الذي رأيناه في المدينة المنورة وهو يخرج مطمئنًا راضيًا سعيدًا بالاختيار مع أنهم يمرون بكارثة ضخمة وهي وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؟ اتباع الشرع يورث في القلب اطمئنانًا إلى جوار الله، وإلى دفاع الله عن المؤمنين، وهذا لا شك يورث في القلب سعادة، اتباع الشرع يزرع في القلب الرضى بما قسم الله، والرضى بما حكم الله، والرضى بما أصاب الله، هذا الرضى ولا شك يورث سعادة، اتباع الشرع يرسخ مشاعر الأخوة والألفة والمودة بين المسلمين، ولا شك أن هذا المجتمع المتحاب في الله مجتمع سعيد، اتباع الشرع يكون سببًا في أن تحل البركة في المال، والبركة في الأرض، والبركة في الجيش، والبركة في الأولاد، والبركة في الأعمال، بركات كثيرة تنهمر على الأمة المتمسكة بكتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96} . لو رأيت انهيارًا في الاقتصاد، وضعفًا في الجيوش، وانحلالًا في الأولاد، وبوارًا في الأرض، واحتقارًا من كل صغير وكبير، ومن كل قليل وكثير، فاعلم أن هذا عقاب[وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96}. [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] {الشُّورى:30}.طريق النجاح، والرفعة، والقوة، والصدارة في الدنيا واضح ومعروف[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا] {نوح:10} .ماذا يحدث لو عدنا لربنا واستغفرناه على ذنوبنا وتمسكنا بشرعنا، فبماذا يكافؤنا؟هل سيدخلنا الجنة فحسب؟كلا هناك شيءٌ آخــر، شيء أسرع[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] {نوح:10: 12}.كل هذا في الدنيا، وفوقه وأعظم منه نعيم الآخرة، فما أكرمه من إله، وما أحكمه من شرع. |
| خامسًا: اختيار الله تعالى لهذا الجيل | فالله عز وجل كما اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار هذا الجيل الذي عاصره للصحبة، وعلى قدر هذا الاصطفاء الجليل يجب أن يكون تقديرنا لهذا الجيل ليس أبدًا كما يقول بعض من قل أدبهم وانعدم حياؤهم: هم رجال ونحن رجال.أبدًا، هم جيل اختاره الله لحمل الأمانة، ولتوصيل الرسالة، ولتعليم الأمة ولنشر الدين، فكما اختار الله جبريل عليه السلام لينزل بالرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس بما أراده الله، فإنه قد اختار هؤلاء الأصحاب؛ لكي يسمعوا ويفهموا ويستوعبوا ويتحركوا بهذه الكلمات، وهذه الأفعال التي نقلوها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج هذا الجيل كأرقى ما تكون الأجيال، وصُنِعَ هذا الجيل على عين الله عز وجل، أبدًا والله، ليسوا كغيرهم من البشر. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهَ.وقال الله تعالى في حقهم:[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100} . |
| سادسًا: الصديق أعظم رجال الأمة بعد الرسول صلى الله | بل هو أعظم أهل الأرض بعد الأنبياء، ومن الواضح أننا لم نوفه حقه بعد، ومن الواضح أيضًا أن كثيرًا من المسلمين لا يعلمون كثيرًا عن حياة الصديق رضي الله عنه، وقد يكون ذلك لقصر مدة حكمه رضي الله عنه، ولكن هذا ليس مبررًا أبدًا لغفلتنا عن سيرة حياة هذا العملاق، فها نحن قد تعرضنا في هذه الأسطر لجوانب محدودة من حياته رضي الله عنه، ولكن رأينا فيها العجب، فكيف بنا بعد أن نعلم خطواته في حروب الردة، وفارس، والشام. لا شك أن دراسة تاريخ الصديق وأمثاله من عظماء المسلمين ستضرب أروع القدوات لنا ولأبنائنا من بعدنا، وخاصة أننا في زمان لا تعدو فيه قدوة كثير من أبنائنا على أن تكون لمطرب شرقي أو غربي، أو لكاتب علماني، أو لرجل لا يملك من مقومات النبوغ إلا المال. ماذا يعرف أبناؤنا عن الصديق وعمر وعثمان وعن علي رضي الله عنهم أجمعين؟ماذا يعرفون عن حمزة وخالد وعن القعقاع وعن الزبير؟ماذا يعرفون عن موسى بن النصير، وعن يوسف بن تاشفين، وعن نور الدين محمود وعن صلاح الدين الأيوبي؟لا يكفي هنا أن يعرف اسمه وسطرًا عن حياته، نريد معرفة كاملة لمناهج هؤلاء في حياتهم، وكيف وصلوا إلى أعلى درجات المجد في الدنيا، ونسأل الله أن يكونوا جميعًا من أهل الجنة، لا شك أن تاريخ هؤلاء الأبطال سيكون خير معين على إصلاح أنفسنا ومجتمعنا.<table id="ctl00_ContentPlaceHolder1_GridView1" style="border-collapse: collapse;" border="0" cellspacing="0"><tr> </tr><tr><td> </td></tr><tr><td class="SectionTitle" align="right">سابعًا: يتحتم على الأمة دراسة تاريخها إذا أرادت ال </td></tr><tr><td class="ArticleBody" align="right">إن دراسة التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة تعتبر من الأساليب التي يتحتم على المسلمين أن يأخذوا بها إذا أرادوا القيام من جديد وإذا رغبوا في إصلاح ما فسد من أحوالنا كما ذكرنا من قبل فإن الله عز وجل جعل من كتابه العظيم القرآن قصصًا وتاريخًا، ولا شك أن هذا ه الأسلوب الأمثل لتربية الناس.لا بد أن تشتمل مناهجنا التربوية على جوانب ضخمة من التاريخ، ثلث المناهج يجب أن يكون تاريخًا، ولا بد أن نقدمه بصورة شيقة لطيفة يقبلها الصغير والكبير، ويقبلها الرجل والمرأة، ويقبلها المتخصص والعامي.لا بد أيضًا أن نُدرّس التاريخ بأسلوب هادف، يقوم في الأساس على استخلاص العبرة وعلى تربية الشعوب[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111} .لا يكفي أن نسرد الأحداث سردًا، لا بد من تحليل كل نقطة، لا بد من استعراض تفاصيل كل موقف، لا بد من الوقوف على المسببات والنتائج، لا بد من ربط التاريخ في أي فترة من فتراته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ولا بد من ربط التاريخ أيضًا بواقعنا المعاصر، عندها يصبح التاريخ حيًا ينبض، يصبح التاريخ دليلًا يقود إلى المستقبل، يصبح التاريخ واقيًا من الوقوع في الزلات والعثرات، يصبح أيضًا دافعًا للقيام بعد النكبات والسقطات.هذا هو التاريخ الذي نريده، ولا نريد أن نقف في التاريخ على توافه الأمور وسفاسفها، لا يهمنا أن نعرف إن كانت نملة سليمان عليه السلام ذكرًا أم أنثى، ولا يهمنا أن نعرف إن كانت سفينة نوح ثمانين ذراعًا أو مائة ذراع، أو مائتي ذراع أو إن كان الفيل أول الحيوانات دخولًا أم أنه سبق بزرافة، نحن نريد التاريخ الذي يبني عليه عمل، ويستخرج منه عبرة، ويُهتدى بدراسته طريق. </td></tr></table> |
| ثامنًا: سيظل لهذا الدين أعداء إلى أن تقوم الساعة | سنة من سنن الله عز وجل، سيظل الصراع بين الحق الباطل، وسيظل التزوير والتزييف والتحريف والتبديل والتغيير من أقوى أسلحة الباطل، ولا يعذر المسلمون الصادقون بالجهل في مثل هذه المواطن، هذه حرب صريحة معلنة، ولا بد من الاستعداد لها، كما زوروا وحرفوا لا بد أن يوجد من يصحح يعدل. تشويه تعاليم الإسلام يحدث من أول أيام البعثة النبوية الشريفة، قال الكافرون على رسولنا الكريم أقوالًا ما كانوا هم أنفسهم يصدقونها، قالوا: ساحر.قالوا: كاهن.قالوا: شاعر.قالوا: مجنون.لكن كان التصحيح، والتعديل، والتبيين مسايرًا لهذا التزوير، بل متفوقًا عنه، فوقف الإسلام على قدميه. ومرت الأيام، ودارت دورات التاريخ، وظهر من يطعن في نزاهة الصحابة، وفي أصول الدين، ظهرت فرق كثيرة ضالة أشاعت أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وتصدى لها المسلمين علماء إجلاء دافعوا عن الدين، ودافعوا عن رجاله، ثم ظهرت حركة الوضع في الأحاديث النبوية، والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمد الكذب عليه، فظهر علماء الجرح والتعديل، وظهر علم الرجال، ونخلوا الأحاديث نخلًا، فصححوا الصحيح، وحسنوا الحسن، وضعفوا الضعيف واستبان المسلمون بذلك أمرهم، واهتدوا إلى صراط مستقيم. ثم ها هي حملة الاستشراق، وحملة العلمانيين، وحملة الجهال الذين يتكلمون في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ها هي تتناول تاريخ الإسلام ورجال الإسلام، ودين الإسلام بكل ما هو قبيح وشنيع، ولا بد للمسلمين الصادقين من وقفة كوقفة أسلافهم، الدفاع عن تاريخ الإسلام، وعن رجال الإسلام، دفاع عن دين الإسلام، وليس على قدر جهد العلماء فقط، بل هو جهد الآباء، والمدرسين، وأستاذة الجامعة، وأئمة المساجد، والدعاة إلى الله عز وجل، والمتعلمين بصفة عامةبَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً.رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعِ.من كان عنده علم فليظهره، ومن وصل إليه علم، فليصل به إلى غيره، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. |
| تاسعًا: مقام الخلافة مقام عظيم | رأينا اهتمام الصحابة بأمر الخلافة بصورة لا يتخيلها العقل، فمصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم مصيبة مرت بهم، وبأمة الإسلام، ومع ذلك فإن هذه المصيبة على فداحتها لم تثنهم عن اختيار الخليفة، في نفس اليوم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل سعيد بن زيد رضي الله عنه: متى بويع أبو بكر؟قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهوا أن يبقوا يوم وليسوا في جماعة. الفرقة من أشد عوامل انهيار الأمم، طامة كبرى أن تتفرق الأمة الإسلامية إلى أكثر من ستين جزءًا منذ أن أسقط الغرب واليهود الخلافة العثمانية، وهم يزرعون في أعماقنا عن طريق التعليم، والإعلام أن التجمع الأمثل للناس لا يكون إلا على أساس القوميات، عربي، وكردي، وبربري، وباكستاني، وغيره، ثم العرب: مصري، وسوري، وسعودي، وأردني، وفلسطيني، وهكذا.والأصل الذي نساه المسلمون أن التجمع في الإسلام لا يكون إلا على الإسلام، رأينا في هذا الكتاب كيف تجمع المسلمون من قبائل شتى ومناطق مختلفة على رباط واحد هو رباط العقيدة والإسلام، مع أنهم كانوا قريبي العهد بالجاهلية، وقريبي العهد بالقبلية، لكن لا تصلح هذه الأمة بغير هذا، ونحن مع أننا مكثنا قرونًا نتجمع على الإسلام إذا بنا نصاب بغزو فكري في سنوات معدودات فيهدم في داخلنا صرحًا بناه الأقدمون بجهد وعرق ودماء [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46} .
حديث خطير يرويه الإمام مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ هنا لمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ.قال النووي رحمه الله في شرح ذلك أنه مات على صفة أهل الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم.ثم تكملة الحديث:وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ.قال أحمد ابن حنبل هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، أي أنه لا يعرف ما الهدف من القتال، وقد يقاتل أخاه تحت هذه الراية، وقال إسحاق هي كقتال القوم للعصبية.وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعُصْبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عُصْبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عُصْبَةً.يا الله، أهكذا يكون التصوير واضحًا، القتال للقومية، والعصبية، والعائلة، والقبلية، وليس للإسلام، ماذا يحدث له؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. |
| عاشرا: دور التربية في بناء الأمم والشعوب | لا أعتقد أن أحدًا من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية.الجهد الضخم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل، سواء في فترة مكة أو المدينة لم يصبح هباءً منثورًا بموته صلى الله عليه وسلم، أبدًا، معجزة هذا الدين هي بناء الرجال، ليس من السهل أبدًا أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة، فيبعدها عنه إلى الصديق رضي الله عنه، ليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه لو حمل الأمر رجل غيره، ليس من السهل أن يسابق الأنصار على بيعة قرشي، ليس من السهل أن يقبل أهل المدينة جميعًا، وأهل الإسلام جميعًا برجل واحد دون اعتراض أو تمرد، هذا كله نتاج تربية لم يأت هذا من فراغ، ولم ينزل عليهم الورع فجأة. وإذا أردنا أن نكون مثلهم، فلا بد من التربية، لا بد من تربيته جيل يعرف قيمة الدنيا، ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة، ويرغب فيها، لا بد من تربية جيل يقدم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، لا بد من تربية جيل يستجيب لشرع الله، وإن تعارض مع مصلحته ورأيه، لا بد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه، لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته، إن رُبّي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمرًا يسيرًا إن شاء الله، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. كانت هذه دروسًا عشرة، أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها وأن يجعلها في ميزان حسناتنا أجمعين. |
الخـاتـمـة | وختامًا وداعًا يا صّديق. ووداعًا يا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووداعًا يا صاحب، ويا خليفة. كم من اللحظات السعيدة مرت كدقائق قليلة، وأنا أعيش معك في مكة والمدينة. أكاد أجزم أني أراك وأعرفك. والله يا صّدّيق إني أحبك في الله. وأسأل الله أن يجمعني، ويجمعنا معك في الفردوس الأعلى مع حبيبك، وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.فإلى لقاء قريب معك في حروب الردة، إن شاء الله. وأختم بكلام قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مات الصديق رضي الله عنه، يوم ارتجت المدينة بأسرها لفراقه، يوم أن أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بيت الصديق، مسرعًا، باكيًا، مسترجعًا، ووقف، والناس حوله يقول:رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله، وأنيسه، ومستراحه، وثقته، وموضع سرّه، ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله يقينًا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديًا وسمتًا، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء، صَدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله صديقًا فقال: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {الزُّمر:33} .وَاسَيْته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة، أكرم الصحابة، ثاني اثنين، صاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسنت الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفًا في بدنك، قويًا في أمر الله تعالى، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله تعالى، جليلًا في أعين الناس، كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر بك أمر الله، فسبقت والله سبقًا بعيدًا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك. |
| الـمـراجـع | القرآن الكريم، والتفسير:- تفسير ابن كثير.- تفسير القرطبي.-في ظلال القرآن.الحديث النبوي الشريف، وشرحه:- صحيح البخاري.- صحيح مسلم.- سنن أبي داود.- سنن الترمذي.- سنن النسائي.- سنن ابن ماجه.- مسند الإمام أحمد بن حنبل.- مسند البيهقي.- موطأ الإمام مالك.ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.ـ شرح النووي لصحيح مسلم.ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي.ـ تحفة الأحوذي لشرح سنن الترمذي لعبد الرحمن المباركفوري.كتب التاريخ: ـ كتاب البداية والنهاية لابن كثير.ـ كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير. ـ كتاب التاريخ الإسلامي للأستاذ محمود شاكر. ـ كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي. ـ كتاب منهاج السنة لابن تيمية.ـ كتاب العواصم من القواصم لابن العربي. ـ كتاب أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، للدكتور إبراهيم شعوط. ـ كتاب أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور الصلابي.ـ عبقرية الصديق للعقاد.- كتاب استخلاف أبي بكر الصديق للدكتور جمال عبد الهادي. ـ كتاب الخلفاء الراشدون للدكتور عبد الوهاب النجار.ـ كتاب الخلفاء الراشدون للشيخ حسن أيوب.- كتاب إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري.كتب التراجم:ـ صفة الصفوة لابن الجوزي.ـ حياة الصحابة للكاندهلوي.كتب السيرة النبوية: ـ الرحيق المختوم للمباركفوري.ـ السيرة النبوية لابن هشام. ـ الأساس في السنة لسعيد حوى.كتب الفقه والأحكام:ـ الأحكام السلطانية للماوردي.ـ نيل الأوطار للشوكاني. | |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #18موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:34 pm | |
| آبو بكر الصديق كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، وكان لها رد فعل كبير على الصحابة، وتم اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، وهو أول خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمع المسلمون على مبايعته، وعلى تأييده، وأصبح رضي الله عنه خليفة رسول الله بعد وفاة الرسول في نفس الليلة، ففي فجر الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول بويع أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حدثت في الجزيرة العربية فتنه من أشد الفتن التي مرت على الأمة الإسلامية، كأن الله سبحانه وتعالى يبتلي هؤلاء القوم، ابتلاهم أولا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بهذا الأمر الشديد، والحمد لله فقد صبروا على هذا الابتلاء العظيم...
فتنة الردة
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى نقضت عهدها، وتركت دينها، ولم يثبت من الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث مدن، وقرية واحدة.
فارتدت قبائل بني حنيفة، وبني أسد، وعبس، وذبيان، وقضاعة، وكندة، وتميم، وقبائل اليمن، وعمان، والبحرين، ومهرة، وتهامة، وغير ذلك من قبائل، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة المنورة، ومكة، والطائف، وقرية جُوَاثى بشرق الجزيرة العربية، وحتى هذه الأماكن باستثناء المدينة المنورة كانت على شفا حفرة الردة، لولا أن ثبتهم الله عز وجل برجال صادقين فيهم،
فكانت مكة على خطر عظيم، ولقد راودتها فكرة الردة، وتكلم الناس في الردة، حتى هَمّ كثير منهم بها، فقيض لهم الله من وقف فيهم خطيبًا، وهو سهيل بن عمرو، وكان حديث عهد بالإسلام، فقد أسلم في فتح مكة، ولما أُسِر هذا الرجل في غزوة بدر أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينزع ثَنِيَّتَيْه حتى لا يقف خطيبًا، يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يفعل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
يَا عُمَرُ، دَعْهُ، فَلَعَلَّهُ يَقِفُ مَوْقِفًا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فلما كانت الردة، وقف هذا الرجل وقال لهم خطبة عظيمة في الكعبة يحض الناس فيها على عدم الارتداد، والتمسك بحبل الله، وحبل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:
لقد كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من غَيّر وبدّل.
قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإن الله تعالى قد قال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
نفس الآية التي قرأها أبو بكر الصديق في المدينة قرأها هو في مكة، فثَبَت الناس، ولم يرتدوا، فكل هؤلاء في ميزان حسنات هذا الرجل.
أما المدينة الثالثة التي ثبتت ولم ترتد، وهى الطائف، وهذا شيء غريب جدا، فالطائف كانت قاسية على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليها في العام العاشر أو الحادي عشر من البعثة، بعد وفاة السيدة خديجة، ووفاة عمه أبي طالب، فقد ذهب إلى الطائف راجيًا منها النصرة، فوجد منها أبشع الردود، وقذفوه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ولقد أبى الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيع ملك الجبال في إطباق عليهم الأخشبين- والأخشبان: جبلان عظيمان- وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
فكما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا على الإيمان، وجعل الله من أصلابهم من يؤمن بالله، ومن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت مدينة الطائف.
فهذه هي المدن الثلاث التي ثبتت على الإسلام، أما القرية فهي قرية صغيرة تسمى جُوَاثى في منطقة البحرين، وما زالت موجودة، ومعروفة باسمها، فمنطقة البحرين ارتدت كلها، وليس المقصود بمنطقة البحرين دولة البحرين الموجودة الآن، ولكن المقصود هو كل شرق الجزيرة العريبة، فهذه المنطقة كلها ارتدت، ولم يبق فيها على الإسلام، إلا جُوَاثى، وبفضل الله تعالى قيض الله لذلك رجل يُدعى الجارود بن يعلى، هذا الرجل قام، فخطب في الناس خطبة يدعوهم للإيمان بالله وبرسوله، حيا أو ميتا، وثبت الناس بخطبة الجارود بن يعلى، وكلهم إن شاء الله في ميزان حسناته أيضا، فثبتت هذه القرية الصغيرة، ولما ثبتت على الإيمان حاصرتها قوى البغي والردة من البحرين، ومنعوا عنها الطعام حتى كادت أن تهلك إلى أن أذن الله لها في النجاة.
نِعْمَة الصِّدِّيق رضي الله عنه
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثار وخيمة، لولا أن الله عز وجل مَنّ على الأمة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصديق رضي الله عنه.
لقد كان الصديق رضي الله عنه فعلًا نعمة من الله عزّ وجل أيد بها هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين.
وحقًا فهذا رجل يوزن بأمة كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد في مسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه يصف هذا الموقف المتأزم:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له:
مه يا أبا هريرة؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله، فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء، تُوَجّه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟
فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله.
وليس هذا الكلام مبالغة أبدًا من أبي هريرة رضي الله عنه، فالصديق فعلًا عظيم، وتظهر عظمته بصورة أكبر عندما نعلم أن هذا الموقف كان بعد أيام قليلة جدًا من استلامه للحكم، ومن المعتاد أن قائد الدولة يحتاج إلى فترة للتأقلم على الوضع الجديد، ولاكتساب الخبرة، ولكن الصديق رضي الله عنه أدار الأمور بحزم وكفاءة، وكأنه يحكم الدولة منذ سنوات وسنوات.
ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من مصيبة أخرى كبيرة، هي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مصاب الصديق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله عز وجل رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًا.
[يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ] {إبراهيم:27} .
كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات فمن العرب من منع الزكاة، وادعى أنها كانت تُعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم سقطت عنهم الزكاة بزعمهم.
وكانوا قد تأولوا قول الله تعالى:
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] { التوبة:103} .
وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المأمور بأَخْذ الصدقة، وأَخْذ الزكاة، وهو الذي كان يصلي عليهم، وبموته لم تعد هناك صلاة عليهم.
وهذا مفهوم مغلوط سطحي مدفوع بحب الإنسان للمال، ورغبته في الكَنْز والتملك، وليس مبنيًا أبدًا على علم أو على اجتهاد صحيح مقبول؛ لأن الزكاة أصل من الأصول الإسلامية، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، ولها نصابها المعروف، ولها مصارفها المحددة،، وجمعت مع الصلاة في كتاب الله عشرات المرات، ولذلك اعتبر من ينكر الزكاة كأصل من الأصول الإسلامية المعتبرة مرتدًا خارجًا عن الدين، مفارقًا للجماعة، سواء بعد ذلك اعترف بالصلاة، أو بالصيام، أو بغيرها من الأحكام أم لم يعترف.
وهذا بالطبع غير من عَلِم أن الزكاة حق، ولكن غلبت نفسه الضعيفة على عدم إخراجها، ولكن دون أن يستحل ذلك، فهذا لا يعده عامة الفقهاء مرتدًا، إنما يعدونه فاسقًا، يحتاج إلى إقامة حد، أو تعزير، بحسب ما يراه الحاكم.
وقد وقفت أكثر من قبيلة عربية في ذلك الوقت هذا الموقف الخبيث، فأنكرت الزكاة أصلًا، واشترطوا أن يقبلوا الإسلام بدون زكاة،، وبذلك أخذوا حكم المرتدين.
ومن العرب من ترك الإسلام كله، وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، وقالوا مقالة تعبر عن جهل عميق بحقيقة النبوة، إذ قالوا:
لو كان محمد نبيًا ما مات.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلن مرة واحدة في حياته أنه لن يموت، بل كان دائم التذكير بأنه بشر يجري عليه ما يجري على عامة البشر، والفارق الوحيد بينه وبين عامة الناس أنه يأتيه الوحي من السماء.
قال تعالى يعلم نبيه كيف يخاطب الناس:
[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110} .
بل صرح رب العالمين في كتابه الكريم في أكثر من موضع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيموت كعامة الخلق فقال تعالى:
[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30} .
وقال:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .
وهكذا فحجة ترك الإسلام لأجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات حجة واهية، ولكنها وجدت قبولًا عند بعض القبائل.
ومن العرب من لم يكتف بالردة، ويترك المسلمين في شأنهم، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات.
ومن العرب من سارع بادعاء النبوة، وكلهم يطمع في أن يصل إلى ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيطرة كاملة على جزيرة العرب، و قيادة كل القبائل، فزعم بعض القوم أنهم يأتيهم الملائكة من السماء توحي إليهم، وأنهم أنبياء، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيًا، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة بن خويلد، وسجاح، وغيرهم.
وإن كان بعضهم لم ينكروا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قالوا نحن أنبياء مثله، وشركاء في هذا الأمر، ومنهم من قال نحن أنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تعددت أنواع الردة، ولكنهم في النهاية فريق واحد اسمه فريق المرتدين، تميزوا بوضوح عن المسلمين الذين كانوا قلة قليلة مبعثرة في ثلاث مدن وقرية، وبعض الأفراد في بعض القبائل.
لقد كانت أزمة طاحنة حقًا.
أسباب حدوث الردة
قد يتساءل البعض سؤالًا هامًا:
لماذا حدثت الردة بهذه الصورة المروعة؟!
لماذا يبقى القليل على الإسلام، و يعرض الكثير عنه؟!
أليس الإسلام واضحًا نقيًا معجزًا؟
أليس البديل الذي أتى به من ادعى النبوة بديلا هزيلًا واهنًا، لا تُقره لغة، ولا يقتنع به عاقل؟
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا حدثت الردة؟!
بادئ ذي بدء هناك قاعدة أصيلة، وسُنة محكمة لا خلف لها حكمت الأحداث في تلك الأيام، وتحكم الأحداث إلى يوم القيامة، تلك هي سُنة حرب الحق و الباطل.
ما دام هناك بشر على الأرض، فسيكون هناك أهل خير، وسيكون هناك أهل شر، وسيكون هناك حق، وسيكون هناك باطل.
ومن السنن كذلك أن أهل الباطل كثرة، وأن أهل الحق قلة، تواترت على ذلك الآيات، والأحاديث، ورأينا ذلك في الواقع مرات ومرات.
القليل الذي يكبت جماح هواه ليسير في طريق الحق، والكثير الذي يعبد هواه مهما قاده إلى المهالك.
[وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ] {الأنعام:116} .
[وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] {يوسف:103}.
هذه قاعدة أصيلة تحكم الدنيا، فالفاسدين أكبر بكثير من الصالحين، لكن كان البعض يتوقع أن تكون الردة ليست بهذا الحجم، لكون الناس قريبي عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنهجه القويم، وتربيته العظيمة، وقيادته المبهرة، وإعجازه الواضح.
فلماذا ؟!
الواقع أن هناك أعدادًا ضخمة من العرب دخلوا في الإسلام في العامين الأخيرين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما عرف في التاريخ بالوفود، ولم يدخل هؤلاء في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، وانتصارهم على قريش أكبر القبائل العربية، ثم على هوازن وثقيف، وغيرها من القبائل العظمى في الجزيرة، فجاء الناس أفواجًا يدخلون في دين الله عز وجل، ولكن ليس كلهم عن اقتناع، فمنهم من جاء رغبًا في المال، والغنائم، والارتباط بالقوة الأولى الجديدة في الجزيرة، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم، فساقهم زعماؤهم كالقطيع فدخلوا في دين لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن، ولا مع السنة، بل إن الكثير من العرب الذين أسلموا في السنتين التاسعة والعاشرة من الهجرة لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم أصلًا، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسسها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذه الشخص، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أسس جيلًا كاملًا فَقِه معنى الإسلام الحقيقي، وعلم هذا الجيل أن استمرارية الإسلام في الأرض ليست مرتبطة بأشخاص، بل هي طبيعة ذاتية في هذا الدين فهو لا يموت، ولا يندثر، ولا ينهار، قد يتعرض لأزمات، ولكن يخرج منها حتما، لأنه دين الله عز وجل، والله عز وجل ناصر دينه.
قال تعالى:
[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33} .
كانت هذه هي ظروف الأعراب حول المدينة، ولم تكن الظروف فقط هي العامل المؤثر في سرعة ارتدادهم، بل كانت طبيعتهم الغليظة، والجافية سببًا في عدم قبول فكرة الإسلام الرقيقة الطيبة.
قال الله تعالى يصف حالة هؤلاء الأعراب:
[الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {التوبة:97}.
هذا وصف رب العالمين لطبيعة هؤلاء الأقوام.
وفوق ذلك- كما ذكرت- هم لم يأخذوا الفرصة كاملة، والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان، فدخلوا في الإسلام، ولم يؤمنوا حقيقته بعد.
قال تعالى يصف حالهم:
[قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:14} .
فهم دخلوا في الإسلام بأجسادهم، وألسنتهم، ولكن القلوب ما زالت بعيدة عن حقيقه الإيمان، ولذلك فليس مستغربًا أن يرتدوا عند أول شعور يراودهم بضعف الدولة الإسلامية، وقلة حيلتها.
ولم تكن المشكلة فقط في عوام الأعراب، ولكن كانت أيضا في زعمائهم، فالقبائل العربية ما تعودت مطلقًا على القيادة الجماعية، بل كان كل زعيم قبيلة زعيمًا في مكانه وقبيلته، يأمر فيطاع، ويشير، فلا راد لكلمته، وفجأة ضاعت زعاماتهم، وذابت في الدولة الإسلامية، ولم يقبل غالبهم بذلك، فلما مات رسول صلي الله عليه وسلم بحث كل منهم عن زعامته المفقودة، فكانوا أقرب ما يكون إلى عبد الله بن أُبَي ابن سلول الذي كان سينصب زعيمًا للمدينة المنورة قبل قدوم الرسول صلي الله عليه وسلم، فلما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم ضاعت زعامته، فظل مع كونه في الظاهر مسلمًا يتحين الفرصة للقضاء علي الإسلام والمسلمين، وأمثال ابن سلول في العرب كثيرة، هناك مسيلمة الحنفي الكذاب، وطليحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي، وغيرهم، وهؤلاء لم ينسوا زعامتهم أبدًا، ثم مات رسول صلي الله علية وسلم، وليس هذا فقط، بل تولى حكم الدولة الإسلامية أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أضعف بطون قريش، وهو بطن بني تيم، فوجد هؤلاء الزعماء في أنفسهم قوة للخروج عن الدولة الإسلامية، لقد كان خروجًا سياسيًا في المقام الأول، لم يكن أبدًا اقتناعًا بمبادئ الجاهلية، ورغبة في عبادة هبل، واللات، والعزى، بدلًا من عبادة رب العالمين، ولم تكن أبدًا اقتناعًا بنبوة أولئك الذين ادعوا النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الأمر سياسيًا بحتًا.
حب الكرسي والزعامة آخر ما يخرج من قلب الإنسان، وكان هؤلاء الزعماء من الذكاء بحيث لم يطعنوا في الإسلام لعلمهم أنهم لا طاقة لهم بالإتيان بمثله، ولكنهم ضغطوا على معنى خطير يشغل بال كل عربي في ذلك الوقت، وهو معني القبلية، وهو معنى خطير حقا، وقاومه الإسلام بكل ضراوة، فالإسلام ليس دين قريش حتى تقف في مواجهتها قبيلة أخرى، إنما هو دين الله عز وجل لكل العباد من كل القبائل، والألوان، والأجناس.
لكن لقرب العهد بالجاهلية والقبلية دخل في روع الأعراب عن طريق زعمائهم أن قبائلهم ليست أقل من قريش، ولا يصح أن تخضع لها، فالحرب- في تصويرهم- حرب قبائل، ومن لم يبحث له عن مكان الآن، فلن يجد مكانًا في المستقبل.
وباعت الأعراب كل شيء في سبيل القبيلة، عبر عن ذلك أحد المرتدين من بني حنيفة التي ظهر فها مسيلمة الكذاب يدعي النبوة، فقال في صراحة:
والله أعلم أن محمدًا صادقًا، وأن مسيلمة كاذب، ولكن كاذب ربيعة أحب إليّ من صادق مضر.
هكذا في صراحة، أو قل في وقاحة.
فليس الحق هو الذي يبحث عنه ليتبعه، وإنما هو يعبد هواه، وهواه في القبيله، فليتبع كذاب بني حنيفة، وليترك صادق مضر.
ومع ذلك فالصورة النهائية للوضع، هي حرب بين الحق والباطل، هي السنة الكونية الطبيعية جدًا، هي حرب بين الإسلام وأعداء الإسلام، بصرف النظر عن مسميات الأعداء، لقد كانت القبلية هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، أما الهدف العميق الأصيل، فهو حرب الإسلام ذاته، و دليل ذلك أن المرتدين قتلوا المسلمين في قبائلهم نفسها، لقد انقلب مسيلمة الكذاب الحنفي على المسلمين من بني حنفية، فقتلهم، وكذلك فعل طلحة، وفعل غيرهم.
الأقنعة تتبدل، والحرب ضد الإسلام مستمرة، إنها سُنة ثابثة.
[وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] {البقرة:217} .
الأغلفة الخارجية، والأقنعة تختلف، وحرب الإسلام واحدة.
الأقنعة قد تكون قبلية، أو اهتمامات سياسة، أو أطماع اقتصادية، أو تنافس، أو أحقاد، أو أضغان.
كل هذا لا قيمة له في المضمون الحقيقي، والحرب في النهاية حرب الحق مع الباطل بكل صوره.
كانت الردة من أشد المواقف التي مرت بالأمة الإسلامية منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، وما أحسب أن هناك ماهو أخطر منها في المستقبل، لقد كانت أزمة جعلت جيل الصحابة يعتقد أن القضية قد انتهت، والإسلام سيندثر، ولا أمل مطلقًا في النجاة، وعندما يعتقد جيل الصحابة الحكيم جدًا، والقوي جدًا هذا الاعتقاد، فاعلم أن الخطب عظيم، وأن المصيبة هائلة.
ولا تُقَارن فتنة الردة بما بعدها من فتن أبدًا، فلا فارس، ولا الروم، ولا التتار، ولا الصليبية، ولا من سبق، ولا من لحق، يقارن بهذه الأزمة الخطيرة أبدًا.
لقد كانت خطرًا داهمًا ليس على كيان الدولة الإسلامية فقط، ولكن على الإسلام نفسه كدين وكشريعة، فلو قدر لهذه الفتنة أن تستمر لتبدلت مفاهيم، وتغيرت تصورات، ولحُرّف الدين كما حُرّف قبل ذلك دين اليهود والنصارى.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفة لهذا الحدث المروع:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نجم النفاق، وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية.
بعث أسامة وموقف الصحابة منه
أشار بعض الصحابة على أبي بكر بأن لا ينفذ بعث أسامة، ويظل هذا الجيش في المدينة ليحميها من المتربصين بها.
وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بإنفاذه قبل وفاته، وجهز الجيش، وخرج الجيش على مشارف المدينة، وعلم الجيش بمرض الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرجوا، فكان أول قرار يأخده في الخلافة، هو قرار إنفاذ بعث أسامة بن زيد، وكان صلى الله عليه وسلم قد أنفذ هذا البعث ليحارب الرومان في شمال الجزيرة العربية، وقبائل قضاعة الموجودة في شمال الجزيرة العربية، والجزيرة العربية كلها انقلبت، وكلها ارتدت عن دين الإسلام، وكلها تضع المدينة تحت المجهر، وكل الجزيرة العربية تتخطف وتتوعد المدينة، وهذا الجيش الخارج من المدينة، لم يكن موجها إلى من ارتدوا، ولكن كان موجهًا إلى الرومان، ولم يكن في منطقة قريبة من المدينة حتى يستطيع أن يأتي إليها إذا داهمها المرتدون، بل كان هذا الجيش خارجا إلى مشارف الشام، ومع ذلك أصر أبو بكر رضي الله عنه أن يُنفذ هذا الجيش مع كل ما يحيط بالمسلمين من خطورة.
وثار عليه بعض الصحابة، وكلموه في ذلك، فقال لهم كلمة تسجل بحروف من نور:
والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.
فهذا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وبالفعل، يخرج جيش أسامة بن زيد، فتكلمه الصحابة في أمير الجيش، ويأتى له عمر بن الخطاب، ويقول:
لو اتخذت أميرًا غير أسامة بن زيد.
وكان سِنه يومئذ سبعة عشر عامًا، أو ثمان عشر عامًا، يطلب منه عمر أن يُنَصب أميرًا أكثر حكمة منه؛ لأن الأمر صعب، فيمسكه أبو بكر من لحيته ويهزه ويقول له:
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أمنع أميرا أمّره رسول الله عن إمارة جيشه. وكان قد نشب خلاف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمارة أسامة بن زيد، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصر على ذلك، فإذا كان هذا الإصرار، فكيف يغيره أبو بكر الصديق؟!
فأصر أن يكون أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه هو الأمير.
ويخرج بعث أسامة بن زيد، والجزيرة العربية كلها متأججة في نار الردة، ويخرج البعث من المدينة، وفي الجيش عمر بن الخطاب تحت إمارة أسامة بن زيد، وأراد أبو بكر عمر بن الخطاب؛ ليسانده الرأي في المدينة في ذلك الوقت، فالموقف صعب، وهو الرجل الثاني بعد أبي بكر الصديق رضى لله عنه، فيخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي، وأسامة بن زيد راكب على فرسه، وأبو بكر ماشيا بجواره، يخاطبه في ذلك، يقول له: لو أذنت لي في عمر بن الخطاب، أستعين برأيه في المدينة.
وأسامة يقول له:
يا أبا بكر، إما أن تركب، وإما أن أنزل.
فيصر رضي الله عنه على المشي، ويقول:
وما لي لا أُغَبّر قدماي في سبيل الله ساعة.
ويأخذ عمر بن الخطاب، ويرجع به إلى المدينة، ويخرج الجيش المسلم إلى مشارف الشام.
أثر إنفاذ بعث أسامة
لعلها حكمة أظهرها الله عز وجل من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إنفاذ بعث أسامة، وتوفيق أبي بكر بإصراره على خروج الجيش كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحكمة هي إرهاب القبائل المرتدة.
لما خرج الجيش إلى أطراف الشام فرت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فلم يلق قتالا من الرومان، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدت، فقاتل كل هذه القبائل، وشتت شملها، وهزمها، وهربوا إلى منطقة تسمى دومة الجندل، ولكن أسامة بن زيد لم يكن مأمورا بقتال هذه القبائل، ولا تتبعها، فأكتفى، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصديق في المدينة ومعه الغنائم من هذه الموقعة، ومكث أسامة بن زيد في هذه الرحلة خمسة وثلاثين يومًا فقط، وهذا هو التقدير الأقرب، لكن هناك من يقول أن هذا البعث استغرق شهرين، لكن الأقرب ما ذكرنا.
خروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبة من المسلمين مما جعلهم يظنون أن للمسلمين قوة في المدينة، فمن المؤكد أن بالمدينة جيوش عظيمة جدا، وأن هذا جزء صغير من الجيوش، فكل القبائل المرتدة في هذه المنطقة ظنت هذا الظن، فلم يكن يمر جيش أسامة في منطقة إلا أرعبهم، فقررت عدم الهجوم على المدينة وإثار السلامة، لرعبهم من جيش أسامة بن زيد، وخوفا ممن في المدينة، مع أنه لم يكن هناك جيش بالمدينة، إلا أنها كانت حكمة من الله عز وجل ألهم بها نبيه، ووفق لها أبا بكر، فأُلْقي في قلوبهم الرعب، فكانت هذه فائدة عظيمة من خروج جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه.
موقف الصحابة من الردة
يا أبا بكر أَغْلق عليك بابك، وليسعك بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
كانت هذه هي الكلمات التي واجه بها الصحابة رضى الله عنهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول استلامه الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصلت الأنباء بارتداد العرب عن دين الإسلام.
لقد كان موقفًا صعبًا طاشت فيه عقول، وذهلت فيه ألباب، وكانت فتنة حقيقية تركت الحليم حيران، واعتقد بعض الصحابة أن هذه هي نهاية الدنيا، وفكر البعض في اعتزال الناس، وأن يعبد، ويجتهد في العبادة إلى أن يأتيه اليقين، ومنهم من فكر في الخروج إلى الصحراء.
وفي هذا الموقف اختار الصحابة جميعًا رأيًا، واختار الصديق رأيًا آخر، لقد رأى الصحابة أن الجزيرة العربية قد ارتدت بكاملها تقريبًا، ورأوا كذلك أن المدينة المنورة العاصمة أصبحت خالية تقريبًا من الجنود، وذلك عندما كان جيش أسامة في الشام، ورأوا كذلك أن هناك بعض القبائل القريبة من شمال المدينة قد أعلنت ردتها، وهي في ذات الوقت علمت بخروج جيش المدينة إلى الشام، وهذه القبائل ليست بسيطة، ويأتي على رأسها قبائل أسد، وفزارة، وعبس، وذبيان، وكانت هذه القبائل قد أرسلت رسولًا مرتدًا هو عيينة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليفاوضا المسلمين في المدينة في أن يقبل أبو بكر منهم الصلاة، ويرفع عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدون أيديهم عن المدينة.
لقد كان الموقف خطيرًا فعلًا، وكانت المدينة مهددة.
في هذا الجو المشحون جاء الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنهم يعرضون عليه قبول طرح عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال، وذلك لتحييدها، وتخفيف ضغط الأزمة، قال الصحابة رضي الله عنهم:
نرى أن نطعم الأقرع، وعيينة طعمة يرضيان بها، ويكفيانك مَن وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة، وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل في كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب.
كان هذا رأي الصحابة، مساومة الأقرع وعيينة، وتأجيل القتال، لكن الصديق رضي الله عنه كان له رأي آخر، لقد قال لهم:
أما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشوا على الإسلام أحدًا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالا، لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضيه، ثم جاءوا له، ولو رأوا ذباب السيف، لعادوا إلى ما خرجوا منه، أو أفناهم السيف، فإلى النار قتلناهم على حق منعوه، وكفر اتبعوه.
وعارض عمر بن الخطاب وكل الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في قتال المرتدين قائلين له:
علام تقاتل الناس؟!
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا.
وكان عمر يتكلم عن تلك الطائفة من المسلمين التي ارتدت عن دفع الزكاة فقط, ولم تترك الإسلام كلية، فهو يعارض أبا بكر في قتالهم؛ لأنهم لم ينكروا الألوهية، ولا الرسالة، أما من ارتد، وادعى النبوة، وقاتل المسلمين، وأنكر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو متفق معه على أنهم مرتدون.
فقال الصديق رضي الله عنه:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
ثم قال في قوة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم على منعه.
وهنا لنا وقفات مع اجتهاد الصديق رضي الله عنه:
أولًا: لقد قال:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
فهو قد وجد أن الزكاة دائمًا تقرن بالصلاة في كتاب الله، ومن ثَمَّ فلها حكمها، وقد ذكرت الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، قرنت فيها مع الصلاة في ثمان وعشرين مرة، والجميع يعلم أن من ترك الصلاة مستحلًا تركها، فهو كافر يستحق المقاتلة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح:
الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَفَرَ.
فإذا كانت تارك الصلاة كذلك، فكذلك الذي ترك الزكاة المقرونة بها مستحلًا لهذا الترك، فهو كافر أيضًا ويستحق المقاتلة.
ثم إنه رأى في الاستثناء الذي قاله صلى الله عليه وسلم:
إِلَّا بِحَقِّهَا.
تفسيرًا لم يفقهه كثير من الصحابة، فليس الإيمان شيئًا نظريًا بلا تطبيق في واقع الحياة، وليست كلمات تقال فارغة من المضمون، فلا إله إلا الله كلمة لها حقها، وهو كبير، وأعظم حقوقها الطاعة، والاتباع لله ورسوله، دون تردد أو تحريف، وقول لا إله إلا الله دون طاعة، وبدون أداء حقها، لا يعطي الإنسان وصف الإيمان الصحيح، وأهل مكة المشركون كانوا يؤمنون بأن الله خالق لكل شيء، ولكنهم رفضوا أوامره، فكفروا بذلك مع اقتناعهم بكونه خالقًا، وكذلك المال في الإسلام له حق، وحق المال الزكاة، ومن لم يؤده لم يفقه حقيقة معنى التكليف الإلهي، والذي يرده من الأصل، ويرفض هذا الحق منكرًا له، فهو لم يفقه لا إله إلا الله، ولا حقها، وبذلك يكفر، ومن كفر من بعد إيمانه وجب قتاله.
هكذا في بساطة استنبط الصديق رضي الله عنه وجوب قتال هؤلاء الذين استحلوا منع الزكاة.
ثم ختم استنباط وجوب القتال من منهجه الثابت ومرجعيته المضمونة، لقد رأى أن هؤلاء قد أعلنوا إعلانًا صريحًا أنهم سيخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستمروا على عهده، وهذه بالنسبة للصديق رضي الله عنه قاصمة حقيقية.
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.
لقد قال الصديق في ثقة:
والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.
فقضية مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية لا يتخيلها الصديق رضي الله عنه، ومن هنا استنبط حكمه الموفق.
ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، ناقشوه في المشكلة الثانية:
أين الجيوش التي ستحارب هؤلاء المرتدين؟!
ولكن أبا بكر يرد عليهم بكلمات خالدة، تُكتب بحروف من نور، قال:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
أي: حتى تقطع رقبتي، وهذه الكلمة تلخص حياة أبي بكر الصديق كلها أقاتلهم وحدي.
فكل القرارات التي اتخذها في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قرارات يبدأ فيها هو بالخير، دون أن يكون هناك خير على سطح الأرض كلها كالذي هو عليه، يبدأ بنفسه أولًا، فقد كان أول من أسلم من الرجال، ولم يكن هناك مسلمون، علم أن الحق في الإسلام فأسلم، ولما كان حادث الإسراء والمعراج قال له الناس:
إن محمد يقول إنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس.
فقال أبو بكر:
والله، لو قال ذلك لصدقته.
وصدق بحادث الإسراء والمعراج دون أن يسأله، وفي الهجرة كان الشخص الوحيد الذي خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل الأمور له وقفة بمفرده، حتى يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له وقفه مختلفة عن الصحابة، فبوقفته أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله سببا في ثبات الصحابة، أمام وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنفذ بعث أسامة بن زيد مع معارضة الصحابة له، وهو الذي جهز الجيوش لمحاربة المرتدين، وكل الصحابة يعارضه، وهو يقول:
أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقولة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، يقول:
والله لقد حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحداث ما إن لم يَمُنّ الله على المؤمنين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه لخشيت ألا يعبد الله في الأرض بعد ذلك.
يقول إن الله سبحانه وتعالى جعل أبا بكر سببا لبقاء عبادته في الأرض بثباته ومحاربته للمرتدين، ولو لم يصر على ذلك لما عبد الله في الأرض بعدها.
ودخلت كلمات أبي بكر في قلوب الصحابة فلم تترك شكًا, ولا تحيرًا إلا أزالته.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فوالله، ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتل، فعرفت أنه الحق.
وعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على موقف الصديق هذا قائلًا:
والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.
هنا، ومن هذا الموقف، يظهر لنا هنا عامل هام من عوامل الخروج من الأزمة، وهو العلم، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، كما يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان أبو بكر أعلمنا.
وهذا العلم هو الذي أخرج المسلمين من الأزمة، وما أكثر ما ضل المخلصون لغياب العلم، فالإخلاص وحده لا يكفي، والنوايا الحسنة فقط لا تكفي، والتضحية الكاملة وحدها لا تكفي، إنما يجب أن يكون كل ذلك مصقولًا بل مسبوقًا بالعلم، ولعلنا هنا نفهم لماذا بدأ القرآن الكريم في النزول بآيات تحث على العلم.
وهكذا رأينا كيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم أن يؤثروا السلامة لأنهم لا طاقة لهم بهؤلاء المرتدين، وقتالهم فهم أضعاف المسلمين، حتى أن عمر أشار على أبي بكر بعدم قتالهم، فقال له أبو بكر:
أجبَّار في الجاهلية، خوَّار في الإسلام يا عمر؟!
فما هي إلا لحظات حتى شرح الله صدر عمر للذي شُرح له صدر أبي بكر، وعرف عمر أن أبا بكر على الحق. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #19موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:36 pm | |
| آبو بكر الصديق تقع في شمال المدينة مباشرة على بُعد أميال قليلة من المدينة قبائل عبس، وذبيان، وهذه القبائل بمجرد خروج جيش أسامة بن زيد إلى منطقة الشمال، ولقربها من المدينة، عرفت أنها بدون جيش يحميها، وأن هذا الجيش هو كل طاقة المدينة، فخرجت جيوش عبس وذبيان تترصد للمدينة، وهجموا بالفعل على المدينة، وعلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن الجيوش تترصد المدينة لتهجم عليها، فما كان من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن جهز بقية الصحابة الموجودين بالمدينة، ليحاربوا هؤلاء القوم، ولا ينتظرهم حتى يدخلوا عليهم المدينة، وجعل نفسه رئيسًا للجيوش، وهذه أول معركة يقودها بنفسه، فقاد المعركة بنفسه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج على رأس الجيش، وأشار عليه بعض الصحابة أن يبقى بالمدينة، حتى إذا قتل لا ينفك أمر المسلمين، إلا أنه أصر على الخروج، وجعل على ميمنته النعمان بن مقرن, وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن، وعلى المؤخرة سويد بن المقرن، وخرج الجيش في آخر الليل، وعسكر الجيش قرب جيوش عبس وذبيان، ولم تعرف عبس وذبيان أن أبا بكر وصل إلى هذا المكان، حتى إذا صلى المسلمون صلاة الفجر، هجموا على جيوش عبس وذبيان، وانتصروا عليهم انتصارا عظيما، ولم يكتفوا بالانتصار فقط، بل طاردهم أبو بكر حتى منطقة تسمى ذا القصة على بعد أميال، وتتبع الفارين منهم، وأهلك منهم الكثير، وعاد بجيشه إلى المدينة المنورة، فكان لهذا الأمر الأثر الكبير على الجزيرة العربية، فلم يجرؤ أحد أن يهاجم المدينة مرة أخرى.
الإعداد لحرب المرتدين
بدأ الصديق رضي الله عنه في إعداد الأمر كخير ما يمكن أن تعد أمور الحرب، فقام بأمور عظيمة، وتجهيزات مهيبة، وفي وقت محدود، لقد كان الصديق رضي الله عنه رجلًا بأمة.
قام الصديق أولًا بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، فوضع الفرق العسكرية في كل مداخل المدينة، وكان على رأس هذا الفرق علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكانت هذه الفرق تقوم بحراسة المدينة بالتناوب ليلًا ونهارًا، وقامت بالفعل بصد بعض الهجمات الليلة التي قام بها المرتدون، ثم قام الصديق رضي الله عنه بعد خطوة تأمين المدينة عسكريًا بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأقام معسكرًا للجيوش الإسلامية في شمال المدينة في منطقة تعرف بذي القصة على بعد أربعة عشر ميلًا، فجاءت الوفود الإسلامية من مكة، والطائف، وجاء المسلمون الذين لم يرتدوا من قبائل غفار، وأسلم، وجهينة، ومزينة، وكعب، وطيئ، وبجيلة، وغيرها.
وأرسل الصديق رضي الله عنه رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلا حاربهم أشد المحاربة، وهدد في هذه الرسائل، وتوعد، وذلك ليلقي الرهبة في قلوبهم، كنوع من الحرب النفسية على المرتدين.
وبدأ الصديق رضي الله عنه في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلامية التي ستخرج لحرب المرتدين في وقت متزامن، فجهز أحد عشر جيشًا كاملًا، ومع أن كل جيش لم يَعْدُ أن يكون ألفين أو ثلاثة، أو بالكاد خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا منظمة, راغبة في الجهاد, مستعدة للموت, فاهمة لقضيتها, معتمدة على ربها، ومن كانت هذه صفته فيرجى له النصر إن شاء الله، وحدد الصديق رضي الله عنه اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر. وإذا درست خريطة توزيع تحركات هذه الجيوش، فستدرك بوضوح مدى دقة الصديق رضي الله عنه، ومهارته، وعبقريته، وعلمه، وتوفيقه، فقد وُزعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا، بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملًا، فلا تبقى قبيلة، أو منطقة، إلا وفيها من جيوش المسلمين.
واختار الصديق رضي الله عنه لقيادة كل جيش رجلًا من عمالقة الحرب في الإسلام، ووجهه إلى وجهة معينة، وذكر له تفصيلًا أنه لو تم له النصر فإلى أين سيتجه بعد ذلك؛ فالجيوش تتجمع أحيانًا، وتتفرق أحيانًا أخرى، وذلك لسد كل الثغرات.
وكانت قيادة الجيوش الإسلامية، ومسارح عملياتها على هذه الصورة: الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد
كان أبو بكر قد اختار للإمارة في بادئ الأمر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أخو عمر بن الخطاب، ولكنه رفض متعللًا بأنه يرجو أن يكون شهيدا، ولا يحق للأمير أن يقاتل وهو حريص على الشهادة، حتى لا يعرض جيشه للخطر.
ثم عرض الإمارة بعد ذلك على سالم مولى أبى حذيفة، ورفض أيضًا متعللًا بما تعلل به زيد بن الخطاب.
ثم عرض الإمارة على أبي حذيفة، لكنه هو الآخر لم يوافق.
وكان آخر من عرض عليه أبو بكر الإمارة هو خالد بن الوليد، أمّره أبو بكر الصديق فرفض خالد, فأصر أبو بكر على توليته، فقاد خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك العبقري المسلم الفذ الجيش الأول من المدينة إلى قبيلة أسد، وكان عدد الجيش أربعة آلاف مجاهد وكان أكبر الجيوش، إلا أن المهمة كانت صعبة، فقد كان متجهًا إلى حرب طيئ أولًا، ثم بني أسد، تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي، ثم بني تميم، وفيهم مالك بن نويرة، فإذا انتهى من كل هذا بنجاح فإن عليه أن يتوجه إلى بني حنيفة، لمقابلة أخطر جيوش المرتدين، وعلى رأسها مسيلمة الكذاب، وذلك لمساعدة الجيشين الثاني والثالث، وكان على هذا الجيش المكوَّن من أربعة آلاف مقاتل أن يلتقي بالجيش الذي جهزه طليحة بن خويلد في قبيلة أسد، وعدده ستة آلاف مقاتل.
وكان مع خالد في جيشه عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فلما مرَّ المسلمون على قبائل طيئ، وهي قبيلة عدى بن حاتم، وقد ارتدت معظم القبيلة إلا فرعين أحدهما يُدعى غوث، والآخر يسمى جديلة.
وأراد خالد بن الوليد أن يغير على قبيلة طيئ المرتدة، فقال له عدي بن حاتم:
أعطني يوما أكلمهم لعلهم يرجعون.
فذهب، وكانت قبيلة طيئ على مشارف الردة، فوقف عدى بن حاتم في منطقة غوث، وحضهم على الإيمان فوافقت القبيلة، وثبتت على إسلامها، وأتى منها بخمسمائة رجل مجاهد لم يرتدوا، ورجع بهم إلى جيش المسلمين، فأصبح الجيش الإسلامى أربعة آلاف وخمسمائة، وأراد خالد أن يكمل مسيره، فقال له عدي بن حاتم:
أتحب أن أقاتل معك بيد أم بيدين؟
فقال: بل بيدين.
فقال له: فإن غوث إحدى يدي، وجديلة الأخرى، فأعطني فرصة مع جديلة.
فذهب عدي بن حاتم لجديلة، وكلمها، فثبتت على إسلامها أيضا، فأتى منها بخمسمائة رجل، فأصبح جيش المسلمين خمسة آلاف مقاتل، فكان كما يقول الرواة: أَبْرَك رجل في قومه.
فانطلق خالد إلى طليحة الأسدي، ودخل معهم خالد بن الوليد في قتال شديد ستة آلاف ضد خمسة آلاف، فإلى حد ما، كانت الموقعة متكافئة بالإضافة إلى أن جيش المسلمين فيه من العقيدة ما يهزم جيش طليحة بن خويلد، وهزمهم خالد هزيمة نكراء، وفر منهم الكثير، وتتبع خالد بن الوليد الفارين من الجيش إلى مناطق كثيرة، وممن فر، طليحة بن خويلد نفسه، فر هو وامرأته إلى الشام، ثم بعد ذلك أراد الله له الخير، فأسام وشارك في الفتوح وجاهد جهادا عظيما في فتوح فارس، وكانت له مواقف مشرفة في هذه المعارك، فمن ادعاء النبوة إلى الجهاد العظيم, الحمد لله أنه فر في هذا اليوم. خالد بن الوليد جاءه امر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه إذا انتصر فعليه أن يقتل كل من قتل مسلما، فهناك بعض القبائل ارتدت فقتلت من ثبت من المسلمين.
وتقول الروايات إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في الخطاب الذي بعثه، أنه سمح لأمراء الجيوش أنهم إذا دخلوا على هذه القرى أن يحرقوا المرتدين بالنار، وأن يميتوهم شر ميتة، فيلقوهم من شواهق الجبال، ويرجومهم بالحجارة، وهذه كلها أساليب ما تعودها المسلمون في حربهم، ولكن الأمر كان شديدا جدا، فالجزيرة العربية كلها مرتدة، وكان الصديق يريد أن يرهب أعداء الله.
والرسالة طويلة بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى كل أمراء الجيوش يقول في آخرها:
وأمرته أن لا يقاتل أحدا حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن دخل في دين الله، وعمل صالحا قَبِل ذلك منه، ومن أبى فلا يُبقي على أحد، ويحرقهم بالنار، ويسبي الذراريّ، والنساء.
وصل خالد بعد ذلك إلى قبيلة بني تميم، فوجدهم دخلوا في الإسلام كما خرجوا منه، لما رأوا انتصار المسلمين على جيوش بني أسد، وكان الصديق قد أوصى أمراء الجيوش أنهم إذا سمعوا الأذان في الحي، وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة، وإلا الغارة، فجاءت السرية حي مالك بن نويرة، أسر خالد بن الوليد مجموعة منهم مالك بن نويرة نفسه، وهناك اختلاف شديد على تصرف خالد بن الوليد في مالك بن نويرة، وبعض الأسرى الآخرين والتفسير الأقرب إلى الصحة أن خالد بن الوليد قال لبعض الحراس الذين يحرسون الأسرى:
ادفئوا أسراكم.
لأنها كانت ليلة شديدة البرد، ولكن مجموعة من الحراس في لغتهم إذا قالوا: ادفئوا الرجل. يعنون: اقتلوه، فقتلوا الأسرى، وبدءوا بمالك بن نويرة قائد القوم، فقتلوا منهم عددا، حتى بلغ خالد بن الوليد ذلك، فقال:
حسبكم.
وبعض الروايات تقول إنه تعمد قتلهم، وبعض المستشرقين يقول:
إن خالد بن الوليد كان يريد أن يتزوج من زوجة مالك بن نويرة، فقتله لهذا السبب.
وكان في السرية أبو قتادة الأنصاري، فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر، حتى كلمه فيه عمر، فلم يرضى إلا أن يرجع إلى خالد، ويقيم معه، فرجع إليه، ولم يزل معه، حتى قدم خالد المدينة.
استدعى أبو بكر الصديق خالد بن الوليد ليناقشه في ذلك الأمر، ويستجوبه على ما فعله مع مالك بن نويرة، وأصحابه، وفسر خالد بن الوليد الأمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقبل منه الصديق رضي الله عنه، وأعاده أميرا على جيش آخر بعد أن قام بما أمره رضي الله عنه في حرب قبيلة أسد، وقبيلة بنى تميم، وانتصر في المعركتين انتصار ساحقًا.
فما كان لأبي بكر الصديق أن يؤمّر خالد بن الوليد مهما كانت الأمور صعبة، ومهما كان الموقف شديد على المسلمين، وهو قاتل ظالم، أو يفعل معصية كهذه، يقتل رجل ليتزوج زوجته، طبعا هذا أمر شديد جدًا في حق رجل كخالد بن الوليد، وكلنا يعلم أداء خالد بن الوليد في الإسلام، وهو سيف من سيوف الله، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأقرب إلى الصواب، وهذا هو الأقرب إلى الظن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الجيش الثاني بقيادة عكرمة بن أبي جهل
وكان هذا الجيش متجها إلى قبيلة بني حنيفة التي فيها مسيلمة بن حبيب الكذاب، وحتى نستطيع أن نستوعب قيمة المعركة، وقيمة اتجاه الجيش الثاني والثالث المتجهَيْن إلى هذه القبيلة، نتحدث قليلا عن تاريخ بني حنيفة، وكيف بدأت الردة في بنى حنيفة؟
كيف انتقلوا من الإيمان إلى الكفر؟
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته، قدمت الوفود من كل الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان من ضمن هذه الوفود، وفد بني حنيفة، جاء عدد كبير منهم، وكان قد أسلم منهم قبل ذلك ثمامة بن أثال، وهذا الرجل صحابي جليل من الذين آمنوا، وحسن إسلامهم، وهو لم يأت مع قومه، بل أَسَرَه محمد بن مسلمة، وهو قافل من غزوة القرطاء، وعامله الرسول صلى الله عليه وسلم بإحسان، فأسلم، ثم عاد إلى قومه، ثم أتى بمجموعة من قومه ليسلموا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى القوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبايعوه صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء قوم يبايعوه على الإسلام أن يعطيهم عطاءً، حتى يؤلف قلوبهم، فأعطاهم، فَقَالُوا:
يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رِحالِنا وفي رِكابِنا يحْفظها لنا.
يعني لم يأت معهم لهذه المبايعة، ولكنه ظل مع متاعهم، وإبلهم خارج المدينة؛ ليقوم بحراستها، وكان مسيلمة بن حبيب هو الذي ظل مع متاعهم ليحرسها لهم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال:
أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا.
أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهَوْا إلى اليَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ الله، وَتَنَبّأَ، وَتَكَذّبَ لهم، وقال:
إني قد أشركت في الأمر معه.
وقال لوفده الذين كانوا معه:
ألم يقل لكم حين ذَكَرْتُمُونِي له أما إنه ليس بشركم مكانا؟
ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه.
ومسيلمة بن حبيب يشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، ويشهد أنه رسول الله، لكنه يقول أنه أُشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي نصيبه من النبوة، كما أَوّله هو لنفسه، فقالوا له:
ألا تدخل فتبايع.
فدخل يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن تركهم عند الإبل، فجلس مع أحد الناس من قبيلته، يحدثه، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بعدُ فقال له:
ألا تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: أبايعه إن يجعل لي الأمر من بعده.
فعلق شرط المبايعة أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم له الأمر من بعده، وكان صلى الله عليه وسلم يمر من ورائه، فسمعه، وهو يقول:
أبايعه على أن يجعل لي الأمر من بعده.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في يده عود من جريد، وقيل كان معه سواك، فقال له:
يَا مُسَيْلِمَةَ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعُودَ مَا أَعْطَيْتُهُ لَكَ، وإنى أرى فيك الذي أُريته ويحدثك ثابت بن قيس فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يحدثه.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤية، فحدث بها الصحابة، وعلم بهذه الرؤية ثابت بن قيس، ولم يحدثه النبي صلى الله عليه وسلم لكفره الشديد، وترك ثابت بن قيس يكلمه، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك مسيلمة فحدثه ثابت ابن قيس بالرؤيا التي رآها فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رأى في المنام أنه قد أوتي له بخزائن الأرض، وأنه يلبس في يديه سوارين من ذهب، فكرههما الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذهب محرم على الرجال، فكره أن يكون في يديه سوارين من ذهب فأوحي إليه أن أنفخهما، وفى رواية أخرى أن جربيل قال له:
انفخهما.
فنفخهما، فطارا، وقد أولهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما كذابان يخرجان في قوم، فهذا أحدهما مسيلمة بن حبيب، ثم ظهر الكذاب الآخر، وهو الأسود العنسي في اليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة في قبيلة أسد، فقد ظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسجاح التي ادعت النبوة ظهرت بعد الرسول، أما في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر مسيلمة بن حبيب والأسود العنسي.
%عاد مسيلمة بن حبيب إلى بني حنيفة، وأخذ يدعو بدعوته أنه نبي، وقد أُشرك في الأمر مع محمد فآمن له بعض قومه، ثم أراد أن يكتب رسالة، أو خطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُثبت دعائم نبوته في الجزيرة العربية، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة مع رجلين من قومه قد آمنا بدعوته يقول:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشا قومًا يعدلون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين:
أَأَنْتُمَا عَلَى دَعْوَتِهِ؟
فقالا: نعم.
فقال:
لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتَكُمَا.
فحفظ دماءهما لأنهما رسوليْن، ثم أعاد الرسوليْن إلى مسيلمة بن حبيب، وكتب صلى الله عليه وسلم رسالة، وأعطاها إلى حبيب بن زيد أحد الصحابة الشباب، وقال له:
اذْهَبْ بِهَا إِلَى مُسَيْلِمَةَ.
قال في رسالته صلى الله عليه وسلم:
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ- وهذه أول مرة يطلق عليه الكذاب- السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
فهذا الأمر ليس من اختيارك أنت، فقد اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يخترك، فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أسر حبيب بن زيد رضي الله عنه, وقيده، فكان إذا قال له:
أتشهد أن محمدًا رسول الله؟
قال: نعم.
وإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: أنا أصم لا أسمع.
ففعل ذلك مرارًا، فقطعه مسيلمة عضوًا عضوًا، فمات شهيدًا رضي الله عنه. فكان هذا الأمر شديدا على المسلمين؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هذين المرتدين؛ لأنهما رسولان مع أن المرتد يحل دمه، ومع ذلك حفظ الرسول الله صلى الله عليه وسلم دمهما ولم يقتلهما، ولكن هذا الرجل المرتد قتل الصحابى الجليل، فشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث له جيشًا يقاتله، أو يردُّه إلى الإسلام، ولكنه في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بتجهيز بعث أسامة بن زيد إلى حدود الشام، وكان ذلك قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعظم الصحابة كانوا في جيش أسامة، فلم يكن هناك وقت، ولا قوة، وطاقة ليبعثها إلى بني حنيفة، وكان قد ارتد مع مسيلمة في ذلك الوقت جموع غفيرة تقدَّر بعشرة الآلاف.
وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى بني حنيفة مَن يردهم للإسلام، ويُعلمهم، فاختار رجلًا منهم؛ حتى يكون أقرب للسان قومه, ولعلهم يستجيبون له أكثر من غيره، وهو صحابي اسمه نهار الرَجَّال، أو نهار بن عنفوة، وكان قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، وكان قد حفظ من القرآن الكثير، وكان مما حفظه سورة البقرة، فكان من أهل البقرة، وكان أهل البقرة معروفين بالمدينة؛ وذلك لفضل سورة البقرة، فوثق الرسول صلى الله عليه وسلم من دينه, وأرسله حتى يُعلم بني حنيفة الإسلام، فأتى هذا الرجل مسيلمة الكذاب في خيمته، وجلس معه طويلًا، فاجتمع بنو حنيفة حول الخيمة؛ ليعرفوا ما الذي يسفر عنه اجتماع مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة؟
وهل مسيلمة على الحق؟
وهل أُشرك في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول؟
أم أن محمدًا قد بعث من يُكذِّبه؟
اجتمع القوم مسلمهم ومرتدهم حول خيمة مسيلمة, وطال الحديث بين مسيلمة الكذاب وبين نهار الرجَّال، ثم خرج نهار الرجال فسأله القوم:
ما يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسيلمة؟
وكان القوم يعتقدون أن محمدًا رسول الله حتى المرتد منهم, ولكنهم يزعمون أن مسيلمه أشرك في الأمر معه، حتى أنهم ما زالوا يصلون الصلوات،
فإذا بالرَّجَّال يقول:
لقد أُشرك مسيلمة في الأمر مع محمد.
وارتد الرجل.
وفي هذا الموقف يجدر بنا القول أن الحق لا يُعرف بالرِّجال، مسيلمة بن حبيب الكذاب كان قد قال من الآيات الكثير التي هي من سخافات القول، أو من خرافات القول، فكيف صدق هؤلاء القوم ذلك الكذاب، ثم كانت فتنة أكبر حين خرج عليهم نهار بن عنفوة بكذبه، وردته هو الآخر، وهو مبعوث محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة، وفي هذا اليوم فقط ارتد من بني حنيفة أربعون ألفا، فأصبح جيش مسيلمة خمسين ألفا، وانقسمت بنو حنيفة،
فخمسون ألفا على الإسلام، وخمسون ألفا ارتدوا، أربعون ألفا منهم في يوم واحد على يد هذا الرجل نهار الرَّجال، فسبحان الله لا يأمن أحد شر الفتنة، فبعد أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظ البقرة، ارتد بعد أن وعده مسيلمة الكذاب بإمارة، ووزارة، فارتد، واختار أن يعيش حياة الكفر مع هذا الكذاب المرتد، فقويت شوكة مسيلمة بن حبيب الكذاب، وأصبح له جيش تعداده خمسون ألفا، وانقلبوا على المسلمين من قبيلتهم يعذبونهم، وكان فيهم ثمامة بن أثال الصحابي الجليل، فبدأ ثمامة بن أثال يقاتل مسيلمة الكذاب، لكن قوة مسيلمة الكذاب كانت قوية، فالمسلمون الموجودون في بني حنيفة لم يقاتلوا كلهم مع ثمامة بن أثال، فمجموعة منهم قاتلوا معه، ومجموعة أخرى كانت منتظرة النتيجة، هم مسلمون، لكنهم لم يقاتلوا الكذاب مع ثمامة.
وفي هذه اللحظة يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصلت الأنباء إلى بني حنيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي، فارتدت بقية القبيلة، الخمسون ألفا الباقية، وأصبحت القبيلة كلها مرتدة، ولم يبق فيها إلا قلة قليلة جدا، ثُمامة بن أُثال مع بعض الناس، فهربوا من القبيلة.
ففي غضون شهور ارتدت كل بني حنيفة, ووفد بني حنيفة جاء ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم نهار الرَّجال ذهب إليهم في وقت بعث أسامة بن زيد، أي قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهر، أو شهرين، فأرتد أربعون ألفا، ثم بعد ذلك وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها بشهر، أو بأقل من شهر ارتد الخمسون ألفا الباقية، فأصبح جيش مسيلمة الكذاب جيشا عظيما.
لذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجه لها جيشين، جيش على رأسه عكرمة بن أبي جهل، والآخر على رأسه شرحبيل بن حسنة، وقال لعكرمة بن أبي جهل:
إذا أتيت بني حنيفة، فلا تقاتلهم حتى يلحقك جيش شرحبيل بن حسنة؛ لأنه يعلم أن جيش مسيلمة كبير، لكن الحقيقة أن أبا بكر لم يكن يعلم أن جيش مسيلمة بن حبيب وصل لمائة ألف، وقوة الصحابة بالمدينة كانت ضعيفة، فالجيش الأول حوالى ثلاثة آلاف، والجيش الثاني كان نفس العدد، وكانت هذه كل قوة المسلمين المتجهة إلى قبيلة بني حنيفة، وفي هذا الوقت كان خالد يحارب في الشمال قبيلة أسد وبني تميم.
فتعجل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شرحبيل بن حسنة، وقد قال الرواة عبارة قصيرة تعليقا على هذه المعركة التي دارت بين عكرمة، ومسيلمة، قالوا: فكاد جيش مسيلمة أن يأكل جيش عكرمة بن أبي جهل.
مائة ألف أمام ثلاثة آلاف، فلو قاتل المائة ألف من غير أسلحة لهزموهم، فاجتاح جيش مسيلمة جيش عكرمة بن أبي جهل، ففر جيش عكرمة في البلاد، وتفرقوا في المنطقة من بني حنيفة حتى المدينة المنورة، ووصلت الأنباء إلى أبي بكر الصديق بالمدينة، فحزن حزنا شديدا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل، ففي بداية الرسالة عَنَّفه بشدة على تسرعه في محاربة مسيلمة الكذاب، ثم قال له لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعرفجه بن هرثمة في اليمن، فقاتِل معهما.
وهذا من حكمة أبي بكر، وبُعد نظرته الحربية، فقد خشي إن عاد هذا الصحابي بجيشه الفارّ إلى المدينة أن يفت ذلك في عضد المسلمين بالمدينة، ويصور لهم الجيش عظمة جيش مسيلمة، فيرعب المسلمين الموجودين في المدينة المنورة، ولا يستطيع أبو بكر الصديق بعد ذلك إرسال جيش آخر إلى مسيلمة الكذاب، فأرسل له ليبتعد عن المدينة، ويتوجه بجيشه إلى اليمن؛ ليقاتل مع حذيفة وعرفجة بن هرثمة.
وبرغم خطئه لم يُقله عن إمرة الجيش، بل ظل أميرًا على جيشه، أخطأ عكرمه بن أبي جهل، ولكن ليس حق هذا الخطأ القتل، أو الإبعاد؛ لأنه يرى في عكرمة حكمة، ومهارة حربية، لكنه اجتهد فاخطأ في هذا الأمر، وأرسل رساله إلى حذيفة بن محصن، وإلى عرفجة بن هرثمة يقول لهما:
يأتيكما عكرمة بن أبي جهل، فإن أتاكما فاسمعا منه، فإن له رأيا.
وجعل إمارة الجيوش إلى حذيفة بن محصن، وعمل أبو بكر على أن يقاتلوا متحدين حتى لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه عكرمة في بني حنيفة، فوجههم إلى عمان في منطقه (دبا) ليقاتلوا المرتدين في منطقة عمان وإذا تم النصر، يتجهوا إلى مهرة وعلى رأسهم عرفجه بن هرثمة وسنأتي في تفاصيل تلك المعركة.
الجيش الثالث بقيادة شرحبيل بن حسنة
يتقدم جيش شرحبيل بن حسنة، وكان تعداد جيشه ثلاث آلاف، فأرسل أبو بكر الصديق رسالة إلى شرحبيل بن حسنة يقول له:
انتظر ولا تقاتل مسيلمة الكذاب، حتى أبعث إليك بمدد، أو أمر آخر.
فعسكر شرحبيل بن حسنة قرب بني حنيفة منتظرا مدد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم يبدوا له أن بني حنيفة في تعب، أو في إرهاق من قتالها مع عكرمة بن أبي جهل، فيجتهد شرحبيل بن حسنة اجتهادا آخر، مع أن الأمر صريح، وواضح من أبي بكر الصديق، ولكنه هاجم قبل أن يصل له المدد القادم من أبي بكر الصديق.
هاجم شرحبيل بن حسنة بجيشه الصغير الذي لا يتجاوز تعداده الثلاثة آلاف مقاتل على جيش مسيلمة الذي قد بلغ تعداده بعد الردة مائة ألف، فيحدث مع جيش شرحبيل نفس الذي حدث مع عكرمة بن أبي جهل، وكاد جيش مسيلمة أن يأكل جيش شرحبيل بن حسنة أيضا، وفر جيش شرحبيل بن حسنة في البلاد هو الآخر، سبحان الله، نفس ما حدث قبل ذلك، فالنتيجة واحدة في الجيشين، كما أن السبب واحد، وهو أن كلا الأميرين لم يسمعا ويطيعا لكلمة خليفة المسلمين، وكانت نتيجة معصية الأمير أن ألحق الأذى بالمسلمين كلهم، وشرحبيل بن حسنة من القادة المهرة جدا فهو من أقوى القادة، ومع ذلك قدّر الله سبحانه وتعالى أن اجتهد، وأخطأ في هذا الاجتهاد، وأبو بكر الصديق يحزن حزنا شديدا، ويرسل له أن امكث في مكانك، ولا ترجع إلى المدينة.
الجيش الرابع بقيادة خالد بن الوليد وموقعة اليمامة
في الوقت الذي انهزم فيه جيش عكرمة، وجيش شرحبيل، كان خالد بن الوليد قد انتصر انتصاراته العظيمة في أسد، وفي تميم، وانتهت مهمته، وعاد إلى المدينة؛ ليحقق معه أبو بكر الصديق في حادث قتل مالك بن نويرة، ثم يقبل منه أبو بكر الصديق، ويدعو له بالخير، ثم يُأَمّره على جيش آخر، ليذهب هذا الجيش مع جيش شرحبيل بن حسنة بقيادة خالد بن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، ويصبح خالد بن الوليد هو المكلف الآن بقتال بني حنيفة، فيجمع خالد بن الوليد جيشه، وبعض الصحابة من المدينة، إلى جيش شرحبيل بن حسنة، ويتوجه الجميع إلى قبيلة بني حنيفة، وبعد خروج جيش خالد من المدينة، يرسل أبو بكر الصديق مددا آخر إلى خالد بن الوليد، على رأسه سليط بن قيس أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلحق هذا المدد بخالد بن الوليد، فتصل هذه الجيوش، والمدد إلى اثني عشر ألف في أكثر تقدير، وتذكر بعض الروايات أنهم عشرة آلاف.
وفي الوقت الذي توجه فيه خالد من المدينة لمحاربة مسيلمة الكذاب كان هناك جيش آخر متجه من الشمال إلى بني حنيفة لقتالهم أيضا، وعلى رأس هذا الجيش سجاح التي ادعت النبوة، فهو ليس جيشًا مسلمًا، بل إنه جيش مرتد، وهذا الجيش على أغلب التقديرات تعداده يصل إلى مائة ألف، فلم تكن قوة المرتدين قوة واحدة، بل كان هدف كل قوة السيطرة على الجزيرة العربية بمفردها.
فأتت سجاح إلى اليمامة مدعية أنه قد أوحي إليها أن تقاتل اليمامة أولًا؛ لأن قوة اليمامة أكبر من قوة المدينة، فقالت لأتباعها:
عليكم باليمامة، دفوا لهم دفيف الحمامة، كأنها غزوة ذي صرامة.
وتدعي أن هذه آيات، قد أوحيت إليها، فتتجه الجيوش إلى اليمامة إلى مسيلمة الكذاب، فيعلم أنه قد أتته سجاح بجيوش عظيمة، وهو ينتظر خالد بن الوليد من الناحية الثانية، فخشي أن تجتمع عليه الجيوش.
عسكرت سجاح قبل اليمامة بقليل، فجمع مسيلمة الكذاب أربعين رجلًا من قومه، وذهب ليتفاوض مع هذه النبية، فالتقى معها في خيمتها، وتدور محادثات بين سجاح مدعية النبوة، ومسيلمة الكذاب مدعي النبوة، فقال لها: ماذا أُنزل عليك؟
فقالت: أو تبدأ النساء؟!
فبدأ مسيلمة الكذاب يتلو عليها بعض آياته: لقد أنعم الله على الحبلى أن أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى.
وهناك آيات أخرى ذكرها ابن كثير وهي من الفواحش، وقالها لهذه المرأة، فقالت:
أشهد أنك نبي.
ثم قال لها: قولي لي من الآيات.
فقالت له بعض آياتها، فآمن هو الآخر بها، فآمنت به، وآمن بها.
وعرضت عليه أن ترحل، ولا تحاربه شريطة أن يعطيها نصف ثمار اليمامة ففي بادئ الأمر وافقها، ثم عرض عليها أن يتزوجها، فقال:
لو تزوجتك، فآكل بك العرب؟
فقالت: نعم.
ولما وافقت على ذلك فقال لها: بذلك أوحي إلي.
ثم عادت إلى قومها تنبئهم هذه الأنباء، وأن مسيلمة قد تزوجها، وأن الجيشين أصبحوا قوة واحدة، فقال لها قومها:
وما صداقك؟
فاكتشفت أنه لم يعطها مهرًا، فقالوا: كيف لا يعطيك مهرا وهو مسيلمة؟
فعاد له فريق من قومها يقولون له: وما صداق سجاح النبية؟
ففكر مسيلمة، هو لا يريد أن يتخلى عن ثمار اليمامة، فأعطاهم مهرًا طريفًا جدًا، أرسل إلى المؤذن، وقال له:
اذهب إلى قبيلة بنى تغلب قبيلة سجاح، وقل لهم: إني وضعت عنكم صلاة العشاء، وصلاة الفجر.
وكان هذا صداق سجاح النبية، فكان شَرّ مهر في التاريخ، ولم يسمع به من قبل، وكان من قبل قد أحل لهم الخمر، وأحل لهم الزنا, ثم أتت الأنباء إلى اليمامة ان خالدًا على مشارف اليمامة، فلما علمت بذلك سجاح- وكان لخالد بن الوليد رهبة في قلوب كل العرب- فخشيت على نفسها، وعلى قومها من الهلكة، فرغم قلة جيش خالد بن الوليد، وكثرة جيش سجاح ومسيلمة، إلا أنها خشيت خشية شديدة، لدرجة أنها ذهبت لمسيلمة تعرض عليه أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، ولا يفكر في أمر زواجهما، وترحل هي عن اليمامة، فخشي مسيلمة الكذاب أن تنقلب عليه إن هو رفض أن يعطيها نصف ثمار اليمامة، وخالد بن الوليد على الأبواب، فوافقها، وأعطى لها نصف ثمار اليمامة رغما عن أنفه، فأخذت نصف الثمار، وعادت إلى قومها، ويقال بعد ذلك أنها قد أسلمت في عهد عمر بن الخطاب، والبعض يقول أن إسلامها تأخر حتى عهد معاوية، ولكن الأقرب أنها أسلمت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم يأتي جيش خالد بن الوليد، وكان قائدًا محنكا عظيم الخبرة في الحرب، وكان لخالد بن الوليد نظرة حربية ثاقبة، فأرسل العيون لينقلوا له الأخبار، ويتحسسوا له الطريق؛ ليكون على معرفة كبيرة بعدوه، ومن ضمن هذه العيون أرسل فرقة تتحسس الطريق في اليمامة، ووجدت في طريقها ستين رجلا من بني حنيفة أرادوا أن يغيروا على بعض المسلمين حول بني حنيفة، فتقاتلوا مع هؤلاء الستين، وأسروهم، ولم يقتلوا واحدًا، وأتوا بهم إلى خالد، وكانت فرصة ليعرف خالد بن الوليد أخبار مسيلمة بن حبيب الكذاب، فتحدث معهم خالد، وسألهم:
أتشهدون أن مسيلمة رسول الله؟
فقالوا: نعم، منا نبي، ومنكم نبي.
فرغم أسرهم، وإحاطة جيش خالد بهم، إلا أنهم ثابتون على ردتهم، قال لهم خالد بن الوليد:
إن لم تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قتلتكم.
فقالوا: منا نبي ومنكم نبي.
فأصروا على ردتهم، فبدأ رضي الله عنه وأرضاه يقتلهم، كما أمره أبو بكر الصديق، واحد تلو الآخر، لعل بعضهم يرجع عما يعتقده، لكنهم ثبتوا على ردتهم ثباتا قد لا يثبت عليه بعض المسلمين، وقتل منهم تسعة وخمسين رجلًا، وبقي رجلًا، لكنه لم يرجع، وظل على ردته، وأراد خالد قتله، ولكن أشار عليه أحد المسلمين أن يحتفظ به أسيرا؛ لأن له كلمة في قومه، وكان اسمه مجاعة بن مرارة، فقيده، ووضعه في خيمته، ووَكّل في إطعامه، وشرابه زوجته، وقال لها: استوصي به خيرا، فإنه أسير.
حتى مع أنه مرتد، لكنها أخلاق المسلمين، وترك خالد الأمر لزوجته؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل عن جندي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين اثنا عشر ألفًا، ثم تقدمت الجيوش الإسلامية ناحية بني حنيفة، وقسم جيشه، ورتب قواته، فجعل شرحبيل بن حسنة على المقدمة، وهذا أيضًا نظر حربي ثاقب من خالد بن الوليد يجعله على مقدمة الجيوش، رغم فراره، وعدم مواجهته لمسيلمة في بادئ أمره، إلا أن خالد يثق في قوته، وحنكته في الحرب، ثم يجعل على ميمنته زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أبا حذيفة، وكان أبو بكر الصديق قد عرض الإمارة على زيد بن الخطاب، وأبو حذيفة من قبل ورفضاها، فيحفظ لهما مكانتهما، ويضع زيد على إمارة الميمنة، ويضع أبا حذيفة على إمارة الميسرة، ثم فَرّق بين المهاجرين والأنصار، حتى يعلم المسلمون من أين يُؤتون، وليحفز المسلمين على القتال، وجعل على راية الأنصار ثابت بن قيس، وعلى راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، ويبقى خالد بن الوليد في منتصف الجيوش حتى يدير هو كل المعركة، وجعل فسطاطه في مؤخرة هذا الجيش، وفي داخل الفسطاط مجاعة الأسير، وزوجته تقوم برعايته، وجعل في مؤخرته سليط بن قيس، وكان من العادة أن هذه المؤخرة لا تقاتل في الحروب، وإنما دورها حماية ظهر الجيش، وقاتل هو بكل الجيش المقدمة والميمنة والميسرة ومنتصف الجيش الذي يوجد فيه بنفسه.
أما مسيلمة بن حبيب الكذاب فكانت عنده مجموعة كبيرة من الحصون، أكبرها يسمونه الحديقة، وله أسوار عالية، وكانت قوة مسيلمة كبيرة جدا لا تستوعبها هذه الحديقة، فخرج بجيشه خارج حديقته، وعسكر خارج اليمامة في منطقه تسمى عقرباء، وجهز جيشه، وجعل على ميمنته محكم بن الطفيل، وهو وزير مسيلمة، اتخذه وزيرا منذ ادَّعى النبوة, وجعل على الميسرة نهار الرَّجال الذي ارتد مع مسيلمة، وبقي مسيلمة نفسه في مؤخرة جيشه، ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن، وكان هناك بعض الحصون الأخرى، وضعوا فيها النساء والأطفال. واقترب خالد بن الوليد، وبدأت موقعة اليمامة، وتعد هذه المعركة من المعارك القليلة التي من الممكن على ضوئها أن يتغير التاريخ، فلنتذكر هذه الموقعة دائما، هناك بعض المواقع الكثيرة تحدث وتنتهي ولا يتغير شيء بعدها، وهناك بعض المواقع التي تغير وجه التاريخ، ومن هذه الواقع الفارقة ليس في التاريخ الإسلامي فحسب، بل في تاريخ البشرية كلها موقعة اليمامة التي غيرت وجه التاريخ.
مشاهد من داخل المعركة
التقى الجيشان، وكان جيش مسيلمة الكذاب في منتهى القوة، فتعداده مائة ألف مقاتل، وجيش خالد بن الوليد اثنا عشر ألف، فبالنسبة لجيش مسيلمة، وبالحسابات الدنيوية فهو ضعيف، وفي بداية المعركة يهجم جيش مسيلمة هجوما شديدا على جيش المسلمين، واخترقوا جيش المسلمين حتى وصلوا إلى فسطاط خالد بن الوليد الذي هو قبل مؤخرة الجيش، ودخلو خيمة القائد، وحرروا مجاعة، وكادوا أن يقتلوا زوجة خالد بن الوليد، لولا أن أجارها مجاعة بن مرارة، فقال: نعمت الحرة هي.
فكانت تستوصي به خيرا، وكانت تطعمه، وتسقيه في أسره، فحفظ لها الجميل، فأطلقوا زوجة خالد بن الوليد، بعد أن أجارها مجاعة، وأخذوا مجاعة، وبدءوا يقاتلون المسلمين قتالا شديدا.
وكان الانكسار الأول في جيش المسلمين، وفَوْر وقوع هذا الانكسار جمع المسلمون أنفسهم، وظهرت نماذج في جيش المسلمين لا تكاد تتكرر في التاريخ، فيقوم زيد بن الخطاب الذي رفض الإمارة، حتى يطلب الشهادة، يقول للمسلمين:
أيها الناس عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما، والله لا أتكلم حتى ألقى الله فأكلمه بحجتى.
فنذر ألا يتكلم حتى ينصره الله على هؤلاء المرتدين، أو يقتل في سبيل الله في هذه المعركة، وبدأ يجمع حوله مجموعة من الصحابة الأبرار، ويقاتل قتالا شديدًا في جهة اليمين وهو قائد الميمنة، حتى وفقه الله تعالى إلى أن يصل إلى نهار الرّجال، وهو قائد ميسرة المرتدين، فتبارز معه، وقتل الحق الباطل، فقتل زيد بن الخطاب نهار الرَّجال، ويموت هذا الرجل على الردة بعد أن تعلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستمر زيد في القتال، وبمجرد موت نهار الرجال، تضعف الهمة عند بني حنيفة، فهذا أحد قادتهم، ومن كبار رجالهم، وقد تبعه في ردته أربعون ألفًا, فضعفت الهمة في قلوبهم، فانكسروا انكسارا كبيرا، وهجم عليهم المسلمون، واستمر زيد بن الخطاب في القتال، ودخل في عمق جيش المرتدين، ثم قابله رجل يسمى أبو مريم الحنفي من بني حنيفة، فتقاتل معه، فقدّر الله تعالى أن يحقق لزيد بن الخطاب أمنيته، ويلقى الشهادة على يد أبي مريم الحنفي، هذا الرجل بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، وكان يقول:
لقد أكرم الله زيدًا بالشهادة على يدي، ولم يُهِنِّي على يديه.
وبقتل زيد بن الخطاب حدث في ميمنة المسلمين ما حدث في ميسرة المشركين، قتل قائد من قواد المؤمنين، وحدث انكسار ثان في جيش المسلمين، فهجم جيش مسيلمة في هذة المرة هجوما شديدا، واجتاحوا جيش المسلمين للمرة الثانية حتى وصلوا لخيمة خالد بن الوليد للمرة الثانية، فتظهر نماذج أخرى، يقوم ثابت بن قيس الذي يحمل راية الأنصار، وينادي على الأنصار:
يا للأنصار.
فيلبي الأنصار، ويقومون على المشركين، ويقاتلون قتالا شديدا، يقاتل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وهو يحمل الراية، فتقطع إحدى رجليه، ويقع على الأرض، ثم يسمع النداء: يا للأنصار.
فيسرع، وهو برجل واحدة، ويحبو على الأرض، فيقول له أبو سعيد الخدري: ما عليك.
فيقول: ألبي ولو حبوًا.
فيسرع حبوا حتى يلتقي مع المشركين، فيقتل رضي الله عنه وأرضاه، ويستشهد في هذه المعركة ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال فيه:
نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ.
فهذه شهادة في حق ثابت تثبت أنه عند حسن ظن الرسول فيه، ثم يستمر جيش مسيلمة في الهجوم على جيش المسلمين، فيظهر نموذج آخر، وهو أبو حذيفة، كان أبو حذيفة من حفّاظ سورة البقرة، فينادي:
يا أهل البقرة.
فيقوم له المسلمون الحافظون لسورة البقرة، ويقاتلون قتالا شديدا حتى يأذن الله له بما كان يريد، فيستشهد رضي الله عنه، ويستمر الهجوم قويا على المسلمين، فيحمل راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، فيقول له المسلمون وكان رجل ضعيف البنية:
نخشى أن نُؤْتى من قِبَلك.
فيقول: تُؤْتْوْن من قِبَلي؟! بئس حامل القران أنا إذًا.
وكان سالم حافظًا القرآن، ويقاتل قتالا شديدا، فتقطع يده اليسرى، وكان يقاتل بيده اليمنى، ويحمل الراية في يده اليسرى، فتقطع يده اليسرى، فيحمل الراية باليمنى، فتقطع يده اليمنى ويسقط على الأرض رضي الله عنه وأرضاه، ويأتيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه قبل وفاته بقليل، فيجده يقول: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:146} .
ثم يقول: أين أبو حذيفة؟
فيقول له المسلمون إنه قد استشهد في المكان كذا وكذا، فيقول: ادفنوني في جواره.
وكان قد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي حذيفة الذي كان مولاه إلى أن أعتقه أبو حذيفة، وكان أبو حذيفة قد تبناه، فأصبح اسمه سالم بن أبي حذيفة حتى نزلت آية تحريم التبني، فأطلقه حذيفة، وكان اسمه سالم بن عبيد، ولكنه اشتهر في المسلمين بسالم مولى أبي حذيفة لأنه كان يحب هذا الرجل حبا شديدا، فقال: ادفنوني بجواره.
المسلمون بعد هذه الملاحم العظيمة اشتدت شوكتهم، وبدءوا يهجمون على المشركين هجوما شديدا، حتى أذن الله لهم بالتقدم داخل صفوف المشركين، وحينما كانت تُحاصَر فئة من المسلمين، يقولون: أغثنا يا خالد.
فيجمع مجموعة من المسلمين، ويتجه نحوهم، وينقذهم بفضل الله تعالى، هذا القائد المظفر خالد بن الوليد، وفي هذا الهجوم الثاني للمسلمين يصل خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب، يخترق الجيش كله، ويصل لمسيلمة الكذاب، فيدعوه إلى الإسلام، فكان حريصًا على قوة الإسلام، يقول له ارجع للإسلام، لو رجعت للإسلام ستحفظ دماء هؤلاء الناس من القتل، فيأبى مسيلمة أن يسلم، ويستمر على ردته، ثم يحدث انكسارًا ثالثًا في جيش المسلمين، ويهزم جيش المسلمين لثالث مرة؛ لأن جيش المشركين كبير جدا، فيدخل جيش المشركين للمرة الثالثة، ويبدءوا هجومهم حتى يصلوا إلى خيمة خالد للمرة الثالثة، فقام عمار بن ياسر، وكان من المشتركين في هذه الموقعة، ومن حفاظ القرآن، فيقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.
يقول أبو سعيد الخدري: والله لقد رأيت يوم اليمامة عمار بن ياسر يقف على تل ويقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال. وإن أذنه تتأرجح بجانبه.
فينشط أهل القرآن، ويهجمون هجوما شديدا على المشركين، ويطلق خالد بن الوليد شعارا للمعركة حتى يحفز المسلمين فيقول: وامحمداه.
فكلما قال خالد: وامحمداه.
ازدادت الحمية في قلوب المسلمين، وعلموا أن هذا الرجل مسيلمة الكذاب ليس منصورا من الله سبحانه وتعالى، وأن النصر معهم وأنهم إذا ماتوا، ماتوا على الإيمان، وهو ميت على الردة، فهجموا هجوما شديدا على المشركين حتى استطاعوا أن يقحموهم إلى اتجاه الحصن الكبير، وبدأ المسلمون في قتل العدد الكبير منهم من المشركين، فلا يجد محكم بن الطفيل حلا لهذا الموقف إلا أن يدخل الناس داخل الحديقة، فيقول لكل المرتدين: عليكم بالحديقة.
فيسرع المرتدون إلى الحديقة، والمسلمون وراءهم بالسيوف.
فرّ المرتدون أمام المسلمين حتى دخلوا الحديقة بأعداد هائلة حتى كان داخل الحديقة في ذلك الوقت ما يقرب من تسعين ألف مقاتل، وأراد المسلمون دخول الحديقة، فلم يستطيعوا دخولها لمناعة أسوارها العالية، وأنعم الله على المسلمين في هذه الموقعة بصحابي جليل قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولة عظيمة، قال: رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَا يُؤْبَهُ بِهِ إِذَا اسْتَأْذَنَ لَا يُؤْذَنُ لَهْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ.
فخرج هذا الصحابي بفكرة عجبية جدًا لفتح باب الحصن العظيم، فقال للمسلين:
ضعوني على درع، ثم ارفعوا هذا الدرع بأسنة الرماح، ثم ارفعوني، حتى أصل إلى أعلى السور، ثم اقذفوني داخل الحديقة، أفتح لكم الباب من داخل الحديقة.
وبداخل الحديقة تسعون ألفا من المرتدين، ولم يوافقه الصحابة في بادئ الأمر، إلا أنه رضي الله عنه أصر على ذلك، وكان مستجاب الدعوة فدعا الله أن يعنه وأن يبلغه الشهادة، ثم وافقه الصحابة بعد ذلك، فلم تكن هناك وسيلة أمامهم غير ذلك، فأسوار الحديقة عالية جدًا، فألقوه داخل الحديقة، وبحسابات العقل البشري لا يستطيع رجل واحد أن ينجو من مثل هذه الأمواج البشرية المتلاطمة داخل الحديقة، وشاء الله أن يقتل البراء بن مالك كل من يلقاه ولم يكن هم البراء بن مالك أن يقتل عددًا من المرتدين بقدر ما كان همه أن يفتح الباب، وتكالب عليه المرتدون، وظل يقاتل حتى وصل إلى باب الحصن، وفتح الباب، بعد أن أصابه ثمانون طعنة، وقد يقرأها إنسان في سطر لكن تخيل أن يصاب بكل هذه الطعنات ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ومع ذلك يقاتل، ويثبت حتى يفتح الباب، ويدل ذلك على أن الله عز وجل مع هذا الجيش وما هي إلا أسباب أخذها ذلك الجيش [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأنفال:17}
كان مجرد سبب أخذ به المسلمون، وبارك الله فيه، وبمجرد فتح الباب، أُسقط في يد المرتدين، فهم لم يتخيلوا أن يسقط عليهم رجلٌ، ويثبت لقتالهم، ويفتح الباب، فأصاب ذلك في نفوسهم رهبة شديدة من المسلمين، وعلموا أن المسلمين منصورون، ومع ذلك قاتلوا على ردتهم، ودخل جيش المسلمين الحديقة، وبدءوا يقاتلون المرتدين، وثبت المرتدون على القتال حتى شاء الله تعالى أن يقتل محكم بن الطفيل وزير مسيلمة الكذاب، وقائد ميمنته، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، بينما كان يخطب في الناس ويحفزهم لقتال المسلمين، فرماه عبد الرحمن برمحه فدخل الرمح في عنقه فسقط صريعًا مرتدًا، وكان يشارك في المعركة من أبناء أبي بكر الصديق عبد الله وعبد الرحمن.
ولما قُتل محكم بن الطفيل علت همة المسلمين، وضعفت نفوس المرتدين، وازداد القتل في المرتدين...
وحشي بن حرب يقتل مسيلمة
وصل إلى مسيلمة الكذاب أحدُ المسلمين الذي أراد أن يكفر عن ذنب قديم عظيم ارتكبه في جاهليته، فحمل رمحه، وسدده إلى قلب مدعي النبوة الكافر، فخر صريعًا، وهذا الرجل الصحابي هو وحشي بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب، والذي ظل طوال حياته كافرًا إلى أن منّ الله عليه بالإسلام والهداية، وأسلم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاهد نفسه أن يكفر عن ذنبه، وجاءت هذه الموقعة؛ ليكفر عن ذنبه، كما يقول: أتمنى أن تكون هذه بتلك.
أي قتله لمسيلمة الكذاب بقتله حمزة سيد شهداء.
وفي نفس اللحظة الذي يسقط فيها مسيلمة الكذاب برمح وحشي كان تطير عنق مسلمة الكذاب بسيف آخر في تزامن عجيب من أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة وكان يُلقب بين الصحابة بصاحب العصابة الحمراء، وكان يركب خيله بخيلاء ويتبختر بها بين الصفوف حتى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: إِنَّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ.
ففي موضع القتال يحب الله هذه المشية؛ لأنها تلقي الرهبة في قلوب الأعداء، هذا الرجل أيضًا قتل مسيلمة الكذاب، لكن يبدو والله أعلم أن رمح وحشي بن حرب سقط أولًا؛ لأن المشهور أن وحشي بن حرب هو الذي قتل مسيلمة الكذاب، والمشهور أيضًا أن إحدى الجواري كانت تقف على رأس شرفة فلما سقط مسيلمة الكذاب قالت: يا ويلاتاه، قتل مسيلمة العبد الأسود.
فعرف أن وحشي بن حرب هو الذي قتل مسيلمة الكذاب.
وبعد أن قطع أبو دجانة رأس مسيلمة الكذاب شاء الله له أن يلقى الشهادة، فقتله أحد المرتدين بسهم وسقط رضي الله عنه وأرضاه شهيدًا في معركة اليمامة.
بعد قتل مسيلمة الكذاب وهن |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #20موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:38 pm | |
| آبو بكر الصديق وبعد أن قطع أبو دجانة رأس مسيلمة الكذاب شاء الله له أن يلقى الشهادة، فقتله أحد المرتدين بسهم وسقط رضي الله عنه وأرضاه شهيدًا في معركة اليمامة.
بعد قتل مسيلمة الكذاب وهنت نفوس المرتدين، وخارت عزائمهم، فلم يقووا على فعل شيء، فأعلنوا تسليمهم وقبل أن يعلنوا تسيلمهم كان المسلمون قد أوسعوهم قتلًا، وبلغ عدد قتلى المرتدين في معركة اليمامة واحدا وعشرين ألف مرتد، وكان جيش المسلمين اثني عشر ألف مجاهد، قتل منهم ألف ومائتا شهيد سقطوا من المسلمين.
وحتى نعرف قيمة هذه المعركة وأهميتها، فإن الذين شهدوا غزوة بدر، وكانوا يسمون البدريون وكان لهم ثقل شديد في الإسلام استشهد منهم في هذه المعركة ثمانية وخمسين بدريًا، لنعرف أن هذه الموقعة كانت خطيرة في ميزان الإسلام، وشهداء المعركة من حفظة القرآن خمسمائة شهيد، ولا بد من معرفة أهمية الرقم، لنعرف أن المسلمين في حينها كانوا لا يحفظون القرآن في الكتب، ولم يكن هناك كتاب واحد يجمع القرآن، بل كان القرآن محفوظ في صدور هؤلاء الناس، وبعض جذوع النخل، وبعض العظام مكتوب عليها بعض الآيات، ولم يكن هناك شيئًا يجمع القرآن سوى صدور هؤلاء الناس، فمقتل خمسمائة في يوم واحد كان له من الأثر شديد على المسلمين لدرجة أن المسلمين خافوا على القرآن ألا يجمع، إلا أن الله قد منّ على الإسلام بالرجل العظيم أبي بكر الصديق الذي جمع القرآن في حياته رضي الله عنه وأرضاه.
هذه الموقعة من المواقع المؤثرة في تاريخ الإسلام، ولولا هذه الموقعة بفضل الله تعالى لانقلبت الكفة تمامًا في الجزيرة العربية؛ لأن هذا الجيش من أقوى جيوش المرتدين، وقد أذن الله عز وجل بالنصر لاثني عشر ألف على مائة ألف، فهذا تأييد عظيم من الله سبحانه وتعالى، لكن المسلمين دفعوا ثمنًا غاليًا دفعوا دماء كثيرة في سبيل هذا النصر، وفي سبيل إرضاء الله عز وجل.
من شهداء معركة اليمامة
الشهداء في هذه الموقعة كثيرون، وسنمرّ على بعض الشهداء ممن لهم ثقل عظيم في الإسلام.
زيد بن الخطاب
فمن أول الشهداء زيد بن الخطاب، وهو أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسبقه إلى الإسلام، ويقول عمر:
ما كان هناك من خير سبقني إليه إلا زيد بن الخطاب، فقد سبقني إلى الإسلام، وسبقني إلى الشهادة.
وكان عمر يقول:
كلما هبت ريح الصّبا حملت إليّ نسائم زيد.
وريح الصبا ريح تهب من ناحية الشرق، من ناحية قبائل بني حنيفة، وعندما كان يجلس مع الصحابة، وتهب ريح الصبا يبكي عمر، وحين يسأله الصحابة عن سبب بكائه، يقول:
كلما هبت ريح الصبا أتذكر زيد بن الخطاب.
سالم مولى أبي حذيفة
كان أبو حذيفة من أوائل من أسلم، وسالم بن عبيد هو أيضًا من السابقين إلى الإسلام، وهما من المهاجرين، وكان سالم مولى لأبي حذيفة، أي عبدًا ولما أسلم أعتقه لله سبحانه وتعالى، ثم تبناه، فأصبح اسمه سالم بن أبي حذيفة، ثم لما نزلت آية تحريم التبني أصبح اسمه سالم بن أبي عبيد، واشتهر بسالم مولى أبي حذيفة، ولشدة الحب بينهما، لما هاجر المسلمون، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، والأنصار آخى بين سالم وأبي حذيفة مع كونهما من المهاجرين.
ولكي نعرف قيمة سالم مولى أبي حذيفة الذي كان مولى في العرف القديم في وقت كانت القبائل تعتز فيه بالشرف، وتنظر إلى العبيد نظرة ازدراء واحتقار إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لسالم:
الْحَمْدُ لِلَِّهِ الَّذِي جَعَل فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ.
ويقول في حديث آخر:
اقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَرْبَعَةٍ: سَالِمِ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولما طُعن عمر بن الخطاب، وعندما كان يفكر فيمن يخلفه، قال:
لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لوليته.
وهذا إقرار كبير بالفضل لسالم مولى أبي حذيفة.
ثابت بن قيس
كان ثابت بن قيس من أوائل الأنصار الذين أسلموا، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفًا:
نِعْمَ الرَّجُلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ.
أبو دجانة سماك بن خرشة
من الأنصار ومر بنا منذ قليل.
الطفيل بن عمرو الدوسي
الطفيل بن عمرو الدوسي من قبيلة دوس، وهو من كبار الصحابة الذين أسلموا بمفردهم، أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيده إلى قبيلته ليدعوهم إلى الإسلام، فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة دوس، فظل يدعو فيها فترة من الزمان، فآمن معه أهل بيته ولم يؤمن معه أحد من القبيلة كلها فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له:
ادع على قبيلة دوس.
فدعا لهم صلى الله عليه وسلم، وقال:
اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا.
ثم قال له:
عُدْ إِلَى قَوْمِكَ.
فعاد إلى قومه، فدعا فيهم فترة وجيزة، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسعين بيتًا، هم كل قبيلة دوس، أسلموا على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، منهم أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فكل هذه القبيلة في ميزان حسناته، أسلم وهدى قومه، واستشهد في موقعة اليمامة.
وكان قد رأى رؤيا قبل الموقعة بيوم واحد فقال لأصحابه:
إني رأيت رؤيا فاعبروها، إني رأيت رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني عمرًا يطلبني طلبًا حثيثًا، ثم رأيته حبس عني.
قالوا: خيرًا.
قال: أما أنا فقد أولتها، أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها، فالأرض تحفر لي، فأغيّب فيها، وأما طلب ابني لي، ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقتل الطفيل باليمامة شهيدًا، وجرح ابنه عمرو بن الطفيل ثم عوفي، وقتل عام اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب شهيدًا.
عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول
يقول عنه ابن كثير في كتابه كان من سادات الصحابة برغم أن أباه كان رأس المنافقين في المدينة، وكان من قدماء الصحابة الذين شاركوا في الغزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم بداية من غزوة بدر، وكان من أحرص الناس على قتل أبيه، فكان من شدة إيمانه يرى أن أباه منافق يستحق القتل، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
عباد بن بشر
من قدماء الصحابة، وله من المواقف مع النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، وشارك في معظم الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقوم الليل يسمع صوت عباد بن بشر يقوم الليل هو أيضًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة، وهو يصلي صلاة الليل يقول:
اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا.
وله القصة المشهورة حينما كان يحرس جيش المسلمين هو وعمار بن ياسر يتبادلان الحراسة، ثم جاءت نوبة عباد بن بشر، فكان قائمًا يصلي لله بالليل، وعمار بن ياسر نائم, فأصابه سهم في جسده، فنزع السهم، وأكمل صلاته، فأصابه سهم ثان، فنزعه، وأكمل صلاته، فجاءه سهم ثالث، فنزعه، ثم ركع وسجد، وفي التشهد أيقظ عمار بن ياسر، فلما استيقظ وجد الدماء في كل مكان، ووجد الثلاثة أسهم فقال له:
هلا أيقظتني من السهم الأول.
فقال:
كنت أقرأ آيات ما أحببت أن أقطعها، لولا أني خشيت على ثغر من ثغور المسلمين.
هذا عباد بن بشر من شهداء المسلمين في موقعة اليمامة.
السائب بن عثمان بن مظعون
كان من قدماء الصحابة ممن أسلموا وهم صغار، هاجر مع عثمان بن مظعون إلى الحبشة، وهو طفل صغير، وشب في الحبشة، ثم عاد، واستشهد وهو شاب في موقعة اليمامة.
السائب بن العوام
وهو أخو الزبير بن العوام، أسلم وهو صغير، واستشهد وهو شاب في موقعة اليمامة.
عبد الله بن أبي بكر الصديق
قدم أبو بكر الصديق في الموقعة ابنيه عبد الرحمن وعبد الله، واستشهد عبد الله في هذه المعركة، أما عبد الرحمن فلم يستشهد، وكان له دور عظيم في المعركة، فهو الذي قتل محكم بن الطفيل كما ذكرنا.
معن بن عدي
كان من الأنصار، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطاب، وكانا قد تعاهدا سويًا على أن يقاتلا في سبيل الله، وأن يموتا في سبيل الله، وقبل المعركة أكدا عهدهما، وكتب الله لهما الشهادة معًا.
من أبطال اليمامة
هناك بعض من الصحابة ممن حضروا هذه المعركة ولم ينالو الشهادة
وكان لهم دور كبير في المعركة:
عمار بن ياسر
وقد تحدثنا عن دوره في الانكسار الثالث للمسلمين في معركة اليمامة
وأنه كانوا يدعو المسلمين ويقول:
يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال.
فالقرآن ليس مجرد كلام يحفظ، بل لا بد من فعل يدل عليه، فيقول أبو سعيد الخدري أحد الذين شهدوا المعركة:
والله إن عمارًا كان يقول ذلك، وإن أذنه تتأرجح بجانبه.
ولهذه الأذن قصة، كان عمر قد ولاه على العراق، وأهل العراق أهل فتن، وثورات، فكلما جاءهم أمير شكوه إلى عمر بن الخطاب، وعمار بن ياسر هو من هو، ولكن أهل العراق بطبعهم نسجوا حوله المشاكل حتى قام من بينهم من يقول له في جرأة ووقاحة:
يا أجدع الأذن.
فقال له عمار بن ياسر بصبره وحلمه: لقد سببت خير أذني، لقد قطعت في سبيل الله، وقد نال الشهادة في معركة صفين وعمره ثلاثة وتسعون عامًا.
البراء بن مالك
الذي ضرب ثمانين ضربة في فتح الحديقة، ولم يستشهد، فلا نامت أعين الجبناء كما يقول خالد بن الوليد، أُلقي في داخل الموت، ولم يرد الله له أن يستشهد في ذلك الوقت، وقد ذكرنا أنه كان مستجاب الدعوة، وقد دعا الله أن يرزقه الشهادة، فاستشهد بعد ذلك في فتوحات فارس في معركة تُسْتَر.
وكُسرت شوكة بني حنيفة
كتب الله النصر للمسلمين في هذه الموقعة، وبذلك كسرت شوكة المرتدين في قبيلة بني حنيفة، ولم يسمع لهم بعد ذلك صيت في الجزيرة العربية حتى في فتوحات الشام وفارس.
أما عن مصير من استسلموا وهم من نجوا من المعركة وباقي المقاتلين، فبعد انتصار خالد بن الوليد تسلل مجاعة بن مرارة إلى الحصون المجاورة، وكان فيها الذراري والنساء، وأمرهن بلباس عدة الحرب، والوقوف في الشرفات، ونزل هو إلى خالد وعرض عليه الصلح وإلا نزل هؤلاء القوم ليقاتلوك، ونظر خالد إلى الشرفات، فرأى أناس مدججين بالسلاح، ورغم استسلامهم، لكن هناك أعداد كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله، فنظر خالد إلى جيش المسلمين، فوجده قد أنهك من الحرب، واستشهد منهم ألف ومائتان فرأى خالد أن يصالحه، ولا يدخل في قتال ليس مضمونًا.
وفي البداية قال له مجاعة:
هؤلاء القوم سيرجعون إلى الإسلام، ثم أصالحك على نصف ثمار اليمامة، ثم ذهب مجاعة إلى الحصن، ورجع إلى خالد، وقال لم يوافق القوم إلا على ثلث ثمار اليمامة، فوافق خالد بن الوليد على ذلك، وبعد إتمام الصلح فتح مجاعة الحصون، وعرف خالد أنها خدعة، فليس في هذه الحصون غير النساء والأطفال.
وفي هذا الوقت جاء خطاب من أبي بكر بأن لا يقبل الصلح من بني حنيفة إذا عرض عليه، ولكن خالد قد أنهى الصلح فقرأ خالد الرسالة على المسلمين بصوت مسموع، فقال له مجاعة:
لكنك أمضيت الصلح.
فقال له خالد: نحن قوم لا نخون العهد.
وأخذ خالد الثلث، وأسلم القوم وذهبوا إلى أبي بكر الصديق، وبايعوه، وعنفهم أبو بكر تعنيفا شديدا، وأصر أبو بكر عليهم أن يقرءوا بعض ما كان يقوله مسيلمة، فقالوا: يا خليفة رسول الله إن هذا الأمر قد مضى وانتهى ومات مسيلمة.
فأصر عليهم فقرءوا عليه بعض آيات مسيلمة فقالوا:
والمبذرات زرعًا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر.
وكان له أشياء أخرى منها:
الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل.
فتعجب أبو بكر من هذا الكلام وأن هذا الكلام لا يخرج من عاقل فقال لهم: كيف وافقتموه واتبعتموه؟
قالوا: يا خليفة رسول الله إنها القبلية.
قفد كانوا يعرفون كذبه، فقد جاء أحد الأعراب من بني حنيفة لمسيلمة، وقال له: اقرأ علي بعض آياتك، فقرأ عليه، فقال له الرجل: من يأتيك؟
قال: رجس.
قال: يأتيك في ليل أم في النهار؟
فقال: يأتيني في الليل، في ظلمة.
قال: أشهد أن محمدًا صادق وأنك كاذب، ولكن كاذب بني حنيفة أحب إلي من صادق مضر.
وما تبعه قومه إلا للقبلية، والعصبية حتى يكون لهم شأن في الجزيرة العربية، ولهذا اتبعوا مسيلمة وظاهروا على الحق.
انتهت بذلك موقعة اليمامة التي هي من أكبر المواقع الإسلامية. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #21موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:39 pm | |
| آبو بكر الصديق كان الجيش الخامس متجها إلى الشمال على رأسه خالد بن سعيد رضي الله عنه أحد قدامى الصحابة، وكان متجها لقبيلة قضاعة بالذات.
أما الجيش السادس فكان متجها إلى مشارف الشام، وعلى رأسه عمرو بن العاص رضى الله عنه.
ولم يلاق هذان الجيشان قتالًا يُذكر، وما وصلوا إلى الشام حتى فرت منهم القبائل, فعادوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الجيش السابع بقيادة العلاء بن الحضرمي
اتجه الجيش السابع إلى قبائل عبد القيس الموجودة في البحرين، وخاض حربًا هامة في التاريخ الإسلامي، وكان على رأسه العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، وهو من سادات وقدامى الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، وكان شديد التقوى والورع. وذهب بجيشه مسافة طويلة جدًا، واجتاز بجيشه صحراء موحشة، لم يكن يمر بها أحد حتى وصل إلى قبائل عبد القيس فعسكر هناك، قبل معسكر المرتدين في مكان يسمى هَجَر، وكانت كل القبائل في تلك المناطق قد ارتدت عن الإسلام وعلى رأسها قبيلة عبد القيس، وما ثبت على الإسلام إلا قرية صغيرة تسمى جواثى وكانت هذه القرية على مشارف الردة، فقام فيهم رجل من أشرافهم خطيبا، وهو الجارود بن يعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعهم فقال لهم:
يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتوه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه.
فقالوا: سل.
قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟
قالوا: نعم.
قال: تعلمونه أم ترونه؟
قالوا: نعلمه.
قال: فما فعلوا؟
قالوا: ماتوا.
قال: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فقالوا: ونحن أيضا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا.
وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه.
وتعرضت هذه القرية الصغيرة بسبب ثباتها على الإسلام إلى الحصار الشديد من القبائل المرتدة المجاورة، وضيق عليهم المرتدون حتى منعوا عنهم الأقوات، وجاعوا جوعا شديدا حتى فرج الله عنهم.
ولهم في ذلك أشعار كثيرة:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فج شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا قـد وجدنـا الصبر للمتوكلينا
وهم في شدة حصارهم كان جيش العلاء بن الحضرمي قد عسكر في هجر، وأرسل الرسائل إلى القبائل المرتدة، وكانت أول رسالة إلى قبيلة تميم التي عادت إلى الإسلام، وخرج منها ألف مقاتل على رأسهم قيس بن عاصم، وهو من الصحابة رضي الله عنه وأرضاه وعسكر معه في هجر، وأتاه ثمامة بن أثال في ألف من بني حنيفة، واستطاع الجارود بن يعلى أن يتسلل من قريته جواثى بجيش بعد رسالة وصلته من العلاء بن الحضرمي ليعسكر معه بهجر، ويكسر الحصار المفروض عليه من القبائل المرتدة.
وبدأت المعارك تدور بين جيش المسلمين بقيادة العلاء بن الحضرمي، وبين المرتدين بقيادة النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، وهو ملك البحرين في ذلك الوقت.
واستمرت المعارك شهر كاملًا وخندق كل جيش حوله خندقًا، وفي ذات يوم سمع العلاء بن الحضرمي ضجة في معسكر المرتدين، فقال:
من يأتيني بخبر القوم؟
فقام إليه عبد الله بن حذف وهو من جواثى، فذهب فوجد القوم سكارى، فأبلغ العلاء بن الحضرمي بخبر القوم، فجهز الجيش في الليل، وباغتهم، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وأصبحوا بين مقتول وهارب وتذكر الروايات أنه قتل ما يقرب من العشرة آلاف من قبيلة عبد القيس، وفر بعضهم تجاه الشمال في الجزيرة العربية، والبعض الآخر فر عبر البحر إلى جزيرة دارين، البحرين حاليًا.
وفي ذلك الوقت بعث العلاء بن الحضرمي رسالة إلى المثنى بن حارثة الذي كان على رأس جيش للمسلمين إلى قبائل بكر بن وائل، وقال له في الرسالة كن مترصدًا للقوم فإنهم مرتدون. فتلقى المثنى بن حارثة كل من فر من أمام العلاء بن الحضرمي إلى الشمال، وأعمل فيهم القتل إلا من رجع إلى إسلامه.
لم يبقى أمام العلاء بن الحضرمي سوى من هرب إلى جزيرة دارين، وكان بينه وبينهم البحر، والمسافة تقطعها السفن في يوم وليلة ولم يكن مع العلاء بن الحضرمي في ذلك الوقت سفن ووقف جيش المسلمين أمام البحر، وقال العلاء بن الحضرمي:
والله لا نترك مرتدًا بعد أن أمرنا أبو بكر بقتالهم.
وعرض العلاء بن الحضرمي على جيشه أن يغزوا الماء بجيشهم, فاعترضوا في بادئ الأمر، إلا أنهم وافقوه لما رأوا إصراره، وركب الجيش البحر ووصلوا إلى دارين دون أن يفقد المسلمون مقاتلًا واحدًا.
وتذكر كل كتب التاريخ هذه الحادثة العجيبة دون الإشارة إلى كون ذلك كرامة امتن بها الله على جيش الإسلام، أو أن العبور تيسر لهم بعد أن هيَّأ الله لهم المد والجزر, فعبروا دون أن يُفقد منهم أي شيء، ومهما يكن من أمر فقد وصل الجيش إلى جزيرة دارين، ورأى الفارون المرتدون جموعَ المسلمين تخرج من البحر، فسقط في أيديهم, وأعمل المسلمون فيهم السيف, وقتلوا منهم مقتلة عظيمة في دارين، ثم عاد المسلمون منصورين في سفن المرتدين.
وتذكر بعض الروايات أن أحد المسلمين فقد درعه، فبحث عنه العلاء بن الحضرمي في البحر بنفسه، ولما حاول المسلمون أن يثنوه عن رغبته أصر على أن يبحث عن الدرع حتى وجده وذهب بنفسه ليعطيه لصاحبه.
وكان سهم الفارس في المعركة ستة آلاف درهم، وسهم الراجل ألفي درهم. وانتصر الجيش السابع، ونفَّذ ما كلفه به أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
الجيشان الثامن والتاسع والانتصار في مهرة
كانت عمان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي جاهليتها على رأسها اثنان أحدهما يدعى جيفر، والآخر عباد، وكانا أخويْن، ولما جاءت الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاءه وفد من عمان وأسلم على يديه، وكلم الوفد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر عمان، وأن على رأسها أخوين جيفر وعباد، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد فدعاهما إلى الإسلام فأسلما فأمَّرهما على عمان، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم دائمًا مع كل رئيس قبيلة إذا أسلم أن يؤمره على قومه أو قبيلته، ويحفظ له مكانته، وأسلمت كل عمان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم رجل يدعى لقيط بن مالك، وكان يلقب بذي التاج، وادعى هذا الرجل النبوة، ولم يشتهر ذكر هذا الرجل لقِصر أجله، واتبعه خلق كثير، وجهز جيشًا ليقاتل به جيفر وعباد، وكانا قد ثبتا على إسلامهما، واستطاعا أن يجمعا المسلمين، ويهربا من أمام جيش لقيط إلى ساحل البحر، واستولى لقيط على منطقة عمان كلها.
ولما علم أبو بكر بأمر لقيط بن مالك جهز له جيشين: أولهما هو الجيش الثامن الذي بعثه أبو بكر رضي الله عنه لقتال المرتدين، وكان بقيادة حذيفة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه.
والجيش الآخر، وكان هو الجيش التاسع وكان بقيادة عرفجة بن هرثمة، وقد أمر أبو بكر رضي الله عنه الجيشين بأن يتحدا بقيادة حذيفة بن محصن، ولحق بهما عكرمة بن أبي جهل بعد أن هُزم أمام مسيلمة، وكان أبو بكر قد بعث إليه أن يلحق بعرفجة في اليمن، وعسكرت الجيوش في غرب عُمان في مكان يسمى دبا، وأرسل حذيفة رسالة إلى جيفر وعباد فرجعا بمن معهما من المسلمين إلى جيش حذيفة بن محصن وعسكروا مع المسلمين في دبا.
وجهز لقيط جيشه، وتقابل مع المسلمين في موقعة شرسة للغاية، وكانت القوة متكافئة وظل الفريقان في صراع إلى أن مَنّ الله على المسلمين بمدد من جيش العلاء بن الحضرمي، فرجحت كفة المسلمين، وكتب الله النصر للمسلمين، وقُتل لقيط بن مالك، وقتل معه عشرة آلاف مرتد في عمان، ودخل جيفر وأخوه عباد بجيشهما إلى عمان ليمتلكوا زمام الأمور.
أما جيوش المسلمين الثلاثة فانطلقت إلى مكان يسمى مهرة لقتال المرتدين هناك.
وكان أبو بكر قد جعل حذيفة أميرًا للجيوش في عمان ثم عرفجة في اليمن، وبعث إليهما عكرمةَ بن أبي جهل، وكان صاحب رأي ومشورة في الحرب، فبعث إليهما أبو بكر بأن يسمعا منه، ولما وصل الجيش إلى مهرة بعث أبو بكر برسالة يؤمر فيها عكرمة بن أبي جهل على الجيوش الثلاثة؛ ليحفظ له مكانته، ويقول له لا تعد إلى المدينة حتى أرى منك موقفًا.
وتوجه عكرمة إلى مهرة بعد أن تولى قيادة الجيوش الثلاثة لقتال المرتدين، وكان بهذه المنطقة كثير من القبائل المرتدة، وكان على رأس هذه القبائل اثنان يدعى أحدهما شخريط والآخر مصبح، وبعد ارتدادهما اختلفا فكل منهما يريد إمارة المرتدين، وانقسما وتقاتلا ووصل عكرمة، وعلم بأمرهما فراسل شخريط، وهدده بقوة المسلمين وأن معه من العداد ما لا يطيق ورغبه في الإسلام، فأسلم شخريط لما تيقن بقوة المسلمين، وأنهم سيحاربون معه ضد مصبح، وتسلل بجيشه وانضم إلى جيش عكرمة بن أبي جهل، ولا يُعرف إن كان إسلامه صادقًا أم لا، وقاتل المسلمون في هذه المعركة قتالًا شديدًا وصبروا، وكذلك مصبح ومن معه، فكانوا يقاتلون حمية من أجل وجود شخريط مع المسلمين، واستمر القتال حتى كتب الله النصر للمسلمين، ووقع مصبح قتيلًا في المعركة، وكتب الله النصر للمسلمين في هذه المعركة.
الجيشان العاشر والحادي عشر والتوجه إلى اليمن
بعد انتصار المسلمين في مهرة جمع عكرمة الجيش ليذهب به إلى اليمن.
وكان المتجه إلى اليمن جيشان من المدينة الجيش العاشر بقيادة المهاجر بن أمية، والجيش الحادي عشر بقيادة سويد بن مقرن، وكان سويد بن مقرن متجها إلى تهامة، أما المهاجر بن أمية فوجهه أبو بكر إلى صنعاء، وكان بها أغلب المرتدين.
وقبل الحديث عن الجيش العاشر نذكر نبذة عن تاريخ اليمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظهر في اليمن رجل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يدعي النبوة وهو الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب، وتبع الأسود العنسي الكثير من المرتدين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن بعد أن أسلم أهلها ليعلمهم ويفقههم، وكان أمير اليمن رجل يدعى شهر بن باذان.
وباذان هذا هو باذان بن بهرام الذي بعثه كسرى ليأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا أوميتا، وذهب باذان هذا إلى المدينة، وعسكر بجبشه خارج المدينة وبعث أميرين إلى المدينة ليتحسسا الأخبار في المدينة، وكانا عاقلين فوجدهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما:
إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكُمَا اللَّيْلَةَ.
فقالا لباذان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لهما احفظا هذه الليلة، فبعث إلى كسرى فوجده، قد قتل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان، ومن معه وولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن، ولما مات ولى النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ابنه شهر بن باذان.
وظهر الأسود العنسي في إمارة شهر بن باذان وكان معاذ بن جبل يعلم الناس في ذلك الوقت.
وقام الأسود العنسي بجيشه على شهر، وقتله، وتزوج امرأته، وكانت امرأة صالحة إلا أنه تزوجها قهرًا.
واضطهد الأسود العنسي المسلمين فكان يقتل كل من يعرف أنه مسلم، وهرب معاذ بن جبل إلى حضرموت، وانقسم من ثبت من المسلمين إلى قسمين البعض هرب مع معاذ إلى حضرموت، وكان واليها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه طاهر بن أبي هالة، وكان من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بقي في اليمن عامل الأسود العنسي بالتقية.
واشتد أمر الأسود العنسي، وكان له جيش كبير، وكان له ثلاثة قادة أحدهما قيس بن مكشوح، والثاني داذويه، والثالث فيروز الديلمي.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأسود العنسي وادعاءه للنبوة، بعث صلى الله عليه وسلم برسالة مع وبر بن يحنس إلى معاذ بن جبل؛ ليجمع حوله المسلمين، ويقاتلوا الأسود العنسي حتى يقتله.
وبدأ معاذ بن جبل في تجميع المسلمين سواء من أخفوا إسلامهم، أو من كانوا معه في حضرموت.
وفي ذلك الوقت فكر القواد الثلاثة المرتدين أن ينقلبوا على الأسود العنسي ليأخذوا منه قيادة اليمن، فعلم بذلك الأسود العنسي فأحضر مائة من الإبل وخط خطًا وجمع أهل صنعاء جميعًا وعزم على قتل الإبل بمفرده ليعلم أهل صنعاء قوته، وشدة بأسه، ثم أحضر القواد الثلاثة، وقال لهم سمعت بأنكم تريدون الاستقلال بالجيوش، فلما رأوا من شدة بأسه، وقوته خافوه وآمنوا بنبوته وإن كان في قلوبهم الانقلاب عليه.
ولما علم معاذ بن جبل بأمر القواد الثلاثة وتفكيرهم في الانقلاب على الأسود العنسي بعث معاذ برسالة إلى قيس بن مكشوح سرًا كالذي بعثها عكرمة إلى شخريط، فيقول له: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وجنود الطاهر بن أبي هالة في حضرموت لك مدد.
وأرسل قيس إلى داذويه، وفيروز الديلمي، واتفقوا على الدخول في الإسلام ليساعدهم جيش المسلمين في تحقيق هدفهم، وهو القضاء على الأسود وجيشه.
كانت امرأة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود العنسي قهرًا امرأة صالحة وذات دين، وكانت ابنة عم فيروز الديلمي، فراسلها فيروز الديلمي سرًا لتعاونهم على قتل الأسود العنسي، فوافقت على ذلك وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلل القواد الثلاثة إلى قصر الأسود العنسي في الليلة المتفق عليها، وفتحت امرأة الأسود الباب بعد أن سقته من الخمر، فدخل عليه فيروز الديلمي، فوجده قد سكر سكرًا شديدًا، فخنقه بيده حتى ظن أنه قد مات، ولما دخل عليه القواد الثلاثة ليعلنوا موته وجدوه حيًا، فهجموا عليه، وتقدم إليه قيس بن مكشوح، فذبحه، فتقول امرأته: ما رأيت خوار رجل كخوار الأسود العنسي.
وصرخ صرخة جاء على أثرها الحراس، فخرجت إليهم زوجته، وقالت: إن النبي يوحى إليه.
فخرجوا، ومضت تلك الليلة، وخبأ قيس بن مكشوح رأس الأسود العنسي، ثم خرج على أهل صنعاء في اليوم التالي بعد أن جمعهم ليعلن إسلامه، وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن الأسود العنسي كذاب ورمى لهم برأسه، فهرب المرتدون، وانقض عليهم المسلمون يقتلونهم، وجاء الطاهر بن أبي هالة بجيشه، وفيه معاذ بن جبل، ودخل اليمن، وعاد الناس إلى الإسلام مرة أخرى، وأثناء هذه الأحداث يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة: يُقْتَلُ الْآنَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَيَقْتُلُهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ.
فقالوا: من يا رسول الله؟
فقال: فَيْرُوزُ فُيْرُوزُ فَيْرُوزُ.
وكان هو الذي سارع بقتله في بادئ الأمر، وشاركه قيس بن مكشوح.
وأنبأهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود في الوقت الذي قتل فيه.
بعد قتل الأسود العنسي وسيطرة المسلمون على اليمن يرسل المسلمون رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسود العنسي، ووصل البريد إلى المدينة صبيحة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع البريد إلى اليمن ليخبرهم بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المسافة بين اليمن والمدينة مسيرة ثلاثة أيام.
فلما وصلهم خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا، فبعد دفاعهم عن الإسلام ارتدوا، وكان على رأس المرتدين قيس بن مكشوح، وبمكيدة منه قتل داذويه الأمير الثاني، وحاول قتل فيروز الديلمي، إلا أن جارية أخبرته بمكيدة قيس بن مكشوح، فهرب فيروز الديلمي، وهرب معاذ بن جبل أيضًا إلى حضرموت عند الطاهر بن أبي هالة.
وسيطر قيس بن مكشوح ومعه جيش المرتدين على المنطقة مرة أخرى، وعلم بذلك أبو بكر الصديق، فوجه إلي اليمن الجيش العاشر، وكان على رأسه المهاجر بن أمية، ولما علم المسلمون في حضرموت خبر هذا الجيش راسلوه وتواعدوا على موعد دخول اليمن، ودخل معهم من داخل صنعاء فيروز الديلمي بجيش، وفيروز لم يرتد كما ارتد قيس بن مكشوح، واجتمعت الجيوش الثلاثة، وقاتلوا قيس بن مكشوح قتالًا شديدًا، وكتب الله النصر للمسلمين، واستسلم قيس بن مكشوح، واستسلم معه عمرو بن معدي كرب، وكان من الصحابة إلا أنه قد ارتد في اليمن، وأرسلهما معاذ بن جبل إلى أبي بكر الصديق مع أحد الرسل، وفي الطريق أسلما قبل أن يصلا إلى المدينة، وقبل منهما أبو بكر بعد أن عنفهما بشدة.
وبعد هذا الانتصار الساحق سيطر المسلمون على اليمن ولم تعد إلى الردة مرة أخرى بفضل الله تعالى.
أما الجيش الحادي عشر لم يلق هذا الجيش قتالًا في منطقة تهامة بعد أن سيطر المسلمون على اليمن فقد رجع الناس إلى دينهم.
وانتهت هذه الفتنة
بذلك انتهت حروب الردة، وبفضل الله كتب الله النصر للمسلمين في كل المواقع، ولم يبق على الجزيرة العربية مرتد واحد بعد أن ارتدت كل الجزيرة العربية.
واستمرت هذه الحروب سنة كاملة، فقد انتهت الحروب في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من الهجرة.
وانتهت بانتهاء حروب الردة فترة من أشد الفترات التي مرت على المسلمين وأصعبها، وكاد أن يضيع الدين لولا أن الله قيض له رجلًا كأبي بكر الصديق، ولعل هذه الحروب كانت تثبيتا لأقدام الإسلام في الجزيرة العربية، ليستكمل المسلمون جهادهم في الدعوة إلى الله بفتح بلاد فارس والروم.
بعد انتهاء خالد من بني حنيفة، وانتصاره عليهم، بعث إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأن يتوجه لفتح فارس، وألا يُكْرِهَ أحدًا على الخروج معه، بالرغم من كون هذا الأمر عجيبًا؛ لأن الجزيرة لم تلتقط أنفاسها بعد، في أعقاب ما كانت تموج به من الفتن, وما قامت بها من حرب أهلية طاحنة، كادت أن تعصف بالدولة الإسلامية. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #22موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:39 pm | |
| آبو بكر الصديق أبو بكر الصديق نسبه وحياته نسبه: هو عبدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب ابن لؤي القرشي التيمي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه: أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر ابنة عم أبيه. حياته: ولد الصديق بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب النبي قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طيلة حياته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كلها، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس إماماً مكانه عندما اشتد وجع النبي في مرض موته، وأجمع المسلمون على خلافته وسموه خليفة رسول الله، واستمرت خلافته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم سنتين وثلاثة أشهر تقريباً، ومات لثلاث وستين سنة رضي الله عنه وأرضاه. بعض مآثره: كان رضي الله عنه أعلم قريش بالأنساب، وكان رجلاً سهلاً محبوباً مؤلفاً لقومه، تاجراً ذا خلق ومعروف، وأخلص في صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، وأسلم بمجرد أن عرض الرسول الإسلام عليه، فكان أول رجل يدخل الإسلام، وأسلم بدعوته رجال كثيرون منهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف. وأسلم الصديق وهو من أغنى قريش، ومات ولم يترك ديناراً ولا درهماً، وإنما أنفق ماله كله في سبيل الله، اعتق سبعة أعبد كلهم يعذب في الله منهم بلال، وعامر بن فهيرة، ونذيرة، والنهدية، وجارية عمر بن المؤمل. وكانت خلافته من أعظم بركات الله على الأمة، فقد اجتمعت الأمة عليه، وقضى على فتنة الردة، وادعاء النبوة، ووجه قوى المسلمين جميعاً نحو فارس والروم، فكان الفتح والنصر المبين، فرضي الله عنه ولعن شانئيه ومبغضيه. |
|
| |
BARAAعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
عدد المساهمات : 353
| #23موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأحد سبتمبر 12, 2010 6:41 pm | |
| آبو بكر الصديق فضائل الصديق أبي بكر رضي الله عنه تعالى أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلاهم منزلة، وأكبرهم كرامة، وأعظمهم منة على المسلمين هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ونبدأ بشهادة الله سبحانه وتعالى له، ثم بشهادة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ثم بشهادة الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة. أ- شهادة الله لأبي بكر الصديق: شهد الله سبحانه وتعالى للصديق أنه كان الصاحب الوحيد والناصر الوحيد لرسول الله بعد الله سبحانه وتعالى، فقد مدح الله نفسه في القرآن أنه نصر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأخرجه من بين ظهراني الكفار عندما أرادوا قتله، أو حبسه، أو طرده ونفيه واختاروا قتله أخيراً فأنجاه الله وأخرجه من بين ظهورهم آمناً معافى. قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فكان من مكره سبحانه وتعالى بالكفار أن أخرج النبي محمداً مهاجراً من مكة إلى المدينة والكفار يحيطون به من كل جانب ولا ناصر له من الأصحاب والمسلمين إلا رجل واحد فقط، لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العصيب قال تعالى حاضاً المؤمنين على نصر رسوله: {الا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فأثبت الله هنا كرامة الصديق وأنه كان الناصر الوحيد لرسوله يوم عز الناصر، وقل النصير، وأنه أعني الصديق، كان حزيناً أن يبصر الكفار موقع الرسول صلى الله عليه ولسم فيضيع الدين فيبشره النبي بأن الله معهما يرعاهما ويكلأهما. ومعية الله هنا ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم، والصديق {لا تحزن إن الله معنا} وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق أقرها الله وأثبتها في كتابه الكريم، ناهيك أن أسرة الصديق كلها كانت في هذا اليوم العصيب في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم فأسماء بنت أبي بكر هي التي توصل الطعام لهما في الغار، وعبدالرحمن ابن الصديق هو الذي يغدو بسرحه عليهما ويتسمع لهما الأخبار ومال الصديق ورحائله هي التي حملت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والصديق هو المؤنس الوحيد بعد الله سبحانه وتعالى، وهذه منقبة ليست بعدها منقبة وكرامة كل كرامة هي دونها ولا شك، ويكفي هذه الكرامة أن الله أثبتها في كفاية وجعلها قرآناً يتلى إلى آخر الدنيا. وأما شهادة الله الثابتة للصديق فهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى}. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "وقوله تعالى {وسيجنبها الأتقى} أي سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى ثم فسره بقوله {الذي يؤتي ماله يتزكى} أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك {ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات قال الله تعالى {ولسوف يرضى} أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ولهذا قال له عروة بن مسعود وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد اغلظ له في المقال فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم؟ ولهذا قال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى}. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبدالله هذا خير]، فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على من يدعي منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: [نعم وأرجو أن تكون منهم ]" (ابن كثير ج4 ص521). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه الآيات: "وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله. بلال وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وزنيرة، وأم عيسى، وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة، وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبدالله بن الزبير ما قدمناه عنه، وزاد فيه، فنزلت فيه هذه الآية: {فأما من أعطى واتقى} إلا قوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر، وأخرج ابن مردويه ابن عباس في قوله: {وسيجنبها الأتقى} قال: هو أبو بكر الصديق" أ.هـ (تفسير فتح القدير ج5 ص455). وحسبك بهذه شهادة من العلي الأعلى سبحانه وتعالى لهذا العبد الكريم الذي بذل ماله في سبيل الله لا يبتغي بذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى. ومعنى (من ضرورة) التي جاءت في الحديث: أي لا ضرر على من دخل الجنة وإن لم يدع إلا من باب واحد ما دام قد دخلها، ولكن هل لأحد من كرامة عند الله حتى يدعى من جميع الأبواب ثم يدخل من أي باب يشاء فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن نعم يا أبا بكر وأرجو أن تكون منهم، ورجاء النبي حق حتم لا شك فيه. أبو بكر أسبق الصحابة إسلاماً: قال البخاري: حدثنا أحمد بن أبي الطيب حدثنا إسماعيل بن مخالد، حدثنا بيان ابن بشر عن وبرة بن عبدالرحمن بن همام، قال سمعت عماراً يقول، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. هذه شهادة من عمار بن ياسر رضي الله عنه – أن الصديق كان الرجل الحر الوحيد مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وأسلم في أول الإسلام. ولا شك أن علي بن أبي طالب كان مؤمناً وقتئذ ولكنه كان غلاماً صغيراً في ذلك الوقت. أبو بكر يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم: عن عروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. (رواه الإمام البخاري). وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي: 1) شجاعة الصديق وإنه كان يتصدى لمجرمي قريش وعتاتها ممن يؤذون رسول وهذا أحدهم عقبة بن أبي معيط الذي خنق الرسول صلى الله عليه وسلم بردائه، فما رده إلا الصديق رضي الله عنه. 2) تمثل الصديق بالقرآن في دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله] والمعنى يا أيها المشركون هل تقتلون الرسول الذي ليس له ذنب معكم إلا أن يعلن أن الله ربه سبحانه وتعالى. وقد جاءكم بالبيان على ذلك من ربكم الذي خلقكم. أبو بكر يعتني بالنبي صلى الله عليه وسلم في الغار وفي طريق الهجرة: قال الإمام البخاري: حدثنا عبدالله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمل إليّ رحلي، فقال عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟ قال ارتحلنا من مكة، فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوى إليه فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له اضجع يا نبي الله، فاضجع النبي صلى الله عليه وسلم ثم انطلقت انظر ما حولي هل أرى من الطلب أحداً؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت فهل أنت حالب لبناً؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت ثم قلت قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال [بلى]، فارتحلنا والقوم يطلبونا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: [لا تحزن إن الله معنا]. (رواه البخاري). وفي هذا الحديث فوائد عظيمة منها: 1) اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وحده دون سائر الصحابة ليصحبه في رحلة الهجرة وهي أخطر رحلة، وأعظم بلاء يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد عزمت قريش على قتله، بعد مشورة وتآمر طويل وشرعت فعلاً في التنفيذ وكانت الهجرة ليلة التنفيذ لمؤامرتها المجرمة. واختيار الرسول لأبي بكر في هذا الموقف واعتماده بعد الله عليه دلالة عظيمة على أنه كان أعظم الصحابة إيماناً ورجولة وقدراً وتحملاً للمصاعب ووقوفاً في وجه الشدائد، وكتماناً لسر الرسول ومحافظة على النبي. 2) ظهر من الحديث إشفاق أبي بكر على الرسول وحدبه عليه وسعيه من أجل الحفاظ عليه بكل سبيل بل سعيه وحده من أجل راحته. 3) هلاك من هلك في الصديق من الرافضة المجوسية الذين زعموا أن أبا بكر لم يصحب الرسول إلا ليطلع على عوراته، ويفشي أسراره للكفار!! وهذا يدل على كفرهم ومروقهم من الدين، وطعنهم في سيد المرسلين الذي اتهموه أنه لم يكن يعلم حقيقة أخلص أصحابه وأصدقائه. وأنهم كانوا يضمرون له الشر والرسول لا يدري، فلعنة الله عليهم لكفرهم بالله ورسالته، وطعنهم في أشرف خلقه وعباده، وأخلص أصحاب الرسول وأعظمهم منزلة. أبو بكر أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: [عائشة]، فقلت: من الرجال؟ قال: [أبوها}، قلت: ثم من؟ قال: [ثم عمر بن الخطاب] فعد رجالاً. (أخرجه البخاري في: 62 – كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: 5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لو كنت متخذا خليلاً]). وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحب الرجال إليه من هذه الأمة هو الصديق. وقلب الرسول صلى الله عليه وسلم قلب طاهر معصوم والمحبة من الإيمان، بل الإيمان هو الحب في الله والبغض في الله، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر من الإيمان، وإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم. وهذه شهادة عظيمة توجب على كل مسلم أن يحب ما يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر على رأس هؤلاء ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وأم المؤمنين عائشة هي أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها زوجه، وأعظم الناس إيثاراً ومحبة له. رضي الله عنها. الله مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومع الصديق أبو بكر رضي الله عنه: حديث أبي بكر، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في الغار، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: [ما ظنك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما؟]. (أخرجه البخاري في: 62 – كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 2 - باب مناقي المهاجرين وفضلهم). وهذه شهادة ثانية من الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق أن الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه في أحلك الظروف وأصعب المواقف في الغار محصوراً بعيداً عنه كل ناصر من البشر إلا نصرة الله ثم نصرة الصديق الذي لم يكن إلا هو في هذا الموقف العصيب والرسول صلى الله عليه وسلم مطلوب حياً أو ميتاً، وقريش والكفار يسعون في قتله والوصول إليه بكل سبيل. أبو بكر أفقه الصحابة وأعظمهم على الرسول منة في المال والصحبة: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلس على المنبر، فقال: [إن عبداً خير الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده] فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، إلا خلة الإسلام. لا يبقين في المسجد خوخة أبي بكر] . (أخرجه البخاري في: 63 - كتاب مناقب الأنصار: 45 – باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة). وهذا الحديث يبين أن أبا بكر كان أفقه الصحابة وأعلمهم بمرامي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وفحواه فقد كان وحده الذي فهم ما يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله [إن عبداً خيره الله من أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده]. إن العبد المخير هو الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار ما عند الله وهذا يعني الموت. ولذلك بكى الصديق حدباً على الإسلام وإشفاقاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم له هذه المواقف والمناقب فأعلنه على الملأ في آخر حياته أن أعظم الأصحاب على الرسول صلى الله عليه وسلم منة في المال والصحبة هو الصديق الذي واسى الرسول صلى الله عليه وسلم بماله، وصحبة أكمل ما تكون الصحبة. وهنا يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصديق في مكان الخلة من الرسول صلى الله عليه وسلم لولا اشتغال قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بخلة الله سبحانه وتعالى وأية إن لم يكن خليل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخوه وصاحبه. وحفظاً من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الكرامة أمر جميع من له خوخة (باب نافذ) إلى منزله من المسجد أن يغلقه إلا الصديق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء خوخته حفاظاً لمودته، وإكراماً لعهده، وبياناً لفضيلته. فماذا بعد هذا أعظم؟ أبو بكر أعظم الناس إيماناً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح ثم أقبل على الناس، فقال: [بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها. فقالت: إنا لم نخلق لهذا؛ إنما خلقنا للحرث] فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم؟ فقال: [فإني أؤمن بهذا، أنا وأبو بكر وعمر] وما هما ثم. [وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا، استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري؟] فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟ قال: [فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر] وما هما ثم. (أخرجه البخاري: 60 – كتاب الأنبياء: 54 – باب حدثنا أبو اليمان). هذا الحديث فيه فوائد عظيمة منها: 1) أن للحيوانات إدراكاً ما، وأن الله ينطق منها ما يشاء سبحانه وتعالى. 2) أن لكل حيوان فوائد معينة فمنها خلق للركوب، ومنها ما خلق للحم، ومنها ما خلق للحم والجر، والبقر لم يهيئه الله ليكون حيواناً مركوباً. قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} – أي بعضها – وقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} فبين سبحانه أن هذه خلقت للركوب والزينة. وقال تعالى أيضاً: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون} – أي بعضها.. ولا شك أن استخدام الحيوان في غير ما خلق الله إهدار لنعم الله ووضع لها في غير ما خلقت له. أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من خير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بل خير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم وحدثهم بهذه الأحاديث العجيبة من كلام البقرة وكلام الذئب سبحوا الله تعجباً واستبعاداً أن يقع مثل ذلك، أو على الأقل استغراباً. فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يتكلم بما يتكلم ويقول ما يقول مؤمناً به واثقاً من خبر الله سبحانه وتعالى، وأن أبا بكر وعمر يؤمنان مع الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك والعجب أنهما لم يكونا حاضرين. وهذه شهادة كبرى من الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بعظيم الإيمان والتصديق، وأنهما لا يترددان قط في قبول خبر النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه والذي لا يقول إلا حقاً، ولا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}. فأي شهادة أعظم من هذه الشهادة وأي منزلة أعظم أن يشهد لهما الرسول وليسا حاضرين أنهما يؤمنان بما قال، ويصدقان ما يقول، لا شك أن هذه شهادة عظيمة من الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبيه المؤمنين المخلصين رضي الله عنهما وأرضاهما. شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق بالجنة والمنزلة العليا: حديث أبي هريرة: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من أنفق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب – يعني الجنة، يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام (و) باب الريان]. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: [نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر] (رواه الإمام البخاري). وفي هذا الحديث من الفوائد: 1) رجاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الصديق من الذي تنادي به ملائكة أبواب الجنة جميعاً كل منهم يرجو أن يدخل من الباب القائم عليه وهذا تشريف عظيم للصديق وأن أبواب الجنة الثمانية كلها مشرعة لدخوله وأن الملائكة تتنافس وتتسابق في تشريف الصديق وتكريمه بدعوة كل منهم إياه أن يدخل من بابه. 2) أن أبا بكر كان مبرزاً في كل أبواب الخير في الجهاد والصدقة والصيام والصلاة بما لم يبرز غيره. ومن هذا الباب ما رواه البخاري بإسناده أيضاً. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة]، فقال أبو بكر إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنك لست تصنع ذلك خيلاء]. قال موسى: فقلت لسالم أذكر عبدالله من جر إزاره؟ قال لم أسمعه ذكر إلا ثوبه. وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصديق لم يكن يعرف الخيلاء والكبر وليس فيه من خصائل أهل النفاق والكبر شيء، وأنه الصديق يحرص دائماً على اتباع السنة فهو يتعاهد إزاره ألا يسقط دون الكعبين، ولكنه يسهو أحياناً ويجد أن جانباً من إزاره سقط دون الكعبين فيفزع لذلك ويخاف. ولقد بشره الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك منه الذي ليس بعمد لا حرج عليه فيه وكان يمكن أن يبين له الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فقط أي أن الغافل والناسي لا شيء عليه ولكن الرسول أراد مدحه أمام القوم كلهم فأخبر أنه ليس من أهل الكبر مطلقاً. شهادة ثانية من الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق والفاروق وعثمان رضي الله عنهم جميعاً بالجنة: روى الإمام البخاري بإسناده عن سعيد بن المسيب، قال أخبرني أبو موسى الأشعري أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقلت لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا: قال فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا خرج ووجه هاهنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت من هذا؟ فقال أبو بكر، فقلت على رسلك، ثم ذهبت فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبو بكر يستأذن؟ فقال [ائذن له وبشره بالجنة]، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر أدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجله في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت إن يرد الله بفلان خيراً يريد أخاه يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال عمر بن الخطاب فقلت على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقلت هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال [ائذن له وبشره بالجنة] فجئت فقلت أدخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست، فقلت إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال عثمان بن عفان، فقلت على رسلك، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال [ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه] فجئته فقلت له ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر، قال شريك قال سعيد بن المسيب فأولتها قبورهم. وفي هذا الحديث من الفوائد والعلم ما يلي: 1) أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا دائمي السؤال عنه، كلفين بمحبته وصحبته، محتفين به. 2) أن الرسول بشر أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة. 3) أن ورود هؤلاء الصحابة الثلاثة في هذه الواقعة على النبي صلى الله عليه وسلم كان بترتيب خلافتهم تماماً وهذا من غرائب الوقائع، ومما جعله الله إشارة إلى ترتيب خلافتهم. 4) أن نبؤة النبي صلى الله عليه وسلم في عثمان قد تحققت تماماً وهذا دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلامات صدقه صلى الله عليه وسلم. فقد أصيب ببلوى عظيمة عندما خرج أولئك السفهاء عليه وقتلوه وهو إمام المسلمين. 5) أن الصحابة رضوان الله عليهم أشد الناس حرصاً على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. فانظر إليهم كيف فعلوا تماماً كما فعل، وجلسوا على الهيئة التي جلس عليها وهذا من شدة متابعتهم ومحبتهم. ومما يدل كذلك على شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالجنة والإيمان هذا الحديث: عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال [أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان]. (رواه الإمام البخاري). فالصديق أبو بكر، والشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهما وهذا من علامات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد عاش أبو بكر ومات صديقاً، واستشهد عمر واستشهد عثمان رضي الله عنهم جميعاً. شهادة علي بن أبي طالب أن الصديق هو خير الناس بعد رسول الله: قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، حدثنا جامع بن أبي راشد، حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية، قال قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر، ثم قلت ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت ثم أنت؟ ما أنا إلا رجل من المسلمين. وهذه شهادة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أبا بكر هو خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عمر هو خير الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق فتباً وسحقاً لمن اعتقد أن علياً كان يبغض الصديق والفاروق أو كان يسبهما أو يلعنهما. ألا لعنة الله على الظالمين الكاذبين. وأبلغ من هذه الشهادة ما رواه الإمام البخاري أيضاً. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قومٍ، فدعوا الله لعمر ابن الخطاب، وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي، يقول رحمك الله: إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً مما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب. وفي هذا الأثر من الفوائد ما يلي: 1) شهود ابن عباس رضي وعلي بن أبي طالب جنازة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. 2) أن علياً رضي الله عنه كان يرجو أن يدفن عمر بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لأنه كان كثيراً ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نفسه ثم أبا بكر وعمر فيقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. فاستنبط علي من ذلك أنهما لا بد وأن يكونا أصحاباً لرسوله في الآخرة، وفي البرزخ كما جعلهم الله أصحابا للرسول في الدنيا، وهذا من فقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الرسول صلى الله عليه وسلم يستخلف الصديق على الصلاة: "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: [مروا أبا بكر يصلي بالناس]. قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل، فقال: [مروا أبا بكر فليصل بالناس]، فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي (له): إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس]، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً". وفي رواية قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه، فكان يصلي بهم، قال عروة: فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج، فإذا أبو بكر يؤم الناس، فلما رآه أبو بكر استأخر، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر". وفي رواية: "قال الأسود بن يزيد: كنا عند عائشة، فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها، فقالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة فأذن فقال: [مروا أبا بكر فليصل بالناس]، فقيل: أن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس وأعاد، فأعادوا، وأعاد الثالثة، فقال: [إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل للناس]، فخرج أبو بكر يصلي، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه، فقيل للأعمش: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: [نعم]، قال البخاري: وزاد معاوية "جلس عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر قائماً". وفي رواية للبخاري، وفيه "جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: [مروا أبا بكر يصلي بالناس]، قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر؟ فقال: [مروا أبا بكر يصلي بالناس..] ثم ذكر قولها لحفصة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنكن لأنتن صواحب يوسف]، وأنه عليه السلام وجد خفة فخرج.. ثم ذكر إلى قوله: حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر". وفي أخرى نحوه، وفيه "إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك يبك، ولا يقدر على القراءة، ولم يذكر قولها لحفصة. وفي آخرة فتأخر أبو بكر، وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير". وفي أخرى لهما: أن عائشة قالت: "لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً وإني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر". وفي أخرى لهما قالت: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، قال [مروا أبا بكر فليصل بالناس]، قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر؟ قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فراجعته مرتين أو ثلاثاً، فقال: [ليصل بالناس أبو بكر، فإنكن صواحب يوسف]. (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال: [مروا أبا بكر فليصل بالناس]، قالت عائشة: يا رسول الله، إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، فقال: [مري أبا بكر فليصل بالناس]، فعادت، فقال: [مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف]، فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم". (أخرجه البخاري ومسلم). وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي: 1) اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس دليل على إمامته، لأن الصلاة أشرف عمل للمسلمين، وإمامتها مهمة الإمام والقائد، ولذلك كان لا يؤم الجيش إلا القائد، فتقديم الرسول لأبي بكر ليصلي بالناس من أعظم الأدلة أنه قد ارتضاه بل عينه إماماً للناس في كل الشئون لأن الصلاة هي العنوان وهي أعظم شئون المسلمين. 2) خوف السيدة عائشة رضي الله عنها على أبيها أن يتشاءم الناس من مقامه مقام الرسول مما يدل على نزاهتها وبراءتها رضي الله عنها وأنها لم تكن لا هي ولا أبوها طامعين في إمارة أو خلافة. وإصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على تولية أبي بكر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع أهم الأمور وهي إمامة المسلمين دون أن يرشد إليها ويبينها وفي تولية الصديق الإمامة أتم البيان. وعن عبدالله بن زمعة رضي الله عنه قال: "لما استعز بالنبي صلى الله عليه وسلم –وأنا عنده في نفر من الناس- دعاه بلال إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مروا أبا بكر يصلي بالناس]، قال فخرجنا، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر، قم فصل للناس، فتقدم فكبر، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته -وكان عمر رجلاً مجهراً- قال: [فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون]، فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس". زاد في رواية قال: "لما أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر (قال ابن زمعة)، خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته، ثم قال: [لا، لا، لا، ليصل بالناس ابن أبي قحافة].. يقول ذلك مغضباً" أخرجه أبو داود وهو حديث حسن. ومن مجموع هذه الروايات نستفيد الفوائد الآتية: 1) أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ليصلي بالناس أعظم دليل على تقديمه وتزكيته لتولي أمور المسلمين والقيام بالأمر من بعده. كما استدل بذلك الصحابة وقالوا "رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا". وذلك أن الصلاة هي أعظم أعمال الإسلام بعد الشهادتين والإيمان، وهي أعظم أعمال الخلفاء والولاة كما قال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} فبدأ بالصلاة أولاً حتى يشعرنا أنها أعظم أعمال الدين وأعظم أفعال ولاة الأمور، واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ليؤم الناس في مرض موته أصرح الدلالات على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار الصديق لإمامة المسلمين وخلافة النبوة. فلعنة الله على الزنادقة الرافضة الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على خلافة علي أبي طالب فكيف ينص على ذلك ويولي الصديق إمامة الناس ويقول: [يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر]. 2) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصر على إمامة الصديق مع مراجعة عائشة وحفصة له. وقد ذكرت عائشة أن سبب مراجعتها خشيتها أن يكره المسلمون أبا بكر لقيامه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحبوه أكثر من آبائهم وأمهاتهم وأنفسهم. ولكن الله سبحانه وتعالى جعل قيام الصديق مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم البركات والخيرات على الأمة الإسلامية، إذ قام خير قيام بخلافة رسول الله وقيادة الأمة إلى الرشد والسداد، وإبقاء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حية قائمة. شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافة الصديق: روى البخاري بإسناده عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت أرأيت إن جئت ولم أجدك، كأنها تقول الموت، قال عليه الصلاة والسلام: [إن لم تجديني فأتي أبا بكر]. وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم وخبر صادق منه، ودلالة من دلائل نبوته وصدقه صلى الله عليه وسلم أن الذي سيرجع إليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الصديق رضي الله عنه، فأي شهادة أبلغ من هذه وأصرح للدلالة على أن المرجع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو أبو بكر رضي الله عنه. ومما يدل على هذا أيضا هذه الرؤيا للرسول صلى الله عليه وسلم: روى الإمام البخاري بإسناده عن الزهري، قال أخبرني ابن المسيب سمع أبا هريرة رضي الله عنه، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن]. إن الخلافة بعد الرسول إنما تكون لأبي بكر ثم عمر وإن خلافة الصديق تكون قصيرة ثم تأتي خلافة الفاروق حيث يفيض المال وتعظم الفتوح وتستحيل دولة الإسلام إلى دولة عظمى، حتى يضرب الناس بعطن.. (والعطن) هو مرقد الإبل وهذه كناية وإشارة إلى استقرار الأمة وكثرة عددها وقيام سوقها. الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بحفظ مكانة الصديق وألا يؤذى أبداً: روى الإمام البخاري بإسناده عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل أبو بكر أخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما صاحبكم فقد غامر فسلم]. وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي فأقبلت إليك، فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر. فسأل أثمَ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال يا رسول الله: [والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعد بعدها] |
|
| |
شبل الإسلامعضو متألق
المهنة :
الجنس :
علم الدوله :
العمر : 27
تاريخ التسجيل : 24/08/2010
عدد المساهمات : 1544
| #24موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأربعاء سبتمبر 15, 2010 9:09 am | |
| |
|
| |
محسنعضو مشارك
المهنة :
الجنس :
علم الدوله :
العمر : 32
تاريخ التسجيل : 28/03/2010
عدد المساهمات : 799
| #25موضوع: رد: آبو بكر الصديق الأربعاء سبتمبر 15, 2010 11:02 am | |
| آبو بكر الصديق جزااك الله خير وجعله الله في مواازين حسناااتك موضوع فعلاً متعوووب عليه
ننتظر جديدك |
|
| |
|