من إسـرار الحـجّ
من إسـرار الحـجّ
حامد بن عبدالله العلي
قال الحق سبحانه : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس ) ، أي بوجودها وحولها الطائفون ، والقائمون ، والركّع السجود ، يقوم أمـر الناس ، فما بقي بيت الله المعظـَّم هذا في الأرض يقصد عبيده بالحـجّ ـ ولهذا قال بعدها ( والشهر الحرام والهدي والقلائد ) ـ بقي النّاس على وجه البسيطة ، وبقيت الأرض يمشي عليه الناس آمنين مطمئنين أن تزول ، ولئـن زال زالـت الأرض ، فزالت السموات.
وليس بعد هذا ـ والله ـ تنويهٌ بفضـل الحجّ وتعظيمٌ له ، ذلك أنَّ لمسيـر كلِّ حاج إلى بيت الله له نصيبٌ من الأثـر في بقاء الأرض ، وأن خطوات العبودية التي يقطعون بها جميع المسافات من أقاصي الأرض إلى سرتهـا ـ وهي الكعبة ـ ثم يطوفون حول هذا المكان بالعبوديـة ، ويسعون بين الصفا والمروة ، ويروحون ويجيئون ثـمَّ ، مقبلين بقلوبهم وأرواحهم على عبادة خالقهم ، مسيرهم هذا ، وعبوديتهم تلك ، هو السـرّ الأعظــم في بقاء الأرض سائرة بأمنها ، يقيمها الله للناس ، فيحيوْن عليها ، ولهذا قال العلماء إنَّ حجَّ كلّ عام من فروض الكفايات ، لأنَّ فيه قيام الناس
،
وتأمل هذا المعنى الجليل ، وفرّق بينه وبين ما تفعله الحضارة الغربية المادية من إفساد للأرض ، وتخريب للبيئة ، وإهلاك لمعايش الناس!
،
وتحت هذا المعنـى الجليـل أيضا قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ، وأنَّ رسالة هذه الأمَّة هي الرحمة للعالمين ، وأنَّ مسؤوليتها تشمل إصلاح حال البشرية البشرية كلِّهـا ، بل لاقيام للبشرية إلاّ بقيام هذه الأمة بمسؤوليتها في إقامة العبودية لله تعالى في الأرض ، وتحته أيضا يدخل ما فُرض الجهاد من أجله ، وأنَّ التفريط فيه ، تعريض للبشرية بأسرها للهلاك ، وليس هذه الأمّة فحسب.
ولهذا ارتبط هذا الركن العظيم من أركان الإسلام بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام ، الحليـم ، ذي القلب الكبيـر الرحـيم ، الذي كان أمّة للناس ، حاملا هـمَّ هدايتهم ، وإنقاذهـم ، حتى خصَّه الله أنـَّه من بين سائر الأنبياء ، له المقام الذي يجعله الحجيـج كلّهـم بينهم وبين بيت الله فيصلـُّون إليه ، وقـد إتخـذوا مقام إبراهيم عليه السلام مصلّى ، كما أمرهم الله تعالى بذلك ( و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، فيا لله ما أعظـم هذه المنزلـة ، الذي رفع الله إليها هذا النبيِّ الكريم ، فسبحان الذي يؤتي فضله من يشاء .
ارتبط الحـجُّ بإبراهيم عليه السلام ، في رفع قواعـد البيت ، وأذانه في الناس بالحجّ ، وبرمي الجمار ـ لما رمى الشيطان عند جمرة العقبة ـ وبذبح الهدي ، والأضاحي ، وارتبط بسعي زوجته سارة بين الصفا والمروة ، ليدخل دور المرأة العظيم في هذا الدين أيضا في أعظـم أركانه ، في حياة النبيِّ إبراهيم الذي سمّانا المسلمين من قبل ، كما ارتبط دورهـا ـ خديجة ـ بحياة نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، فارتبط بنصر دين الحق في أعظـم مقامين ، لأعظـم نبيّين .
وفي الحجّ أسرارٌ عظيمة ، كلُّها تدور على مشهد الجلال والإجـلال ، ومن تأمل نصوص الوحي ، وجد هذا المشهـد هو المهيمن على أسرار الحج ، ولاجرم فهذا الجلال مستفاد من جلال بيت الله تعالى ، وجلال ذلك الحرم ، وجلال تلك المشاعر ، وجلال الأنبياء الذين كلهـم تقلـَّبوا ثـمَّ في مقامات العبوديـة لربهم ، فما من نبيّ إلاّ ولبّي إلى بيت الله .
ولهذا كان الحـجّ هو العبادة الجامعة للعبادات كلَّها ، المالية والبدنية ، والفعل ، والكفِّ ـ في الإحرام ـ بينما كانت الصلاة هي العبادة البدنية المحضة ، والزكاة مالية محضة ، و الصوم عبادة الكفِّ ، فجاء الحج جامعـاً لهذه كلّهـا ، ولهذا شابه الجهاد ، الذي فيه بذل النفس والمال ، ولهذا صارت أيام الحـجّ ، العشر الأول من ذي الحجة ، أفضل الأيام عند الله ، إذ تقوم فيها كلُّ العبادات المحبوبة إلى الله تعالى.
ومن أسراره أنه عبادة التجـرُّد التام لله تعالى ، ولهذا يهاجر العبد ، متكبدا مشاقّ الهجرة من وطنه متجرداً لايريد سوى وجه الله ، ويكمـِّل هذه الهجرة إلى الله تعالى ، بالتجرِّد من الدنيا وشهواتها بالإحرام إذا اقترب من البيت ،حتى يتجـَّرد من ثيابه ، ويهاجـر إلى بيئة ليس فيها سوى مشاهد العبودية لله ، إلى حيث لايفعل شيئا سوى العبادة لربه.
ولهذا كان من أسرار الحج أنه كالولادة الجديدة للإنسان ، فكأنـَّه خرج من كلِّ الدنيا ، وإنغمس في نهـر العبودية ، ولهـذا ورد أنـَّه من أكمل هذه الولادة بالتقوى ، (رجع كيوم ولدته أمـُّه) ، فكأنـَّه أعاد غسل نفسه من الخطايا ، لمـَّا تجرد من كلِّ علائق الشهوات ، وجميع شوائب الذنوب والسيئات ، فعاد مولودا بالعبودية ، لابسـاً مهد هذه الولادة ـ ثياب الإحرام ـ كما يُلبس المولود ملابس المهد ، ولهذا السبب كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكمِّل هذا المشهد بغسل نفسه بالماء المبارك النابع من تحت بيت الله تعالى ، ماء زمزم ، فكان يملأ منه باطنه ، ويغسل رأسه ووجهه وصدره صلى الله عليه وسلم ، كما يُغسل المولود الجديد .
ومن أسراره أنَّ إصلاح النفوس يحتاج أحيانا إلى تغيير البيئة ، فيفارق التائب بيئته التي اقترف فيها السيئات ، إلى حيث ينقطع إلى الله تعالى ، ويشتغل بتنظيف الروح مما علق بها ، فيرجع إنسانا آخر ، قد خلع ماضيه السيئ ، ويلبس لباس التقوى ، ولهذا كان كثير من الناس لايستقيم على الطاعة ، ويحقـِّق التوبة ، إلاَّ بعد الحج ، أو العمرة ، وقد أخذت بعض الجماعات الإصلاحية هذه المعنى المهم ، فكانت تخرج بالتائبين من بلادهم ، إلى حيث ينقطعون في ا لمساجد مع الصالحين ، في بيئة لايرون فيها إلاّ دواعي الإستقامة ، مدة من الزمن ، ليشعروا بالتغير الجذري في حياتهم ، وكـم كان لهذا الجهد الدعوي ، أثـرٌ عظيم في إصلاح نفوسٍ كم كانت عصية على ربها.
ومن أسراره أن العبد فيه يستشعر الحبَّ العميقَ لله تعالى ، حتّى حمله هذا الحبّ على أن يقطع المسافات الطويلة ، فيأتي بيت الله تعالى ، ويقبله ويستلمه ، ويطوف حوله ، كما يطوف المحب الواله حول مكان محبوبه ، ثم يبتعد قليلا فينظر إلى بيت محبوبه ، فيسعى ذهابا وجيئةَ ، كالواله الذي أذهب الوله بلبـِّه محبة وشوقا .
ثم يفعل ذلك تارة أخـرى ، بعدما يعيد مشهد القدوم إلى بيت الله تعالى من بلاده ، وأعني بهذه الإعـادة ، عندمـا يخرج إلى عرفة ـ خارج حدود الحرم ـ فيقف هناك ، متذكراً مشهد بـدء الخليقة عندما أخرج الله تعالى كلِّ ذرية آدم فنثرهم في عرفة ، كأمثال الذرّ ، وأشهدهم على العبودية لربهم ،
بعدما يقف الحاج هناك داعياً ، راغباً ، راهباً ، باكياً ، خاشعاً ، متذللاً طالـباً أن يأذن الله تعالى أن يدنيه إلى بيتـه العظيـم ، يقـف إلى غروب الشمس ، كأنه يُراد له أن يشهد بذلك الغـروب المهيـب ، تقلبَّ وجـود البشرية ، راكبـةً طبق عـن طبـق ، نهاية عهد حيـاة ، وبداية عهد حيـاة جديدة ،
ثـمّ يزدلف أولاً إلى مزدلفة ، والإزدلاف التقـرُّب والدنوّ ، لأنـَّه يدنو إلى بيت الله تعالى ، فيبيت بها ، ويصبح ذاكرا لله تعالى ، فيكثر من الذكر والإستغفـار ،
حتى إذا أذن الله تعالى له بالدخـول إليه ، دخل أوِّل الحرم فرمى الجمرات ـ ولهذا يقطع الحاج التلبية هنا لأنه أوَّل الدخول إلى حرم الله تعالى ـ متبرأً من عدوّ الله قبل الدخول على الله تعالى في بيـته ، ثم نحـر الهدي ، مقدمـاً القربان ، بين يدي الدخول على ربه ، ثم حلق شعر الذنوب ، فألقى عنه ماضيه ، وما فيه ، ثم تطيَّب.
فإذا فعل ذلك ، أذن الله تعالى له بالطواف ، فيهوي إلى بيت الله تعالى ، فيطوف به .
هذا هو الترتيب الأكمـل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنَّ فيه تمام معاني العبودية المقصودة بالترتيب بين الوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، ورمي الجمرات ، ونحر الهدي ، وحلق الشعر ، والطواف ، لكنَّه صلى الله عليه وسلم رخَّص للناس في التقديم والتأخير بين الرمي ، والطواف ، والحلـق ، والذبح ، يوم النحر ، رفقـاً بهـم .
ومن أسرار الحـجِّ أنَّ الحاج يستلم في الحج الشيء الوحيد من الجنة الذي في الأرض ، وهو الحجر الأسود ، وهذا من إكرام الله تعالى للحاجّ ، حتى إذا استلمه حط الله خطاياه ، وسر هذا الإستلام ، أن يتذكر الحنين إلى الوطن الأول ، ويبقي الهدف الأسمى في حياته وهو الرجوع إلى الجنـة ، حاضـرا في ذاكرته ، ولاريب أن الجمع بين اللمس باليد لما هو من الجنة ، واللمس بالقلـب لها ، أقوى في تأكـيد العزم لبلوغ هذا الهدف.
ولهذا والله أعلم شُبـِّه مستلمُ الحجـر بمن يصافح الله تعالى في عـلاه ، لأنِّ الجنة جوار الله تعالى .
ومن أسرار استلام الحجر الأسود ، أنـَّه المكان الوحيد أيضا الذي نعلم يقينا أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم وضع يـده الشريفة عليه ، فنحن نضع أيدينا على نفس الموضع الشريف ، تأكيداً على إلتزام سنّته ، وإقتفاء أثر دعوته ، حذو القذّة بالقذّة .
ومن أسرار الحـجّ أنه يربي العبد على الانقياد لأوامـر الوحـي ، مهما انطوت عن عقله عللُها ، وغابت عن فهمه حكمُها ، تحقيقا لجوهر العبودية لله تعالى ، كما يربّيه على الأخذ بسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ، ليفعل ذلك في كلِّ حياته.
ومن أسرار الحج أنه مدرسة عملية ، يربـِّي العبـدُ فيها نفسه على دوام الذكر ، وإلتزام الطاعة ، والتمسـُّك بالشريعة ، وعلى ضبط النفس ، وإدارة الذات ، والإنتصار على شهواتها ، والشيطان ، وعلى محاسن الخلق الكريم ، فيدع الجدال ، والمراء ، و اللغو ، والرفـث.
ومن أسراره العظيـمه أنه أجمل مشهد تتألـّق فيها حضارة الإسلام العالمية ، ورسالته المترفّعـة عـن كلّ العنصريّات ، والإنتماءات المفرقـة بين الناس بالتعصبّـات الجاهليـّة إلى العرق ، أو المال ، أو الجنس ، أو اللون ، فكأنّ هذه الآية العظيمة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكـم ) تتمثـَّل لك في كلِّ مشاهد الحج ، وتتراءى لك في جميـع مشاعره ، وأنت تنظر إلى الناس من جميع الألوان ، والأعراق ، مجتمعين على العبودية لخالقٍ واحد ، يتبعون شريعةً واحدةً ، ويأمـُّون قبلـةً واحدةً ، ويؤدُّون شعائر واحدةً ، لافرق بين أسودهم ، وأبيضهم ، ولا بين غنيّهم ، وفقيرهم ، ولا بين عربيّهم وأعجميهم.
ومن أسراره أنه يؤكـِّد لهذه الأمـِّة العظيمة ، أنها أمةً واحـدةً ، أمـرُها الجامع الذي يشكـِّل شخصيتها الحضارية ، هو الإسلام فحسب ، وأنـَّه لايمكن أن يجمعها ويعـزِّها سواه ، وأنها متى ابتغت العـزّةَ بغيره أذلها الله .
ولهذا فالذي ينبغي أن يكون الحـجّ مؤتمـرَ الأمـّة السنويّ ، الذي يجتمع فيه قادتها من جميع أنحاء الأرض ، فيتّخذون القرارات العليا التي تعزّز رسالة الأمـّة العالميـة ، وترعى الإسلام ، وتحمي المسلمين ، وتوحّدهـم في مواجهة التحديات ، في ظـلّ نـظام واحـدٍ يجمعهـم.
وبذلك يمزجون في الحـجّ ، بين الدين والحياة ، وبين العبادة في المحراب ، والعبادة في قيادة البشرية وإصلاحها ، وبين التعبد بالنُّسك ، والتعبُّد بإعمار الأرض بالخـير ، إذ لافـرق في الإسلام بين هذه ، في أنهـا كلُّها عبادة الله تعالى ، وهذا المعنى أصـلا هو الذي بـه وحده تتميـِّز هذه الحضارة الإسلامية العظيـمة عن غيرها ، فهو جوهـر رسالة هذه الأمة ، إن زال تزلزل كيانها ، وإن سقطَ سقط بُنيانهـا.
ولهذا كانت خطبةُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم في حجّته ، تأكيداً على هذه المعاني ، فقد جمعت بين التأكيد على وحدة الأمـّة ، وتحريم التفريق بينها بأي جاهليـة ، وتعظيم ذلك حتَّى جعل تحريـم أعراضهم ، وأموالهم ، ودماءهم ، على بعضهم ، كحرمة البيت المعظـّم ، والشهر المحـرّم ، والبلد الحـرام ، وعلى إسقاط كلِّ شرائع الجاهلية ، حتى دماءها ، وأموالها ، والتأكيـد على أنَّ قيادة الأمة تبدأ الإصلاح بنفسها ، إنْ أرادت إصلاح رعيّتها ، حتى تكون قدوةً للأمـّة ، ولهذا قال في تلك الخطبـة بعدما أعلن إسقاط أحكام الجاهلية ، قال : وأوّل ربا أضعه ، ربا العباس بن عبد المطلـب ، وأوِّل دم أضعه دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب .
فجمع في حجـِّه صلى الله عليه وسلم ، بين أنساك الحـجِّ ، وخطبـة فيها تحميل الأمة رسالتها الإصلاحية العالمية ، وجعل سر ذلك في وحدتـها ، وإجتماعها ، وتمسكها بشريعتها ، وكون قادتها هم قدوتها.
وفي الحج أسرار أخرى لايتسع هذا المقام لذكرها .
هذا ونسأل الله تعالى أن يرد هذه الأمة العظيـمة إلى عزتها ، بتوحيدهـا ، وتمسكها بشريعة ربها ، وقيامها بجهاد أعداءها
آمين ، وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصيـر .