أَدْعِيَاءُ المَنْهَجُ السَّلَفِيُّ …مُصَارَحَةٌ وَمُنَاصَحَةٌ !
كتبهارضا أحمد صمدي ، في 16 أكتوبر 2007
بسم الله الرحمن الرحيم
أَدْعِيَاءُ المَنْهَجُ السَّلَفِيُّ …مُصَارَحَةٌ وَمُنَاصَحَةٌ !
لقد استطاع المنهج السلفي أن يُثبِت على مَرِّ العصور أنه منهج الأمة الإسلامية بأَسْرها، فما من حركة إصلاحية إلا وهي تحاول الانتساب إليه،
وما من مَنطق يدعو إلى العودة إلى الإسلام إلا وهو يتمسح به ويرتمي بين أحضانه، حتى الصوفية والطرقية، فَمَنْ تَحَرَّك منهم لإصلاح ما
فسد من حال المسلمين استعلن بالسنة وثار على التقاليد وصاح بالرجوع إلى نَهْجِ الرعيل الأول، بل كل الفلاسفة والحكماء الذين نظّروا
للإصلاح وقعّدوا للنهضة ما فتئوا يشددون على تثبيت طريقة الأولين أنموذجا أصيلا للنهضة لمقاومة زحف الآخر لاحتلال وجدان الأمة ومحو الهوية .
ولعل ذلك كله مَرَدُّه إلى سهولة المنهج وتطابقه مع الفطرة الإنسانية، لا غَرْوَ فهذا المنهج بمثابة المرآة التي تعكس ما كان عليه الملأ من
صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وصفوة الرعيل الأول، وهم هم الذين على أكتافهم قامت حضارة الإسلام، وهم هم الذين كانوا بناة المجد
الذي تَأَثَّلْنَاهُ وما زِلْنا نَتَرَنَّم حُدَاءَه في هذه الأيام .
فكلُّ شَادٍ بحضارة المسلمين مُنَوِّهٌ بِبُنَاتِها من سلف الأمة الصالح شاء أَمْ أَبَى، وكل مادح لهذه الحضارة التي مهّدت لحضارة اليوم وبشّرت به فهو مُثْنٍ في طَيّ مدحه بمن عَلّموا البشرية طرائق الفنون ومناهج البحث والتجريب .
وما زلت أقرأ في كتب العقائد والتاريخ والفلسفة التي ألفها من ينتمي للملة يذكرون السلف والرعيل الأول بالثناء العاطر، ولشدما كنت أطرب حينما أرى أولئك المؤلفين في العقائد والتاريخ والفلسفة حين يعرِضون للسلف أنهم أنموذج الفطرة النقية والأنموذج الأوحد للبساطة الإنسانية وعدم التكلف وأن إليهم المآب والمرجع في قياس ما حدث للإنسانية من تغير وحدثان .
وَلَعَمْرُ اللهِ إن هذا بعينه هو ما نوّه به الأولون حين ذكروا أن من ألزم صفات القوم هو بساطتهم وعدم تكلفهم، فكانوا أكثر أهلية لقبول الوحي وأظهر استعدادا للقيام بأعبائه، إذ خَلَتْ عقولهُم مِنَ الشُّبَهِ والسَّفْسَطَة، ولم تَعْبَثْ بطرائق حياتهم صنوفُ الرَّفَاهِ والدَّعَة وألوان الشهوات، لذلك لم يُنقل عنهم نَظَرٌ في القضايا كنظر المتأخرين، ولا تَفَلْسُفٌ في تناول نصوص الوحي.
والأعجب من هذا كله أن القوم تساوت فطرهم وتشابهت قلوبهم على هذا المَهْيَع، فتحقق لهم الاجتماع والالتئام، وقَلَّ أو انعدهم بينهم التَّشَرْذُم
والتفرق، ومع أن نصوص الوحي من كتاب وسنة هم الذين نقلوها، وهي تقارب عشرين ألف نص ما بين آية وحديث إلا أننا لم نجد بينهم
نزاعا وفرقة في تناول تلك النصوص، خلاف النحل والملل الأخرى التي توارثت كتبا لا تبلغ مِعْشَارَ ما في الكتاب والسنة
لكنهم تَفَرَّقُوا أَيَادِيَ سَبَأٍ وقد أخبر الوحي الصدوق عنا وعنهم فقال :]َإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرً اكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[، ونهانا عن سلوك طريقتهم القيام بالحق والدعوة إليه فقال : ]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ .
إن كل أسباب الفرقة والاختلاف تَمَهَّدَت لهم لكنهم كانوا أَبْعَدَ الخلق عنها وأَفْرَقَ الناس منها ، وهم وإن حصل بينهم أصل الخلاف إلا أنهم لم
يتركوه لِيَسْتَفْحِل في دينهم وينال من عقيدتهم، فما وُجِدَ إجماع أمْكَنَ ولا أَصْلَبَ من إجماعهم على المعتقد ، لقد تنازعوافي الفروع وعذر
بعضهم بعضا، لكنهم في الإيمان تأصَّلَتْ جذورهم واسْتَفْحَل تعصُّبُهم وتعاظمت حَمِيَّتُهُم فما جَرُأ أحد على القرب من حِمَاه والنَّيْلِ من حَرِيْمِه .
هذا وقد لاحظ سلفُنا الصالح أمرا ظاهرا في تصرفات الرعيل الأول من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر المعتقد وعليه بنوا أصل
الاعتقاد ، وهو أن ما تقرر في النص وجب اعتمادُه ، وما سكت عنه النص وجب السكوتُ عنه ، وبهذا السور الحصين بنوا سِياج العقيدة وعلى أُطُمِه دافعوا وردوا على المخالفِ ابتداعَه ونطقه بما سكتوا عنه.
فأصول السلف الصالح في مسألة الصفات مبنية على هذا الأصل ، وهو أن ما أثبته الوحي من أسماء وصفات المولى تبارك
وتعالى وجب إثباته والإيمان به ، وما سكتت عنه نصوص الوحي المطهَّر وجب السكوتُ عنه والكفُّ عن الزيادة فيها أو النقصان .
وكذلك مسائل الكفر والإيمان والقضاء والقدر والقول في القرآن وغير ذلك من أمور الغيب والاعتقاد كلها مبنية على ذَانِكَ الأصلَين .
فلما انقضى عهد الرعيل الأول من الصحابة والتابعين جاء من تبعهم بإحسان فأكّدوا هذه الطريقة واستقاموا عليها فوقفوا عند ما جاء به
سابقوهم ولم يزيدوا ولم يتأولوا بل إن بعضهم كاد يقف عند ألفاظهم فلا يتجاوزها كما حدث في مسألة ( لفظي بالقرآن مخلوق )
فقد أنكرها جمهور السلف لأن الصحابة والتابعون لم ينطقوا بها وإن كان مقتضاها الصحيح من اللوازم التي يقول بها السلف .
إن تَقْعِيْرَ المسائل والنَّخْرَ في حناياها واجتثاثَ خَفِيِّ المعاني منها وابتناء الاعتقاد عليه ثم إعادة غرسها في تربة المعتقد محفوفة
بجذور الولاء والبراء مسلك لم يَطْرُقْهُ السلف بل إنهم علموا نتائجه فحذروا منه، أليسوا هم الذي صاغوا لنا في المعتقد أن
أهل السنة يحبون الاجتماع والائتلاف ويُبْغضون الخلاف والفرقة ؟
نعم ... يجتمعون على ما أجمع عليه الرعيل الأول ، ويأتلفون حول ما استقرت عليه أقوالهم ومعتقداتهم ،
وكذلك ما سكت عنه الرعيل الأول ، فإنه يجتمعون على السكوت عنه ويأتلفون على عدم إنشاء المسكوت عنه كأنه منطوقٌ به .
إن السلف رأوا أبا حنيفة يخطئ في بعض مسائل الإيمان فما كفروه ولا بدعوه ولا جعلوه رأسا من رؤوس الضلال
وكُل ما يُروى عن بعضهم في أبي حنيفة في تبديعه وتضليله أو تكفيره فلا يصح ولا تقوم بمثله الحجة ، فمن كان أَمْكَنَ
وأَقْعَدَ في مسائل الإرجاء أخذ عنهم المحدثون والرواة والنقلة من أهل السنة ولم يجدوا الغَضَاضَةَ في نقل نصوص الشريعة
عنهم بل وثَّقُوْهُمْ وزَكَّوْهُمْ وإن نبهُوا على ما وقعوا فيه من بعض البدع .
لقد خالط السلف من خرج على بعض أئمة الجَوْر كعبد الرحمن بن الأشعث وسعيد بن جبير واعتبروهم من أئمة الدين
ونقلة الشريعة ولم يعتبروهم من كلاب النار أو من الخوارج الضلال .
ومن السلف من أنكر قراءة متواترة هي (بل عجبتُ ويسخرون) فنفى صفة العجب ، فما زاد أن نبه على ذلك بعض أئمة
السلف أن ذلك المنكِر اغتر بعقله وتَمَكُّنِه في اللغة ، إشارة إلى أن مثل هذا لا يُعمَل فيه العقل ولا تكون اللغة له معيارا ،
وإنما مَدَارُه على النَّقْل ، فمتى ثبت فإليه المرجع والمآب .ومن السلف من زاد في بعض الصفات اتِّكاء على بعض الآثار الضعيفة
فما زاد السلف أن نفوا ذلك ونبهوا على خطأ من أثبت الصفة .
وهذا وكيع وغيره من زهاد العراق قيل إنهم كان على مذهب أهل العراق في الأَنْبِذَة ، فما اعتبروهم أهل مُجُوْنٍ وعَرْبَدَة،
وهذا ابن حزم أخذ بقول بعض أهل المدينة في المعازف فما سمعنا أحدا من العلماء يعتبر القائلين بإباحة المعازف من الفسقة الفجرة ،
بل إن من بعض السلف من تساهل في بعض مسائل استباحة الفروج كإعارة الجَوَارِيْ وإِتْيَانِ المرأة في الدُّبُر فما زاد أن نبه السلف
على شذوذ أولئك وذم من تتبع رخصهم لكنهم ما سطروا قصيدة في هجائه كما يفعل بعض أدعياء المنهج اليوم مع مخالفيه في
بعض المسائل .
وقد كان السلف يعظِّمون النصوص والآثار ويُقَدِّمُونها على آراء الرجال ويَسْتَقْبِحُون من يذكر أسماء الرجال معترضا ذكر الآيات والأحاديث،
وينكرون على من يُقَلِّدُ دينَه الرجالَ ويُعرِض عن نصوص الوحي المعصوم.
لَكِنَّ الرَّزِيْئَةَ كُلَّ الرَّزِيْئَةِ أن ينتمي لهذا المنهج من يجعل المسكوت عنه في حكم المنطوق به، بل يجعله من لُبَابِ المعتقد وحَقِيْقِ القول،
ومثله من يتتبع زلات العلماء ليفضحهم ويشهِّر بهم ويخرجهم من المنهج السلفي ، وكذا من جعل المنهج السلفي قرينا للمذهبية بل هي
المذهبية الجديدة حين يُهدر النصوص والآثار لفتوى عالم معاصر من أهل السنة وينادي على المخالف بالابتداع والشذوذ لأنه يريد فهم
النصوص والآثار بعيدا عن فهم شيوخه وعلمائه .
وقد رأينا من يقرأ حديث حذيفة رضي الله عنه المرفوع في الدعاة على أبواب جهنم ويَفهم منه أن المقصود به هم الجماعات الإسلامية
العاملة لدين الله الباعثة لما اندثر من شرعه (وليس في شروح السلف ولا الخلف ما يشير إليه ولو من طَرْفٍ خَفِيّ)، فيَجْزم بهذا المعنى
ضَرْبَة لازِبٍ ، ويعتبره معتقدا من معتقدات السلف فيربط عليه معاقد الولاء والبراء، فمن فهم الحديث مثلَ فَهْمِه فهو السني السلفي القح،
ومن تأوله على غير هذا فهو الحزبي المتستر المتخفي برداء السلفي وهو جدير أن يكون من أهل الأهواء الذين الرَّدُّ عليهم أَرْجَى وأَعْظَمُ
ثوابا من الرد على اليهود والنصارى ، ومن الذين يجب الحَجْرُ عليهم وأَطْرُهم على الحق أَطْرَاً ، كما يجب إقصاؤهم عن مناصب التدريس
والإفادة وتحذير المسلمين من شَرِّهِمُ الوَبِيْل الذي فاق شر الحاكمين بغير شرعه والراضين بغير منهاجه!
وإِنْ تَعْجَبْ ؛ فاعْجَبْ مما يقول أدعياء المنهج في مَنْ يبذل كل رخيص وغال لدين ربه ، بل ويبذل ماله وأهله وحياته لتقوم شريعة الله في
أرضه ، ويقضي نَحْبَه في سبيل ذلك كله ، وتَسْبُرُ حياته فتجده على السنة في النَّقِيْرِ والقِطْمِيْر ، لكنه عند هؤلاء المُتَنَطِّعِين
المُتَكَلِّفِين يَعُدُّوْنَه من أهل الأهواء الذين يجب التحذير منهم ومحاربتهم واضطرارُهم لأَضْيَقِ الطريق ، وأما مخالفوا ذلك الباذل
المجاهد عَبَدَةُ الطاغوت والمتزلفون للصليبيين ومناصرو كل فَجْرَة وبِدْعَة وغَدْرَة في أمة الإسلام فيجب السمع لهم والطاعة
والإخلاص لهم في المَنْشَطِ والمَكْرَه !
ما زال العجب يستولي على كل خاطرة من خواطري حينما أتأمل حال بعض المنتسبين للمنهج السلفي ، وأعني بهم من
ينتسبون إليه اسما وحسب ، أما حالهم وتفاصيل تصرفاتهم فتنادي عليهم بالبراءة من هذا المنهج الحق .
ولعل كل جماعة أوحركة إسلامية يكون في أفراده امن يلتحق بها وينتسب إليها زورا ،لكن المنهج السلفي ابتُلي بمن استغل سهولته وملاءمته لكل الناس فجعله مَطِيَّتَه لترويج باطله وتسويق بهتانه، بل زادت الرَّزِيْئَة بأقوام فنسبوا هذاالبهتان للمنهج وألحقوا هذا الزور بأصوله ما أدى إلى محنة مارُزئ بها المنهج منذ نشأت الفرق والمناهج المخالفة لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
فبعد أن كان المنهج السلفي ميزانا يُذعِنُ له المخالف وينضوي تحته المعاند صار تُهَمة يتبرأ منه أصحابُه لما ألصقه أدعياء المنهج به من
أسوار وقيود ضيّقت رحابه التي كان يستظل بها المسلم العادي فضلا عن العامل لدينه .
أَجَل ! لقد أضفى أدعياء المنهج عليه كُلَّ مُسُوْحِ المبتدعة والمنحرفين والزائغين ، فمنهجهم له سَدَنَةٌ وكُهَّانٌ مَرْصُوْدُوْنَ لا يحل لأحد أن
يتجاوزهم إن أراد الانتساب للمنهج أو انتحال اسمه ، فإن رضي عنهم السدنة والكهنة فَهُمُ المَرْضِيُّوْنَ والمقبولون ،
وإن سَخِطَ عليهم السدنة والكهان فكل صنوف اللعائن والسخط قابلة أن تَحُلَّ عليهم أو قريبا من دارهم ومن أراد التقرب
إلى السدنة والكهنة لزمه أن يمدحهم ويُثْني على مناقبهم ويُغْضِي عن مَثَالِبِهِمْ ويرفع من مكانتهم ، وهؤلاء السدنة والكهان
لا يختلفون عن أرباب البدع والنحل الزائغة في أنهم يختلفون عند تعارض المصالح أو تخالف الرؤى ولو في حقير الأمر ودقيقه، فهم أبعد ما يكونون عن حال السلف الصالح التي وصفناها من اجتماع وائتلاف ووحدة .
وليت اختلافهم كان في الأصول وعظائم الأمور حتى نجد لتفرقهم مساغا أو مخرجا ، لكن أصحاب الود بالأمس
يصيرون أعدى الأعداء لمجرد اختلاف قولهم في حال رجل هل هو من أهل السنة أو ممن زاغ وانحرف في بعض المسائل الدقيقة ،
بل إن بعضهم قد يستعرض فصول محنة الإمام أحمد وينسبها لمحنته إذْ وقف بالمرصاد لفلان الذي أثنى على تفسير
سيد قطب في ظلال القرآن ، فباتت أخبارُ القوم أُمثُوْلَةَ الدهر في السَّفَهِ وقِلَّةَ العَقْلِ ، ولكن المبكي أن كل ذلك
ينسبونه للمنهج السلفي العتيق !
إن حال القوم أشبه بالأَرَضَةِ أو السُّوْسِ الذي يدخل في باطن الخشب ويعيش فيه وينتسب إليه لكنه يَنْخَرُ فيه حتى يجعله
كَأَعْجَازِ نَخْلٍ خَاوِيَة، صلْبَة في ظاهرها لكنها جوفاء في باطنها، لقد نَخَرَ السوس في صميمها وصار يَتَعَيَّشُ ويَقْتَاتُ من
لَحْمِها وما درى السوس أنه يأكل عُشه ويقتات على البنيان الذي يحميه ويأويه.
وما زلت أتمعن في حال القوم من سنين ، وأتعجب من خفة عقولهم وطرافة أساطيرهم وأتساءل: كيف لمن قرأ صحيح البخاري
ومسلم وسَبَر المسانيد والسنن وقرأ الشروح وجال وصال في كتب السلف أن يئول حاله إلى هذه الحال؟ كيف لمن خالط الإمام
الشافعي وعرف عقله، وصاحب أبا حنيفة وتَمَرَّسَ ذكاءَه، أو أدمن مجالسة مالك وأحمد ولَمَسَ زهدهم وورعهم أو تَخَرَّجَ عَلَى
يحيى بن معين وعلي بن المديني وقرأ براعتهم في استقراء الروايات والمعارضة والموازنة بينها ثم هو بعد ذلك يُبْعِدُ النَّجْعَة في
وضع قواعد المنهج ومعاقد الولاء والبراء عليها بل ويَتَفَنَّنُ في ابتكار ما لم يُنَزِّلِ اللهُ به سلطاناً من أنواع القيود والشروط لتزكية
السني السلفي، فما سلم عنده لا الشيخ الألباني ولا الشيخ ابن باز ولا الشيخ ابن عثيمين ! فسلفية أحدهم أقوى من سلفية الألباني،
وابن عثيمين في منهجه شيء، والشيخ ابن باز متساهل مع هذا وذاك، وعلى غرارهم من يقول: الألباني عنده جهميات نجانا الله منها !
وابن باز وابن عثيمين من الراكنين إلى الذين ظلموا ! ما أَغْثَى هذا الكلام وإن ذكرناه منكرين متبرئين.
وليس استنكارنا لما قال أدعياء المنهج في أولئك الأئمة الثلاثة لأننا نقدسهم أو نعتقد فيهم العصمة ، ولكن لأن أدعياء المنهج
تضطرب أقوالهم في العالم الواحد فَيَجْمَعُوْنَ له النقيضين والضدين في آن، فهذا تكفيري وفي نفس الوقت وقع في الإرجاء،
وذاك مرجئ ولكن عنده غلو في التكفير وهذا لا يخلو من تَجَهُّم، أما ذاك فرأس من رؤوس الإرجاء، ولن ينسى من تشبه بهم
في هذا المنهج العجيب أن يأتيك بنقيض ذلك كله فيرميهم جميعا بالكفر والخروج من الملة.
وفي مجالس أولئك البطالين تجد من يَلْمِزُ هذا العالم أو ذاك لأنه أفتى بجواز لُبس البنطال أو له قول بجواز حلق اللحية
عند الضرورة أو يرى أن وجه المرأة ليس بعورة، وفي مجالس أولئك أيضا ترى من يرمي القائل بالتَّتّرُّسِ والعمليات الاستشهادية
أنه من الخوارج لأنه يستهين بدماء المسلمين ويتساهل في إطلاق الأحكام بل منهم من يرمي المجاهدين في سبيل الله ممن هبوا
لطرد المحتل الصليبي والرافضي في العراق أنهم من التكفيريين وأتباع الأزارقة ( يعني الخوارج ) .
وبعض أولئك رأيناهم يُهْدِرُوْن النصوص والآثار للمحافظة على نص في كتاب الإبانة لابن بطة أو متمسكا بأن كل ما فيه
مجمع عليه من السلف ، وهو غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، فليس كل ما في الإبانة محل إجماع بل فيه مسائل لا تسلم له أنها محل إجماع
من السلف بل فيها مسائل يُقطع أنها ليست محل إجماع .
وفي غَمْرَة تعظيم القوم للسلف نسوا أن السلف ما عَظُموا في أعين الناس إلا لتعظيمهم النصوص والآثار، لكن القوم
صار تعظيمهم لأقوال السلف أكبر من تعظيمهمه للنصوص والآثار نفسها، حتى صرنا نرى عبارات المقلّدة الذين أغلظ عليهم
أئمة المنهج السلفي تتكرر في عبارات أدعياء المنهج، كنحو: لا يمكن أن نفهم هذا الحديث أفضل من فلان، يجب تنزيل النصوص
على الواقع بفهم عالم سلفي معاصر (وهو يعني أشخاصا بأعيانهم لا يقبل غيرهم) وليس بفهم السلف السابقين لأن واقعنا يختلف
عن واقعهم، ومع ذلك أيضا فالقوم تكاد تخلوا نقاشاتهم مِن (قال الله وقال الرسول وقال الصحابة) -وإن ترنموا بالثلاثة وشَدَوا-
وغالب أحاديثهم فتوى فلان وفلان وفلان فإن علا إسنادهم فينقلون عن بعض كتب السلف بأعيانها ويَتَمَنْطَقُون بعبارات بعينها لا تراهم يحفظون غيرها .
أَيُّ نَفْسٍ تلك التي تَتَقَلَّبُ بها الفتن والآراء فتقلبها كما تقلب الرياح أوراق الشجر ظهرا لبطن ، ففلان في يوم من الأيام من أئمة
أهل السنة والجماعة ( هكذا ) وبعدها ببرهة يصير هذا الإمام محنة من المحن التي ابتلي بها الإسلام والمسلمون ويحذر منه
أكثر من تحذيره ممن احتل العراق وأفغانستان .لو تأملت خارطة طريقهم لوجدتها شديدة التعرج ليس لها خط أصيل واضح ،
وليس مثل هذا يمكن أن يكون منهجا للسلف أو ينتسب له بوشيجة .
إن البحث في نَفْسِيَّةِ القوم مُهِمٌّ لمعرفة أسباب هذا الانحراف، ومِنْ ثَمَّ علاجه والتحذير من روافده ومظانّه، وقد أعملتُ فكري
في بحث ما يمكن أن يكون علاجا لهذه الآفة عند القوم فوجدت أن تبصيرهم بمداخل الشيطان وتزيينه وتسويلات النفس الأمارة بالسوء فضلا عن مداخل الزيغ عند أهل الأهواء وما قد يكون تسرب إليهم من جاهلية قديمة أو بدعة كانوا عليها.
ومع تتبع ما آل إليه حال أدعياء المنهج وجدت أن أغلب الأسباب والروافد لما هم عليه يمكن إرجاعه إلى ثلاثة أمور :
الأول : رواسب الجاهلية.
الثاني : قلة الإحاطة في المسائل العلمية وضعف تتبعهم لمنهج السلف.
الثالث : استيلاء الشبهات عليهم وتحكميهم فهوم شيوخهم على منهج السلف.
وهي على التحقيق راجعة إلى الجهل والظلم، فرواسب الجاهلية هي التي تولد الظلم والاعتداء، وقلة الإحاطة وضعف التتبع
لمنهج السلف مع استيلاء الشبهات واضطراب الفهم منشؤه الجهل بأنواعه، والجهل والظلم هما سببا شقاء الإنسان وتعاسته،
كما قال الله تعالى: ]وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[ .
أما السبب الأول من أسباب ما عليه القوم من فتنة فهو تسرب العادات وتغلب الطبع، وهذا يحدث عند كثير من المتنسكين،
والسعيد من غلب التشرُّع طبعَه وتطبُّعَه، فيكون الواحد منهم قبل نسكه جافيا غليظا سيء الظن بالناس بعيدا عن الصبر
والحِلم نائيا عن الشفقة والمَرْحَمَة لا تَسْعَدُ نفسُه إلا بإزاحة من يبغضه عن ناظريه فيستريح بالُه ويهدأ خاطره، فيغلب هذا عليه
لكنه لا يُفرق بين ما هو مبغوض من النفس ومبغوض من الشرع، فتختلط عليه الروافد، فيبحث عما يبرر بغضه لفلان أو فلان
فلا يجد إلا والجات الهوى وغضاضات النفوس، ولكنه ليس بكاف في إزاحة المبغوض وتحطيمه، وقد كان في الجاهلية يزيحه
بالاعتداء على النفس وعلى ما دون النفس، ولكن الشرع ألجمه عن ذلك فإذا به يمتطي الشرع ليزيح هذا العدو ويحطمه، فيبحث
في منطق الشرع ما يجعل ذلك المبغوض إلى نفسه مبغوض في الشرع أيضا، وقد يجد في خصمه ما يعتبره الشرع ضَعَة عن
المرتبة السامية ولكنه لا يُنزله إلى مدارك المنافقين أو مهاوي المبتدعين الزائغين، لكنَّ صاحبَنَا يُعْمِل مِبْضَعَه في تشريح القواعد
والأصول ليستخرج من القوانين والمسالك ما يجعل خصمه هذا منافقا أو مبتدعا أو زائغا وربما جعله زنديقا يستحق حز رقبته.
ومن هؤلاء من كان في جاهليته سبابا لعانا فاحشا بذيئا، فلما ظهر عليه النسك سكن لسانه الحاد، لكنْ لما دَبَّتْ الخُصُوْمَهُ بينه وبين
رفاقه ممن تنسكوا معه عاد إليه لسانه البذئ فاستحل سبابهم وشتمهم ولو بالفاحش متكئا على إغلاظ السلف للمبتدعة وأهل الأهواء،
وشاسع بين رؤوس الضلال الذين هجرهم السلف وبين من يُحْصَى خطؤه فتَغلِبُ حسناتُه سيئاتِه.
وقد يكون بعض هؤلاء في سالف زمانه مُدْمِنَا للنميمة بين الناس، يسعى بها حثيثا، فلما تاب وأناب خمد إدمانه، فلما تعرض للخصومة
من أصحابه في التدين والتنسك غلبَ طبعُه فصار من السعاة بين المشايخ وأهل العلم بالنميمة، ولم ينس صاحبنا
أن يُغَلِّفَ نميمته بحججٍ سلفية كمثل : التحذير من البدعة وإنماء الأخبار إلى الولاة من باب النصيحة لهم !
ومنهم من كان محنكا في الكذب والتدليس أيام صبوته، فلما تنسك جعل المعاريض مطيته يركبها مع أحموقته فتسير
بهما صوب كل فتنة ومهلكة.
وعلاج أمثال هؤلاء أن يُنبهوا إلى آفاتهم ويُحذروا أن تنجرف بهم طباعهم القديمة أو تستهويهم عاداتهم السالفة، ومما يُستعان
به في تقويم آفتهم حَضُّهُمْ على التورع في أعراض المسلمين والدعاة والصالحين، وأن السلف الصالح كانوا أكثر الناس تورعا
في ذلك حتى إن المحدثين مما جاز لهم الطعن في الرواة لأجل حفظ نصوص الشريعة كانوا يحتاطون في الألفاظ خشية الوقوع
في الغيبة وكانت من مناقبهم التي تذكر في تراجمهم، ومثله مما ورد عن البخاري وغيره مشهور ذائع.
وينبغي أن يُحَذَّروا أيضا من مداخل الشيطان والمعاصي الخفية التي يزينها الشيطان لهم وأَنَّ غالبها يأتي من عادات النفس ومألوفاتها لأن
تزيين الشيطان لهم بفعلها أَسْهَلُ مُعَالَجَةً وأَمْكَنُ عند المُحَاجَّة لأن النفس مجبولة على المعاندة معتادة على حب النصر ومغالبة الخصم.
الأمر الثاني : قلة الإحاطة في المسائل العلمية وضعف تتبعهم لمنهج السلف، وقد حصلت هذه الفتنة في الأمة بعد أن قل علماؤها
وندر وجود أئمة الشأن ممن يُرجع إليهم في المدلهمات، ولم تشرئب هذه الفتنة وتظهر بقرونها إلا بعد أن مات الأئمة ابن باز وابن
عثيمين والألباني رحمهم الله، وكان لهؤلاء دور في لجم تلك العقول النافرة، وكم صدرت منهم مناصحات لتلك النوابت وكم زجروهم عما يشين منهج السلف ويعيبه.
ولقد تأملتُ في الفتن التي أحدثها القوم فوجدت أن ضعف الملكة العلمية ونقص الاستقراء لمنهج السلف تحقق في الصور التالي :
الأولى : مواقف الرؤوس حين يتخذون موقفا من أحد أهل العلم ويكونون في هذا الموقف قدوة فيتجمع عليهم الأتباع ويتقحّمون
في نار الفتنة كالهوام إيمانا بصلابة موقف رؤساهم وكبرائهم، وقلَّ منهم مَن يُرَاجِع نفسه أو يُراجع أهل العلم ويتثبت في موافقة
قول شيخه ورئيسه للشرع، وبعض هؤلاء إذا أوردت عليه الأدلة والقرائن في خطأ موقف شيخه اعتذر له بأن شيخه يعرف مثل
هذه الأدلة وأنها لا تفوت على مثله، فتضعف إحاطة أمثال هؤلاء بحقيقة منهج السلف لما غَلَّفَ عقولهم من حُجُبِ التعصب والانقياد
والتقليد.
الثانية : الجهل البسيط بحقيقة منهج السلف في بعض المسائل، مثل جهلهم بطريقة السلف في نقد الآخرين، وأنها ليست على طريقة
واحدة في الذم والهجر والتبديع، وجهلهم أن نصح السلف وتحذيرهم يَمُرُّ بمراتب ومراحل وأن السلف يميزون بين تَمَرَّغَ في البدعة
حتى ثمل منها وبين من عُدت بدعه وسقطاته، وميزوا بين من له بلاء وسابقة وبين من يُعد في سقط المتاع من شراذم المبتدعة والأفاكين،
كما ميزوا بين من وقع في البدعة ومن عُد من المبتدعة ولهم في ذلك مسالك متوازية مع التكفير والتضليل، كما ميزوا بين التحذير
من البدعة ومخالطة من وقع فيها فليس النهي عن مخالطة من وقع في البدعة على جادة واحدة، كما ميزوا بين المخالطة الكاملة
والمخالطة الناقصة، وميزوا أيضا أنواع البدع ومراتبها، فلم يكن أهل الأهواء والابتداع على منزلة واحدة، كما ميزوا بين المبتدعة
في مراتبهم، فعدّوا الداعية وغير الداعية، والمتعصب وغير المتعصب لبدعته، والصلب وغير الصلب والجَلْد وغيرَ الجَلْد، وميزوا
بين من يبتدع مبتنيا على أصول جامعة تفارق الملة كالفلاسفة وأرباب التصوف الفلسفي وبين من يبتدع بدعا متفرقة لا يجمعها
جامع أو أصل موحّد مثل سذج الصوفية والمغفلين مِنَ العُبَّادِ، كما ميزوا بين يبتدع في العقائد والعبادات وبين يبتدع في الحكم
والسياسة والعادات، وكل هذه التمييزات مبسوطة بأمثلتها وقواعد تمييزها في الاعتصام للشاطبي واقتضاء الصراط المستقيم
لابن تيمية وتصرفات السلف من المحدثين مع الرواة المبتدعة.
الصورة الثالثة : التساهل في سَبْر حال المخالف، فقد يخطئ العالم أو الداعية في مسألة ولا يجدون لهذا الخطأ مأخذا
عند السلف فيدرجونها تحت بدعة كبرى أو خطأ عظيم أنكر عليه السلف، بينما خطأ ذلك العالم لا يحتمل مثل هذا الإنكار عند السلف،
فيكون إنكارهم ناشئا عن قلة إحاطة وضعف تحصيل لما كان عليه السلف الصالح، وذلك مثل التسبيح بالحصى أو الخرزات،
فالسلف ليس لهم في تخطئة هذا الأمر وتبديعه قول فصل، بل من أئمة السنة من رخص وجوز التسبيح بالخرزات،
فإدراج هذه المسألة تحت التصوف والرهبنة وتقليد المشركين افتئات على السلف ومنهاجهم.
الصورة الرابعة : عدم التمييز بين ما اختلف فيه السلف وما اتفقوا عليه في مواقفهم من المبتدعة، فبعض المسائل لم يكونوا فيها
على رأي واحد، فيأتي نوابت العصر من أدعياء المنهج ويقطعون للسلف في المسألة بموقف واحد وتصرف واحد وهو
الإنكار التضليل والتبديع، مع أن من السلف من هوّن الأمر ويسره،وذلك مثل الدخول على السلاطين وتقلد القضاء والمناصب لهم
وقبول العطايا منهم، فالسلف كانت لهم أنظار مختلفة ولم يكونوا فيها على طريقة واحدة، ومثله أيضا الرواية عن المبتدع فاختلافهم
في هذه المسألة مشهور ذائع فمن قصر منهج السلف على جادة وحيدة فقد أبعد النجعة.
الأمر الثالث : استيلاء الشبهات عليهم وتحكميهم فهوم شيوخهم على منهج السلف.
وهذا إن كان يحدث منهم ومن غيرهم إلا أنه سمة ظاهرة في القوم ومضادته للمنهج السلفي واضحة ظاهرة، كما أن الاضطراب
في فهم أقاويل السلف لا يقتضي التخالف والتنافر بين المنتسبين للعلم، فالأئمة الأعلام يرفعون الملامة عن بعضهم ويعتذرون
لغيرهم إن صدر منهم الخطأ ويفترضون أنهم لم يَتَقَصَّدُوا الوقوع في الزلات والأخطاء، أما من غلبت عليه صرعات الهوى فما أكثر
ما يَخِرّ عند كل شبهة تعرض عليه أو مُشْكِل يقع فيه.
فمن ذلك أنهم يرون العالم أو الداعية ممن هو على السنة وطريقة السلف في صغيره وكبيره ودِقِّهِ وجِلِّه، وقد يقع ذلك العالم أو
غيره في بدعة أو خطأ، فيشتبه عليهم حاله وقد يرون في أقاويل السلف ما يقتضي إنكار البدعة أو الخطأ الذي وقع فيه ذلك العالم
لكنهم يجدونه قد حوى فضائل جَمَّة في السنة والتمسك بهدي السلف فتَصْطَرِعُ عندهم الفِكْرَة، وينال منهم التذبذب كل مَنَال،
هل يهجرونه لبدعته أو يتغاضون عنه لسنته وطريقته؟ وقد يفتيهم أحد علمائهم بالتغاضي عن خطئه وزلته والصفح عن بدعته وعَثْرَتِه،
ثم يفتيه آخر من شيوخهم بالأخذ على يديه وتشديد النكارة عليه، فتزداد عليهم الحيرة وتستولي عليهم الشبهة فيطيع بعضهم ذاك العالم
وبعضهم ذلك الشيخ ويَدُبُّ فيهم الخلاف لغلبة الشبهة واستيلاء الحَيْرَة، ثم تعتلي الشبهة مِنْبَرَها بين شيوخهم فينكر ذاك على هذا تساهله
في التغاضي عن البدعة، وينكر هذا على ذاك تشدده في الإنكار على ما لا يستحق الإنكار ويتعاظم الخلاف ويتفاقم ويأخذ كل فريق
في تصنيف الكتب وتأليفها لتأييد فكرته وتشييد نحلته، وكلهم يتلمس من أقاويل السلف المجملة ما ينصر مذهبه، حتى تصير فهومهم
هي الحاكمة على منهج السلف، ومواقفهم السابقة هي المفسرة لما قصده السلف، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وما زال السلف يحذرون من الشبهات والخطرات ووَسَاوِسِ الصَّدْرِ وشَتَاتِ الأمر ويحرَّضون على الأمر الأول ويَعِظُوْنَ بعدم التكلف
وبالبساطة في تناول النصوص وعدم التشدد والغلو كفعل الأمم السابقة، وما وقع القوم فيما وقعوا فيه إلا لبعدهم عن طريقة السلف،
ولو استقاموا على طريقتهم وفعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا.
وإنما عَظُمَتْ عندهم الشبهة وتضخمت عندهم الحيرة لأسباب واضحة ظهرت لي بعد تأمل وسبر، فمن ذلك بُعْدُهم عن القرآن وهَدْيِهِ،
فالقوم قَلَّ ما يعتنون بحفظه ودراسته وإن كثر اعتناؤهم بالحديث إلا أنهم قليلوا الفقه فيه ولا يُعرَف عندهم مجتهد يُشار إليه بالبَنان،
كما أن العبادة والاجتهاد في السنة لديهم قليل أو منعدم، وإنما عرفوا بالتمسك بالهدي الظاهر والتشدد في غرائب السنن
(وأعني بالغرائب ما ينكره أغلب العلماء) مثل الحرص على لُبْسِ الطيلسان ونسبته للسنة أو جعله شعارا للسلفيين، واشتهر عن القوم
تَنَعُّمُهُم واسْتِطَابَةُ الرَّفَاهِ والركون إلى لذيذ العيش، فليس فيهم المُتَزَهِّدُ والمُتَقَلِّل، وكل ذلك يستدعي ولادة النفس الحائرة المهتزة
التي لا تثبت عند الفتن ولا تَصْمُدُ عند زلزلة الخطوب، وها هي الفتن تَعْصِفُ بهم سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ حتى فَرَّقَتْهُمْ أَيَادِيَ سَبَأ، ففي كل قطر
لهم فرق وأحزاب وزرافات تختلف في أفكارها وانتماءاتها وما ذلك إلا من شؤم الشبهة وعارها.
والأصل عند السلف في هذه المواطن اعتبار المجموع لا الجميع، في الفرد والجماعة، فمن كثرت حسناته على سيئاته فهو الحسن،
ومن كان في مجموع أمره على السنة وندر أو قل ابتداعه فهو على أصل السنة ولا يوافق بل ينصح أو يُنكر على بدعته بحسبها،
وكذا الجماعة متى كان مجموع أمرها وحالها على الجادة والخير والسنة فتنسب إلى أهل الخير والسنة ولا تُنَابَذُ مُنَابَذَة الفِرَقِ النَّارِيَّة
المبتدعة، وإن كان في تلك الجماعات الخيّرة بدعة أو بعض شر، وبمثل هذا تزول كثير من الشبهات التي تعرض للمسلم،
فمن ذا الذي سَلِمَ من الخطأ، بل مَنْ سَلِمَ من الابتداع أو الزلل؟ وهل كلما أخطأ عالم أو داعية وإن عظم خطؤه أو تمادى زلَلُه أسقطناه
وأقصيناه؟!
والعجيب أن القوم ما فتئوا يرجّحون ويقررون جواز صدور الصغيرة مع عدم الإصرار عليها من الأنبياء ولكن لسان حالهم
استعظام صدور ما هو أقل من الصغيرة من أحد من شيوخهم، ومنهم من يجعل خطأ شيخه صوابا ويلتمس له المخارج والأعذار
لئلا يسقط شيخُه وإمامه، وليست هذه من السلفية في شيء .
إن نصوص القرآن والسنة كلها تنادي على هذا المبدأ في الحكم على الأفراد والجماعات، فهو ميزان الله وقِسْطَاسُه المستقيم
الذين أمرنا أنْ نَزِنَ به، وأهل الجنة يدخلون الجنة لرجحان حسناتهم وإن كانت لهم سيئات، بل معتقد أهل السنة أنه يدخلون
الجنة إن رجحت حسناتهم على سيئاتهم بحسنة واحدة، فأين طاشت تلك السيئات إذا وذهبت؟
وميزان العدل أقوم سبيل للبعد عن الشبهات والنجاة منها، وهذا شيخ الإسلام يعلمنا طريقة السلف في عدم الاشتباه والحيرة
عند الحكم على الرجال، فأحلامهم تزن الجبال رَزَانَةً، فانظر كيف أغلظ أحمد على المعتزلة في فتنة خلق القرآن لكنه أطاع الواثق
والمعتصم حين منعه من التحديث، بل كان يرى طاعته في المنشط والمكره وما شدد النكير واستقصى في محاربة الجهمية والمعتزلة
إلا بعد أن عَزَّتْ دَوْلَة السُّنَّة في عهد المتوكل، ذلك أن ابن أبي دؤاد كان مطاعا في دولة الواثق والمعتصم، وكان يدير شئون الممالك
من منصب رئيس القضاة، وكان مسموع الكلمة جدا عند المعتصم حتى إنه حكّمه في فتنة الإدفنش التي كادت تعصف بملك المسلمين،
وانظر كيف كان يمتدح شيخ الإسلام ابن تيمية جهودَ المعتزلة والجهمية في ردودهم على الدهرية والملاحدة بل كان يمتدح جهود
الأشاعرة في ردودهم على المعتزلة وأفراخ الفلاسفة وما منعه هذا من أن يغلظ النكير على كل أولئك في وقته وحينه
إذا اقتضى الأمر وتناسب مع الحال، وكان يعتبر الأشاعرة من المثبتة للصفات وكان يسميهم الصفاتية أحيانا وذلك في مقابل
المعتزلة والجهمية، وهذا من العدل والعقل والحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
ولعلك أخي القارئ تتساءل:إلامَ يرمي هذا الكاتب ؟ ومن يقصد بأدعياء المنهج ؟ وأجيبك بما تَسكن معه نفسُك،
فلن أتركك للتخمين والرجم بالغيب، فإنما قصدتُ بأدعياء المنهج كل من نسب إليه ما ليس منه، ومن ادعى فيه ما ليس له،
ويدخل فيهم من قصر المنهج السلفي في باب دون باب من أبواب الشريعة، وجعل السلفية محصورة في جزء من الشريعة لا يتجاوزها،
فكل أولئك على دِعوة ثبت بالقطع بهتانها وزورها