أفحسبتم أنما خلقنـاكم عبثا
أفحسبتم أنما خلقنـاكم عبثا
أمير بن محمد المدري
الحمد لله
ذي الجلال الأكبر، عز في علاه فغلب وقهر، أحصى قطر المطر، وأوراق الشجر،
وما في الأرحام من أنثى وذكر، خالق الخلق على أحسن الصور، ورازقهم على
قدر، ومميتهم على صغر وشباب وكبر.
أحمده حمدا يوافي إنعامه، ويكافئ مزيد كرمه الأوفر.
وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، شهادة من أناب وأبصر، وراقب ربه واستغفر، وأشهد أن
سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الطاهر المطهّر،
المختار من فهر ومضر.
صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه وذويه، ما أقبل ليل وأدبر، وأضاء صبح وأسفر، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
((يا أَيُّهَا الَّذِينَ
ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) آل عمران: 102.
((يَـأَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وَاتَّقُواْ اللَّهَ الذي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) النساء: 1.
يقول - سبحانه -:
((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا
لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـاهَ
إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون: 115-116.
ويقول - سبحانه -:
((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) الملك: 1-2.
وأخرج الإمام الترمذي
ومسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بادروا
بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي
كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
إخوة الإسلام وأحباب
الحبيب المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم -: ما الهدف والغاية من
وجودنا؟ لم خلقنا - يا عباد الله - ولم أوجدنا في هذه الحياة؟! هل خلقنا
لنأكل ونشرب ونلبس! أم وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث! أم الهدف
والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها!!
لا والله - يا عباد الله
- ما خلقنا في هذه الدنيا عبثاً ولم نترك فيها سدى. ((أَيَحْسَبُ
الإِنسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ
يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى
أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى)) القيامة: 36-40.
لقد خلقنا والله لمهمة
عظيمة وغاية جليلة، تبرأت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها
وأشفقن منها وحملها الإنسان، لقد خلقنا لتوحيد الله الواحد الأحد وإفراده
بالعبادة - سبحانه وتعالى -، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه
من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا
أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ)) الذاريات: 56-58.
أحد السلف يمر على صبية
صغار يلعبون، وبينهم طفل صغير يبكي، فيظن الرجل أن هذا الطفل يبكي لأنه
ليس له لعبة كما لهم لعب، فقال له: يا بني أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال:
ما لهذا أبكي يا قليل العقل، إنما أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له،
أولم يسمعوا قول الله وهو يوبخ أهل النار: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ
فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون: 115-116 فدهش الرجل من إجابة هذا الطفل
الصغير وقال له: يا بني إنك لذو لب لذو عقل، وإن كنت صغيراً فعظني، فقال
له الطفل بيتاً واحداً:
فما الدنيا بباقية لحي *** وما حيٌ على الدنيا بباق
فرضي الله عنكم أيها
السلف يوم علمتم أن هذه الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة
الله، ويوم علمتم أن هذه الحياة ليست حياة أكل وشرب وجماع وإنما حياة
عبودية وتذلل وطاعة لله الواحد الأحد، والله - يا عباد الله - إننا لفي
غفلة عما خلقنا لأجله، وإن قلوبنا في قسوة لا يعلم بها إلا الله، وإننا
بحاجة للتفكير بهذه القضية الكبرى في كل أسبوع بل في كل يوم وفي كل لحظة،
فحاجتنا إليها أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشراب والهواء، وأعظم من
حاجتنا إلى النوم والجماع واللباس.
فــزاد الـروح أرواح المعانـي*** وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكـره فـي الأرض دأبـاً ***لتذكر في السماء إذا ذكـرت
يا متعب الجسم كم تشقى لراحتـه ***أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها ***فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخـراب الـدار مجتهداً*** بالله هل لخراب الدار عمران
معاشر المسلمين: الله -
سبحانه وتعالى - غني عنا وعن عبادتنا وطاعتنا، لا تنفعه طاعتنا ولا تضره
معصيتنا، بل نحن بحاجة إلى الله ونحن الفقراء إلى الله: ((ياأَيُّهَا
النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ
الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) فاطر: 15-17 ((وَإِن تَتَوَلَّوْاْ
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـالَكُم))
محمد: 38.
((يا عبادي إنكم لن
تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في
ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب
رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم
وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص
ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي
أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد
غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وفي الأثر الإلهي يقول
رب العزة: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية.
وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي
وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينقلب إلى ما أكره إلا انتقلت له
مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبدٌ من عبيدي على ما أكره
فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب)).
فنحن يا عباد الله بحاجة
إلى الله، ونحن مفتقرون إلى الله فلماذا نعصي الله؟! ولماذا لا نستشعر
عبودية الله؟! ولماذا لا نستشعر حاجتنا لله وافتقارنا إلى الله؟!.
فليتك تعفـو والحيـاة مريـرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامـر *** وبيني وبين العالمين خـرابٌ
إن صح منك الود يا غاية المنى *** فكل الذي فوق التراب تراب
والله إن الإنسان إذا لم
يرتبط بالله الواحد الديان فهو كالبهيمة بل هو أضل لأن الله كرمه بالفعل
وشرفه بالفكر وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً.
فيا أيها الإنسان ما غرك
بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟ وما الذي غرك حتى تجاوزت حدود
الله؟ وما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟! من أنت يا أيها المسكين
الحقير الذليل الفقير؟!! أما أنت الذي تؤذيك وتدميك البقة؟! أما أنت الذي
تنتنك العرقة؟! أما أنت الذي تميتك الشرقة؟! أما أنت الذي تحمل في جوفك
العذرة؟! أما أنت الذي تتحول في قبرك إلى جيفة قذرة؟! من أنت يا أيها
المسكين؟!! أما كنت نطفة؟! أما كنت ماءً؟! أما كنت في عالم العدم؟! قبل
سنوات لم تكن شيئاً مذكوراً، وبعد سنوات أيضاً لن تكون شيئاً مذكوراً:
((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)) الإنسان: 2.
مسكين هذا الإنسان، حقير
هذا الإنسان، أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على
الأرض تكبر وتجبر، ونسي الله الواحد. بصق الرسول - صلى الله عليه وسلم -
يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله - عز وجل -: ابن آدم
أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين
وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق!! وأنى
أوان الصدقة)).
فيا أيها الإنسان تفكر
في نفسك، تفكر في ضعفك وعجزك وافتقارك، وتفكر في عظمة الله وفي ملكوت
الله، انظر إلى السماء بلا عمد، انظر إلى الأرض في أحسن مدد، انظر من
أجرى الهواء ومن سير الماء ومن جعل الطيور تناظم بالنغمات، ومن جعل الرياح
غاديات رائحات، من فجر النسمات، من خلقك في أحسن تقويم؟!!.
أهذا يعصى، أهذا يكفر،
أهذا يجحد؟!! والله إن السماء بما فيها من ملكوت لا تعصي الله، وإن الأرض
لا تقوى على أي معصية، وإن الجبال الرواسي الشامخات لا تعصي الله، وإن
الشمس بحرارتها وقوتها لا تعصي، وإن القمر بجماله لا يعصي الله، فلا إله
إلا الله كيف استطاع هذا الإنسان الضعيف الحقير أن يعصي ربه وخالقه
ومولاه؟! كيف تجرأ هذا الإنسان أن يعصي جبار السموات والأرض الذي لا يعذب
عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد؟!
يوم تنصب الموازين فيقول
الله: يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: ما بعث النار؟ فيقول
الله: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين، عندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله
شديد.
أما والله لو علم الأنــام *** لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا ليـوم لو رأتـه ***عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
ممات ثم حشـر ثم نشـر ***وتوبيـخ وأهـوالٌ عظـام
ليوم الحشر قد عملت أناس ***فصلوا من مخافته وصـاموا
ونحن إذا أمـرنا أو نهينـا ***كأهـل الكهف أيقـاظ نيـام
يا عبد الله، والله لن يبقى معك إلا ما قدمت من أعمال صالحة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا
فـ((يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى
الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)) إبراهيم: 27.
وأما في القبر فسوف يرجع
أهلك ومالك ولن يبقى معك إلا عملك، فإن كان عملك صالحاً أتاك رجل حسن
الوجه حسن الثياب حسن الريح، فتسأله: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالخير،
فيقول: أنا عملك الصالح، ولا أفارقك، وإن كان عملك خبيثاً فسوف يأتيك رجل
قبيح الوجه قبيح الثياب قبيح الريح، فتقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي
بالشر، فيقول لك: أنا عملك السيئ ولا أفارقك.
وليت أن الأمر ينتهي عند
هذا الحد بل سوف تقف عارياً حافياً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة،
يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق على قدر ميل منهم، ويكون الناس في ذلك
اليوم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ عرقه
ركبتيه، ومنهم من يبلغ عرقه حقويه، ومنهم من يبلغ حنجرته، ومنهم من
يلجمه العرق إلجاماً، فتفكر يا عبد الله يوم تقف بين يدي الله ليس بينك
وبينه ترجمان، فتتلفت يميناً فلا تجد إلا ما قدمت، وتتلفت شمالاً فلا ترى
إلا ما قدمت، فتتلفت أمامك فلا ترى إلا النار، وقد غضب الرب غضباً لم
يغضب قبله ولا بعده قط، فعجباً لك يا ابن آدم كيف تجتهد وتتعب وتنصب
وتشقى من أجل خمسين أو ستين سنة في هذه الحياة الدنيا - وهذا لمن بلغ
الخمسين أو الستين - ولا تجتهد ولا تعمل من أجل يوم واحد فقط مقداره خمسين
ألف سنة، ومن أجل موقف خطير ومصير مجهول إما إلى نار وإما إلى جنة:
((مَّنْ عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لّلْعَبِيدِ)) فصلت: 46
بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب
فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا
كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به
وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد البشر، اللهم صلِّ وسلم على هذا
النبي الشافع المشفع في المحشر وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد:
عباد الله: فقد جاء رجل
إلى إبراهيم بن أدهم أحد السلف الزاهدين العابدين، هذا الرجل أسرف على
نفسه في المعاصي، فجاء إلى إبراهيم فقال له: عظني حتى لا أعود إلى معصية،
قال له إبراهيم: إن استطعت على خمس أمور فلن تعصي الله: إذا أردت أن تعصي
الله فاعصه حيث لا يراك، قال: وكيف ذاك وقد وسع علمه السموات والأرض؟
وإذا أردت أن تعصي الله فاخرج من داره، قال: وكيف ذاك وكل ما في السموات
والأرض ملك لله؟ وإذا أردت أن تعطي الله فلا تأكل من رزقه، قال: وكيف ذاك
وكل ما في السموات والأرض رزق الله؟ وإن أردت أن تعصي الله فإذا جاء ملك
الموت فقل له: أخرني إلى أجل قريب، قال: وكيف ذاك وهو القائل: ((فَإِذَا
جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَـأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ))
النحل: 61؟.
وإن أردت أن تعصي الله
فإذا جاءك زبانية جهنم ليأخذوك معهم فلا تذهب معهم، فما كاد أن يسمع إلى
هذه الخامسة حتى بكى بكاءً شديداً وعاهد الله أن لا يعود إلى معصية.
فيا عبد الله، يا من
أسرف على نفسه في المعاصي، يا من ابتعد عن الله، يا من أعرض عن الله، عد
إلى الله فهو القائل: ((قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))
الزمر: 53 وهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده
بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها وهو القائل: ((يا
ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا
ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك على ما كان
منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك
بي شيئاً لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)).
سبحان من يعفو ونهفو دائماً *** ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه *** جلاله من العطا لذي الخطا
لا يغرنك يا ابن آدم ستر
الله فإن كنت سترت هنا فتذكر الفضيحة يوم الفضائح والكربات، يوم تبيض
وجوه وتسود وجوه، تعرض لنفحات الله - يا عبد الله - ما دمت فوق الأرض قبل
أن تصير في بطن الأرض، تزود من الأعمال الصالحة ما دمت في النور قبل أن
تصير إلى ظلمة القبور، تعرض لرحمة الله وأنت تسمع المواعظ قبل أن تسمع
قرع نعال من ودعوك وأودعوك في قبرك، تذكر يا عبد الله واتعظ وأنت في
المهلة قبل النقلة، وأنت في دار العمل قبل أن تصير إلى دار الجزاء.
فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتـوبــــي
واسـتغفري لذنـوبـك الرحمـن غفــار الذنـوب
إن المنــايــا كالريــــاح عليك دائمة الهبوب
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
اللهم أصلح لنا ديننا
الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا
أخرتنا التي إليها معادنا. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ
علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا
وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على
من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. واختم لنا بخير، واجعل عواقب أمورنا
إلى خير، وتوفنا وأنت راضٍ عنا.
اللهم انصر المجاهدين
المسلمين الموحدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم آمنا في
أوطاننا ودورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. واحشرنا يوم القيامة في زمرة
نبينا ولواء حبيبنا، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئةً مرئيةً لا نظمأ
بعدها أبداً.
اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وانصرنا على من عادانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. آمين.