لا تكن مغبونًا
أسوأ أحوال المرء أن يكون مغبونًا، فإن الغبن بجميع صوره وألوانه يوقع صاحبه في دائرة النقص وفوات الحظ، وإن أعظم غبن يصيب الإنسان أن يخسر حياته التي ليس لها في الدنيا ثمن ولا عنها عوض.
أثامن بالنفس النفيسـة ربـها *** وليس لها في الخلق كلهم ثمــن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها *** لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
ومن العجائب أنه مع فداحة هذا الخسار، وخطورة آثاره إلا أن السالم منه قليل، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الخاسرين مع كمال أسباب الربح فيهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس (رضي الله عنهما).
ولا غرو في كون الفراغ الخالي عن استثمار راشد نقمة وغبنًا، فإنه مبعث شرور كثيرة وآفات خطيرة، وقد قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة، وأَحْسَنَ الشاعر حيث قال:
لقد أهاج الفراغ عليك شغلاً *** وأسباب البلاء من الفراغ
إن من أبرز سمات حياة شريحة واسعة من الناس اليوم صحة أبدانهم ووفرة أوقاتهم، ويصاحب ذلك اتساع دائرة المغبونين في أعمارهم وحياتهم تبديدًا وإهدارًا بل تفننًا في إخلائها من منافع مفيدة في دنيا أو آخرة.
وإني لأحسب أن أكثر الناس اليوم على اختلاف أعمارهم وأعمالهم عندهم من الفراغ وسعة الوقت ما يحارون في صرفه وتمضيته حتى غَدَا الفراغ مشكلة من مشاكل العصر.
وإنني لا أعجب أن يكون الفراغ مشكلة عند من لا يعرف الغاية من الحياة ولا يدري أي منقلب سينقلب، لكن الذي لا ينقضي منه العجب هو ذاك الذي اتضحت له الغاية واستبان له المصير ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ ]المؤمنون: 115].
فحقيقة الحياة أنها فرصة عمل جاد متواصل لبناء مستقبل رابح، ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ]الشرح: 7-8].
وقد تنوعت كلمات أهل العلم في معنى الآية، فقيل: إذا فرغت مما تحتاجه من أمر الدنيا، وقيل: من الصلاة، وقيل: من الجهاد، ومهما يكن من أمر فالآية دالة على أن حياة المؤمن ليس فيها توقف عن عمل صالح أو حراك راشد، بل هو في سعي دائب وكد متواصل يسابق الليالي والأيام للفوز بالجنة والنجاة من النار.
إن من آكد ما يحيي في النفوس همة استثمار الزمان ويبعثها على عمارة الفراغ بالنصب والرغب إلى الله -تعالى- إدراك أن الليل والنهار مراحل ومنازل ينزلها الناس في سيرهم وسفرهم إلى الله تعالى.
وما هذه الأيام إلا مراحـل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوى والمسافر قـاعد
إن الواجبات تضيق عنها أوقات الجادين، فالأعمال النافعة تستغرق الأعمار حتى لا يجد العامل الجاد مهلة لاستراحة أو فرصة لتوقف، كيف والأنفاس تتراكض وأيام العمر في تناقص، فإياك أن تكون من البطالين العاطلين فترد يوم الفاقة بلا عمل ولا زاد، فإنما ترحل من هذه الدار بما معك من الأعمال، فالرابح من تزود من يومه لغده، والمغبون من غبن خير الليل والنهار، فإن استطعت فلا تكن مغبونًا.