الوصفة السحرية للسعادة النفسية
الوصفة السحرية للسعادة النفسية
علي بن عمر بادحدح
في النفوس
ضيق، وفي الصدور حرج، وفي المعاملة غلظة، وفي الألفاظ شدة، وكثيرةٌ هي
الصور التي تجعل بين الناس ما نسميه اليوم الحياة الصعبة التي لا تكاد
تخلص فيها الابتسامة إلى الشفاه، ولا تدخل السعادة إلى القلوب، ولا يحل
اللطف والأنس بين الناس في المعاملة.
كم هي الصلات منقطعة؟ وكم
هي العلاقات متوترة؟ وكم هي النفوس منقبضة؟ وكم نحن في حاجة إلى ما يرطب
القلوب وينديها وإلى ما يطيب النفوس ويزكيها؟!.
إلى ما يعيد البسمة إلى
شفاهنا، والكلمات الطيبة الحسنة لتدرج مرة أخرى على ألسنتنا، كم نحن في
حاجة أن تظللنا في حياتنا في بيوتنا في معاملنا ومدارسنا في أسواقنا
ومتاجرنا ومصانعنا، أن تضلنا ظلال المحبة الوارثة، والأخوة الصادقة،
والمعاملة الحسنة، أحسب أننا كأنما يعيش بعضنا أو يمكن أن نصف أحوالاً
كثيرة من أحوالنا، كالصحراء الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، لا يجد
المرء فيها شيئاً يقيه من حر الشمس ولا من ضراوة العيش، لعلي في هذه
الكلمات بالغت شيئاً قليلاً، غير أني متأكد أن الجميع يلمس حصول هذا
الأمر، ومن هنا فحديثنا عن وصفة سحرية للسعادة النفسية، نغير بها هذا
الكدر، وذلك الضيق، ولعلنا ونحن نتحدث عن هذا نفيء دائماً وأبداً إلى ظلال
القرآن والسنة إلى الدستور الرباني والهدي النبوي، نحن نرى كم هي الحياة
ضيقةٌ في زمانها مهما امتد العمر ستين أو سبعين عاماً، فإن أيامه تطوى، وإن
أعوامه تتوالى، فكيف تكون هذه الحياة على هذا النحو من قسوتها وشدتها
وذهاب طيبها وحلاوتها، ثم ينقلب المرء من بعد إما إلى خير بما قدم من خير،
وإما إلى غير ذلك نسأل الله - عز وجل – السلامة: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97] ذلك هو المقصد الذي نبحث عنه.
سماحة نحتاج إليها يضرب
لنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً فيقول: ((رحم الله رجلاً
سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى))(1)، وهذا يدلنا على سمت متصل بمعنى
أن هذه السماحة وهي لطف المعاملة وحسن المطالبة ولين الجانب أنه مضطرد في
كل الأحوال إذا باع أو إذا اشترى أو إذا اقتضى بل إن ذلك واضح فيما رواه
أحمد في مسنده من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كان رجلٌ سمحاً بائعاً ومبتاعاً وقاضياً
ومقتضياً فدخل الجنة)) (2).
إن حسن المعاملة بهذه
السماحة عربون من عرابين الجنة ليس الإيمان والعبادة الذاتية وحدها، بل
مثل هذه المعاملة كما أخبرنا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - وهو يذكر
لنا المقامات الرفيعة والعالية في الجنة بصحبته ورفقته فيقول: ((ألا
أخبركم إلا أحبكم إلي وأقربكم مني مجالساً يوم القيامة قالوا بلى يا رسول
الله، قال: أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون))(3).
أعاود هذا الحديث وقد كنت
تحدث ربما عن بعض معانيه لأني ألمس كل يوم هذه المشكلات التي تعج بها
البيوت خلافاً ونزاعاً وشقاقاً والتي تمتلك بها المحاكم مقاضاة وخصومة
ومباينة ومفارقة وتعج بها السجون أيضاً بما يكون من امتناع من سماحة
ومسامحة وكلكم يعرف خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: ((عن رجل
يداين الناس ويقرضهم فإذا حان الأجل ولم يستطيعوا كان فيه من السماحة ومن
الإعفاء أو الإرجاء ما عنده فلما سامح الناس سامحه الله - عز وجل - يوم
القيامة وكان ذلك من أسباب دخول الجنة))(4).
إن رجل ينحي غصن شجرة عن
الطريق ليهدي إلى الناس إحساناً يكتب الله له بذلك أجراً ويدخله الجنة إن
النفوس إذا تعودت على أن لا تشح ولا تنقبض عندما تعطي الناس ولو من بسط
وجهها ولو من ابتسامة ثغرها ولو من حسن معاملتها ليس بالضرورة دائماً من
مالها وبذلها وعطائها.
تأملوا هذا الأثر عندما
نرسم صورة يرويها الحسن بن علي عن خاله في وصفه للنبي - صلى الله عليه
وسلم - في حديث طويل عند الترمذي في شمائله وجاء فيه وصف لمجلس النبي -
صلى الله عليه وسلم - وطبيعة معاملته فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكرٍ يذكر الله فيطمئن قلبه وينشرح صدره
ولا يلغو لسانه ولا يزيغ بصره لأن ذكر الله - عز وجل - معه في كل آن وحين
كان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكره وإذا انتهى إلى قوم جلس إلى حيث ينتهي
به المجلس ويأمر بذلك تواضعٌ ولينٌ وحسن أدبٍ وعدم إحراج للناس ثم يعطي
كل جلسائه بنصيبه ويحسب جليسه أنه لا أحد أكرم عليه منه كم في هذا الخلق
من تعب ولا نصب أن تعطي الناس من وجهك أن تلتفت إليهم أن تشعرهم باهتمامك
بهم كان كل جليس من جلسائه يأخذ نصيبه ويظن أنه ليس هناك أكرم منه عليه
لشدة ما كان يلتفت إليه ويعتني به كم نحن في حاجة إلى هذا بدلاً من
أعراضنا أو إغضائنا أو عدم سلامنا الذي يظن به الناس أننا متكبرون وقد
نكون كذلك أو لا نكون وهكذا يمضي في الوصف فيقول في وصف مجلس النبي - صلى
الله عليه وسلم -: "ما فاوضه أحد في حاجة إلى صابره حتى يكون هو المنصرف
فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء".
كم ستكون الحياة جميلة لو
أننا طبقنا مثل هذا النموذج ألسنة رطبة بالذكر ووجوه مشرقة بالابتسامة
ومعاملة رطبة ندية لكل حسن من القول وطيب من الفعل وعطاء من النفس والقلب
انظروا إلى الانعكاس والبصمات التي وضعتها هذه القدوة المثلى في حياة
الأصحاب رضوان الله عليهم هذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قد قدم
النماذج ففي مسند الإمام أحمد من حديث كعب ابن مالك وهو من الصحابة يصف
صحابياً آخر فيقول: "كان معاذ ابن جبل شاباً جميلاً سمحاً من خير شباب
قومه لا يسأل شيئاً إلا أعطاه حتى أدين بين الأغلق ماله، وفي رواية أخرى:
لم يكن يمسك شيئاً فلن يزل يداين الناس حتى أغرق ماله كله الدين" رواه
الحاكم في مستدركه وصححه.
كم نحن كذلك اليوم
مفتقرون إلى مثل هذه المعاملة في المداينة أو في الإقراض أو في المسامحة
أو في الإنظار وإن كان ذو عصبة فنظرة إلى ميسرة لماذا لم يعد في نفوسنا
مزيد من عطاء قليل تترطب به تلك المعاملات وتحسم به الحياة.
سأل النبي - صلى الله
عليه وسلم - رجلٌ فقال له: أي العمل أفضل؟. فأجابه النبي - صلى الله عليه
وسلم - بقوله: ((الإيمان بالله والتصديق به والجهاد في سبيله))، فقال له
يا رسول الله: أو شيءٌ أهون من ذلك عمل فاضل أقل من هذا فقد لا أقدر عليه،
فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((السماحة والصبر)) (5).
أن تكون سمحاً مع الناس
أن تصبر عليهم أن تعفو عنهم أن تغض الطرف عن أخطائهم أن لا تتبع مساؤهم أن
لا تجرحهم بكلمات لسانك أن لا تضايقهم بنظرات عينيك هل هذا فيه صعوبة.
أيها الإخوة: لقد تكدرت حياتنا يوم ضاقت أخلاقنا
لعمر أبي كما عرف المعلا *** كريما وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت *** أسحر مدها رعي الهشيم
ذاقت الأخلاق حتى ذاقت علينا الدنيا بما رحبت.
ومن السماحة العطاء وما
أدراك ما العطاء في كل شيء ومنه عطاء المال وعطاء البذل والمساعدة بالجهد
وعطاء المعاونة بالشفاعة الحسنة: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها)
(6) أن تقول وتسعى لإنسان بكلمة حق وخير وبتوصية ليس فيها ظلم ولا ظ تؤجر
وتكتب لك خطواتك وتغرس في قلب أخيك محبة ومودة وتعيش في الحياة سرور وبهجة
هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه رجلٌ فيسأله يعني يطلب منه
في الرواية أن الرسول أعطاه غنم بين جبلين هل تعرفون ما معنى ذلك أنه لم
يكن قد أحصى ولا عد ولا ميز ولا حصر فأعطاه غنم بين جبلين فرجع الرجل إلى
قومه، وقال: (اتبعوا محمداً فإنه يعطي عطاء لا يخشى الفاقة)) يعطي عطاء
كما كان يوصي بلال أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالا كم هي الدنيا
لماذا تضيق نفوسنا وتشح وتنقبض أيدينا ولا تنبسط ما الذي نريده أن نكوم
هذه الأموال ونضاعفها ماذا سيكون حالها ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت
وما لبست فأبليت وما تخلف ورائك فتحاسب عليه كل ذلك نعرفه لكن النفوس قد
تعلقت بالدنيا وإلى حد كبير غرقت في شهواتها وانبهربت ببهرتها فلم تعد
سمحة بذلك العطاء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الحديث
الصحيح: ((لا يسأل عن الإسلام شيئاً إلا أعطاه)) فجاء رجل فسأله شيئاً
فأعطاه غنماً بين جبلين (7) كما هي الرواة الأخرى.
كان رجل يتقاضى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليه ما أخذ من دين، فقال: أعطوه، فقالوا: يا
رسول الله ما نجد مثل سنه كان جملاً، وليس عندهم مثله بل عنده أكبر منه،
وبالتالي أغلى منه ثمناً، فقال: أعطوه، فإن أحسنكم أحسنكم قضاءً؟ أليس ذلك
أيضاً دليلاً على هذه السماحة النفسية التي تغرس تلك المعاني من المحبة
والمودة والأخوة في نفوسنا، كما كان يصنع رسولنا - صلى الله عليه وسلم -
وقصة حكم ابن سيزال واضحة، جاء إلى النبي فسأله فأعطاه - صلى الله عليه
وسلم - ثم جاء ثانية فسأله فأعطاه ثم جاء ثالثةً فسأله فأعطاه ثم قال:
((يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن
أخذه باستشراف نفس لن يبارك له فيه واليد العليا خيراً من اليد السفلى
فقال حكم: والله لا أرزأ أحدٌ بعدك شيئاً يا رسول الله حتى أفارق
الدنيا))(8)، فلم يسأل أحداً بعده علم القناعة بعد أن أعطاه صورة السماحة
لو فطن ذلك بيننا لما وجدنا ذلك الذي نراه اليوم من اللهث والتكالب على
الدنيا سواء كان سؤال أو انتحالاً أو تحايلاً أو اختلاساً أو غير ذلك؛ لأن
النفوس إذا سمحت فإنها يومئذ تشيع كل ذلك في القلوب فلا تعود متعلقة بهذه
الدنيا وما فيها من ذلك المال وغير المال من بهرجها وزينتها وإذا مضينا
فإننا وجدنا عكس ذلك أيضاً فيما يأتينا به التحذير وما ينبها عليه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبرنا عن أول ثلاثة يدخلون الجنة وعن
أول ثلاثة يدخلون النار أما أول ثلاثة يدخلون الجنة، فقد قال فيهم الرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في وصفه الصفات الطيبة التي ليست هنا متعلقة
بالعبادات بكثرة الصلاة أو بدوام الصوم بل كانت متعلقة بأخلاق وسمات في
التعامل السمح الطيب، فقال: ((الشهيد وعبد مملوك أعطى حق ربه ونصح لسيده،
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في الثالث وعفيفٌ متعفف ذو عيال)) (9).
والمقابل أول ثلاثة
يدخلون النار أميرٌ مسلط وذو ثروة من مال لا يعطي حق ماله وفقيرٌ فخور،
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذي لا يكون له يوم القيامة شرفٌ
عظيم ومنة كبيرة حيث يحرم من أعظم عطاء جزيل من الثلاثة الذين لا يكلمهم
الله يوم القيامة المنان الذي لا يعطي عطاءً إلا منه لماذا؟ لأن نفسه ليست
سمحة فإذا أعطى وجد أنه قد تصدق أو فعل شيئاً خارق للعادة فزاده مناً أو
ألحقه بأذى؛ لأن العطاء ليس هو عطاء المال وإنما هو عطاء النفوس والصدور
والقلوب التي فيها السماحة وفيها حب الخير للناس وفيها حب الخير لنفسها من
جهتين من جهة الأجر والثواب المنتظر عند الله - عز وجل -، ومن جهة
السعادة والسرور الغامر الذي يدخل إليها عندما تفرج هماً أو تنفساً كرباً
أو ترسم ابتسامة أو تعين على حق أو تصنع شيئاً يحتاج إليه الناس كم نحن في
حاجة إلى هذه الثقافة ثقافة السماحة والعطاء للناس ليس بالضرورة كما قلت
من مالهم، بل من فكرك، ومن وقتك، ومن ابتسامة ثغرك، ومن أمور كثيرة سهلة
يسيرة عليك، اليوم نلتقي سيكون أكثر شيء يمكن أن يكون بيننا السلام فقط ثم
لا يدور كلام ولا يكون هناك سؤال، ولا يكون بعد ذلك تفقد، ولا يكون بعد
ذلك وأثر ذلك مبادرة تفعل شيئاً وتقدم خيراً، ولذا نقول: إن هذا أمرٌ مهم
ينبغي أن نجتهد فيه؛ لأن المنتفع به هو فاعله أولاً إن الذي ذكرته اليوم
في مقدمة حديثي في هذه الحياة المتوترة المتشنجة هو الذي يكدر حياتنا كيف
نغييره: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميد).
لا تسمع لمن يقول لك رد
الصاع صاعين لا تستبد لنزعة الغضب في نفسك وتذكر: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37] كيف سمح النبي وغفر وعفا لمن ناوؤه وحاربوه
وأذوه وقصدوا قتله، وقد أشرت إلى المثل العظيم الفريد في ذلك في يوم أحد
والدم يسيل من وجهه - عليه الصلاة والسلام - والسيوف تريد أن تنهي حياته
وهو يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))(10)، كيف نتعود أن نشيع
هذه السماحة بكل ما فيها من عفو ومن عطاء ومن بذل ومن تبسم ومن إعانة ومن
تفقد ومن كلمة طيبة، بل ومن نظرة حانية لكي تعود حياتنا طيبة: (وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ
بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53] لماذا فقدنا الكلمات الطيبة والرسول يقول:
((والكلمة الطيبة صدقة)) هذه معان لابد لنا منها روى ابن مسعود عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم
بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين
إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم حتى
يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، فسئل قال: غشمه وظلمه
ولا يكسب عبدٌ مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه)) أين هذه البركة
نلتمسها ننتظرها والأموال فيها كثيرٌ من الشبهات والمحرمات ونحن متكالبون
عليها ومتسارعون ومتنافسون فيها ومتخاصمون لأجلها فيحصل حينئذ ما يحصل من
هذه الأمور العظيمة حتى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تتمة حديثه
عندما قال: ((ويبارك له فيه)) قال: ولا يفضل منه، أي بعد وفاته خلف ظهره
إلا كان ساده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء
بالحسن" - سبحانه - الله كيف جعل الإسلام بذل المال لغير المسلمين لتأليف
قلوبهم ونحن قد نظن به لإخواننا وذوي قرابتنا والمحتاجين ممن نعرف أحوالهم
ثم نريد بعد ذلك أن تكون قلوبهم محبة لنا وتكون نفوسهم مقبلة علينا هلا
ينبغي أن نشيع ذلك علا الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل في ذلك خيراً
ومحبةً ومودة وسعادة نفسية دائمة، فإن هناك فرق بين السعادة واللذة فاللذة
متعة قصيرة بحسب حالها قد تكون في كرب فتأكل طعام تستلذه لكنه لا يكون
سعادة قلب حاضرة في كل وقت دائمة في كل ظرف تفيض عليك وعلى من حولك خيراً
وسماحة وبراً في كل معاملة أسأل الله - عز وجل - أن يسمح بنفوسنا فتكون
سمحة ونسأله - عز وجل - أن يجعل قلوبنا محبة للخير للآخرين وأن يجعل في
حياتنا كل ما يجعلها طيبة سعيدة هنية.
الخطبة الثانية
أوصيكم ونفسي الخاطئة
بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى
الله السماحة واللطف في معاملة الخلق والبذل والعطاء لذوي الحاجات منهم
نكسب بذلك ود قلوبهم، وقرب نفوسهم، ونؤلف بين صفوفنا ونوحد بينها، ونمد
الجسور ونربط الصفوف، ونعيد اللحمة، ونرسم البسمة، ونغرس السعادة بأمور هي
من صلب ديننا، ليست شريعتنا مقتصرة على الإيمان، ولا على كثرة العبادات،
بل جاءت بكل جوانب السعادة في هذه الحياة، وجاءت بأدق التفاصيل، فتصور كيف
جاءت التفاصيل: ((لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)) لا تتكلم
أنت وثان والثالث إلى جواركما فيحزنه ذلك، هل رأيتم رفعة في مراعاة
المشاعر أعظم من هذا؟ هل رأيتم سمواً في المعاملة ومراعاة النفسيات أكثر
من هذا؟ وهذا في صلب ديننا، بل يجعل الشراكة مبنية على حبنا في النفس،
وهذا المثل الذي سأضربه، ولعلي أختم به مقياساً مهماً يقول النبي - صلى
الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((الخازن المسلم الذي ينفذ)) أو قال
أحسبه ((يعطي ما أمر به طيباً به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد
المتصدقين)) رواه البخاري.
إذا كنت صاحب مال وأمرت
المحاسب أن يعطي فلاناً ففرح ذلك وبش في وجهه وأعطاه الذي أمرت به ونفسه
طيبة راضية فهو شريك في الأجر، وهو أحد المتصدقين، لماذا؟ لأنه أكمل
المهمة فقدمها، وبعض الناس -والعياذ بالله- مغلاق لكل خير، مفتاح لكل شر،
قد يسلم ذلك ولكن يقول: لا أعلم لما أعطاك، وفي كل مرة يعطيك، وغيرك خير
منك وأحق، فيفسد -والعياذ بالله- عطية المعطي، وبعض الناس حتى وإن كان
العطاء من غيره تضيق نفسه؛ لأن نفسه ليست متعودة ولا متربية على هذا
العطاء، انظروا إلى هذه الحساسيات الشفافية الراقية التي يصف فيها الإسلام
ورسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - تلك الأفعال الدقيقة، والمشاعر
الرقيقة، ليعلمنا كيف نحسن ذلك، وكيف ننتبه إلى ذلك، وكيف نؤدي سلوكنا في
الحياة على النهج القرآن والنهج النبوي، ربما عاودني هذا الحديث مرة أخرى؛
لأن المشكلات تلمسونها وقد يلمسها بعض من يتصدون للناس كالإمامة
والخطابة، مرت بي حوادث في اليومين الماضية كالشحناء وصراع بعضها زوجية في
داخل البيوت، وبعضها إشكاليات بين الناس في الحسابات والأموال، وبعضها
أناس ربما هم بيننا دخلوا في أمور وسجنوا، ولم يشعر بهم أحد ولم يتفقدهم
أحد كم نحن بحاجة إلى أن نراجع أنفسنا، وإلا ستصبح حياتنا جحيم لا يطاق
ناراً دائمة السخونة، ليس فيها ظلال وارفة، ولا نسمات عليلة، قد نصبح من
بعد حين كأننا نحن كحال غير المسلمين الذين محور حياتهم وحده هو الدنيا،
وما فيها من متع مالية وشهوانية وغيرها، فلا يذوقون إلا لذة عابرة، ولا
تخلص إلى نفوسهم سعادة غامرة، من أراد المحبة القلبية والسعادة النفسية
فليلج بها على غيره فستأتيه طواعية وستسكن نفسه وتطمئن في قلبه.
أسأل الله - عز وجل - أن يرزق قلوبنا السعادة ونفوسنا السماحة وألفاظنا حسن القول وأعمالنا صلاح العمل.
نسألك اللهم أن تهذب
نفوسنا، وتحسن أقوالنا، وتصلح أعمالنا، وتخلص نياتنا، وتطهر قلوبنا، وتزكي
نفوسنا، نسألك اللهم أن تشيع المحبة والمودة فيما بيننا.
__________
الهوامش
(1) صحيح البخاري: (ج2/ ص730).
(2) مسند أحمد بن حنبل: (ج1/ص58).
(3) مصنف عبد الرزاق: (ج11/ص144).
(4) انظر: صحيح البخاري: (ج2/ص731).
(5) صحيح البخاري: (ج5/ص2242).
(6) مسند أحمد بن حنبل: (ج5/ص318).
(7) صحيح مسلم: (ج4/ص1806).
(8) صحيح البخاري: (ج2/ص535).
(9) مسند أحمد بن حنبل: (ج2/ص425).
(10) صحيح البخاري: (ج3/ص1282)