الحديث الثالث للدورة : بنى الإسلام على خمس
بــــسم
الله الرحمٰن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد
آدم أجمعين، الحديث الثالث من حديث الأربعين النووية، ( عن أبي عـبد الرحمن عبد الله بن عـمر بـن الخطاب- رضي الله تعالى عـنهما- قـال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- يقـول :(
بـني الإسـلام على خـمـس : شـهـادة أن لا إلـه إلا الله وأن محمد رسول
الله، وإقام الصلاة، وإيـتـاء الـزكـاة، وحـج البيت، وصـوم رمضان ) [رواه البخاري ومسلم] ) .
هذا
الحديث كما سمعنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما، هذا الحديث أخرجه البخاري
ومسلم، وهو حديث متفق عليه، وعرفنا أن الحديث المتفق عليه هو ما رواه
البخاري ومسلم عن طريق صحابي واحد، ولو اختلف اللفظ مادام أن المعنى واحد.
نلاحظ
في هذا الحديث أنه قدم الحج على صوم رمضان، وهذه إحدى الرويات، وهناك
رواية أخرى فيها تقديم صوم رمضان على الحج، وهذا التقديم يدل على دقة نقل
الصحابة رضوان الله عليهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ضير في
هذا التقديم، لأن هذين الركنين كلاهما ركنٌ من أركان الإسلام.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( بني الإسلام )،
"بني" فعلٌ ماضي مبني للمجهول، "الإسلام" والإسلام نائب فاعل، وبُني
معناها أسس، أسس الإسلام، يعني الإسلام يقوم على أسس، هذه الأسس هي الأسس
الخمسة.
( بـني الإسـلام على خـمـس )، وفي رواية أيضًا ( خمسةٍ )، والمقصود خمس دعائم أو خمس أسس، ( شـهـادة أن لا إلـه إلا الله )،
إذا قلنا "شهادةِ" هكذا بالجر، معناها من جهة الإعراب بدل من "خمسٍ"،
ويجوز أن نقول "شهادةُ" على الاستئناف، يعني "هي شهادةُ"، خبر لمبتدأ
محذوف، ( شـهـادة أن لا إلـه إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيـتـاء الـزكـاة، وحـج البيت، وصـوم رمضان ).
الشهادة
في الأصل هي التصديق، والمراد هنا في هذه الشهادة الإقرار والتصديق مع
القيام بحقها، ما الدليل على قولنا مع القيام بحقها؟ الدليل على ذلك عندما
بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن فقال (
إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فإذا جئتهم فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن
لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك...... )،
فالطاعة هنا تعني الانقياد والاستسلام مع الإقرار والقيام بمقتضاها، فلذلك
معناها هنا مع التصديق، مع الشهادة في الأصل، ومع التصديق هنا أي القيام
بحقها، وسيأتينا حديثٌ خاصٌ بذلك.
( شهادة أن لا إله إلا الله )،
"لا إله" كما قال أهل العلم، اللا نافية، تنفي جميع الآلهة، "إلا الله"،
و"إلا الله" استثنى من هذا النفي، فمعناه أن نثبت أن هناك آلهة هو الله
سبحانه وتعالى، لكن قال أهل العلم هنا أنها لا معبود بحق إلا الله، لماذا
أتينا بحقٍ هذه؟ لأنه يوجد آلهة، فليس المقصود نفي وجود الآلهة، فالآلهة
موجودة، الناس مع طول الزمان يعبدون غير الله، إذًا فالمقصود بـ "لا إله
إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
( وأن محمدًا رسول الله )،
هذا إثباتٌ لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرسلٌ من عند الله، هذا
الإثبات ماذا يعني؟ يعني عدة أمور، الأمر الأول التصديق بنبوة محمدٍ صلى
الله عليه وسلم ورسالته وأنه نبيٌّ مرسل من عند الله عزّ وجلّ، هذا واحد،
أيضًا تعني تنفيذ أوامر محمد صلى الله عليه وسلم، الأمر الثالث اجتناب ما
نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرابع التصديق بما أخبر به النبي
صلى الله عليه وسلم، الخامس أن يُعبد الله إلا بما شرع عليه الصلاة
والسلام، السادس محبته عليه الصلاة والسلام، أنت تؤمن أنه رسول الله
وتبغضه؟! هل يمكن هذا؟! لا، ولذلك قال ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت)، وفي حديث عمر قال: "والله إنك أحب إلي يا رسول الله إلا من نفسي"، قال ( لا يا عمر، حتى من نفسك )، قال: والله إنك أحب إلي حتى من نفسي، قال ( الآن يا عمر ).
إذًا
مقتضى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشهد له بذلك، فلابد أن تحبه وأن
تقدم محبته عليه الصلاة والسلام على محبة الوالد والنفس والناس أجمعين،
هذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
قال ( وإقام الصلاة )،
لماذا لم يقل "وتؤدي الصلاة"؟ لأن إقام الصلاة غير تأديتها، قد يؤديها
الإنسان لكن قد يخل بها، لكن لابد وأن تقيمها، وإقامتها بمعنى أن تقيمها
بشروطها وأركانها وواجباتها وتؤديها في وقتها، ثم ما يستطيع الإنسان من
المستحبات التي تفعل في الصلاة.
والصلاة
في الأصل هي الدعاء، وهي في الاصطلاح الشرعي المقصود هي: أقوالٌ وأفعالٌ
يُتعبد الله بها، تفتتح بالتكبير وتُختتم بالتسليم. هذه هي الصلاة، ولها
أحكام في عدد ركعاتها وأوقاتها ليس هذا مجال تفصيل.
قال ( وإيـتـاء الـزكـاة )، الإيتاء أي الإعطاء، والزكاة في الأصل هي النماء والزيادة والتطهير، "زكّى" أي نمى وطهر وزاد، ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]، يعني فلا تطهروها، وزكى الزرع إذا نمى.
والزكاة
في الاصطلاح ما هي؟ حق مخصوص في مال مخصوص، حق مخصوص الذي هو النسبة
المعلومة التي يخرجها المزكي من ماله لطائفة مخصوصة، ليس لكل الناس وإنما
للطائفة التي بينها الله سبحانه وتعالى بقوله ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .... ﴾ [التوبة: 60].
قال ( وحجُ البيت )،
الحج هو في الأصل اللغوي القصد، والحج في الاصطلاح هو قصد بيت الله الحرام
في مكة لأداء أعمالٍ مخصوصة، وبعض أهل العلم يقولون قصد مكة للطواف والسعي
والرمي والمبيت بمزدلفة ومنًى والوقوف بعرفة، لكن لما نقول أعمالٌ مخصوصة
يعني أعمال الحج، فنقول: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص، والزمن المخصوص
هو زمن أيام الحج، وحج البيت المقصود بيت الله الحرام الذي هو الكعبة.
( وصوم رمضان )،
الصوم في اللغة ما هو؟ الإمساك، والصوم في الاصطلاح هو إمساكٌ على
المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. وقلنا طلوع الفجر الثاني،
لأن هناك فجرٌ أول، والفجر الأول يُسمى فجرٌ كاذب، وهو الذي يطلع من جهة
الشرق على شكل عمود رأسي، أما الفجر الثاني الذي يسمى الفجر الصادق يخرج
على شكل أفقى، يعم الأفق من جهة الشرق، وبينهما ما يقارب الساعة، ويختلف
باختلاف طول الليل وقصره، ولكنه في الغالب في حدود ساعة زمنية، فالمقصود
هنا الفجر الصادق، الفجر الثاني الذي هو في االأفق على شكل أفقي، لذلك من
طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وغروب الشمس يكون ماذا؟ بغياب القرص أم
بغياب الشفق؟ غياب قرص الشمس، وليس غياب الشفق يعني الحمرة، لأن الحمرة
تأخذ وقت يختلف أيضًا من طول الليل وقصره، أحيانًأ نصف ساعة، أحيانًا ساعة
إلا ربع، أحيانًا ساعة، المهم أنه من غياب القرص في الأرض المستوية، مادام
غرب القرص عن الأنظار في الأرض المستوية فقد غابت الشمس وأفطر الصائم كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم ).
في
هذا الحديث عدة مسائل، من أهم المسائل أن هذا الدين الذي هو الإسلام له
أسس وله فروع، وأسس الإسلام هي هذه الأسس الخمسة، هذه المسألة الأولى، إذًا
الإسلام كالبناء، له أسس، هذه الأسس لا يقوم الإسلام إلا عليها، إذا اختلف
اختل جزء من إسلام هذا الإنسان، فلابد من القيام بهذه الأسس.
المسألة
الثانية أن أهم هذه الأسس وباقي الأسس يعتمد عليها هما الشهادتان، شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذه تمثل العمل القلبي الذي
يظهر أثره على الجوارح، هذا العمل القلبي لابد وأن ينطق به اللسان وأن تعمل
به الجوارح، لا تقول لا إله إلا الله وأنت تناقض لا إله إلا الله بأعمالك،
كأن تسب الله سبحانه وتعالى، أو تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه
من نواقض لا إله إلا الله، إذًا لابد مع التصديق بها النطق بها وعمل
الجوارح بمقتضاها، فهذه هي مدخل هذا الدين، لابد من هذين الشهادتين، كما
بينا أن الشهادة الأولى تمثل عبودية الله، "لا إله إلا الله" أي لا معبود
بحق إلا الله، والثانية تمثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما ينبني على
التصديق بهذه الرسالة.
بالنسبة للفجر الكاذب والصادق، ما الفجر الصادق والكاذب؟ هل آذاننا اليوم هو الفجر الكاذب أم هو الفجر الصادق؟
الفجر
الكاذب كما بيناه قبل قليل الذي يأتي في السماء من جهة الشرق على شكل
رأسي، نراه في جهة الشرق قبل أذان الفجر بساعة تقريبًا يخرج مثل العمود،
أما الفجر الصادق وهو الفجر الثاني، ويأتي بشكل أفقي، يخرج نور، لما نقول
فجر معناه نور، فيخرج على شكل نور، الفجر الأول الذي هو الفجر الكاذب لا
ينبني عليه أحكام شرعية، لا صلاة ولا صيام ولا غيرها، الفجر الصادق هو الذي
ينبني عليه الأحكام، يخرج نور أفقي يشع من جهة الشرق، هذا هو الذي ينبني
عليه أذان الفجر، وينبني عليه الإمساك في الصيام، أرجو أنه يُتضح إن شاء
الله.
في
هذا الحديث من المسائل عظم أمر الصلاة في إقامتها، فالصلاة هي عمود الدين،
ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الكفر أو الشرك لمن ترك أملا من
الدين إلا في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وفي رواية ( إن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة )،
فيدل على أهمية الصلاة، والصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة،
فإن كانت صالحة قُبل ونُظر في بقية أعماله الأخرى، وإن لم تكن صالحة رُدت
عليه ورُد عليه سائر عمله.
والصلاة
هي الفارق كما أشرت بين الإسلام وبين الكفر، لذلك يجب على المسلم أن يحرص
على هذه الصلاة، وأن يؤديها في أوقاتها، ولأهمية هذا الأداء في أوقاتها،
جاء جبريل عليه السلام ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم، صلى مرةً في أول
الوقت وصلى مرة في آخر الوقت، وجعل الوقت فيما بين الصلاة الأولى والصلاة
الثانية، وهذا يدل على أهميتها، ومما يدل على أهميتها أنها شرعت في السماء
عندما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، شُرع خمسين صلاة، حتى شفع النبي صلى
الله عليه وسلم في أمته حتى بلغت خمس صلوات في الأداء، وخمسين صلاة في
الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى، ولا نطيل في هذا، فأمر الصلاة عظيم،
وينبني عليه أمر هذا الدين، وهو عمود الإسلام، وهي الذي أول ما يُحاسب
عليه العبد، فليُتنبه إلى هذا.
الأمر
الثاني أهمية الزكاة، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام، ومهما بحث
الاقتصاديون وأصحاب الأموال وأصحاب الشئون الاجتماعية والتكافل الاجتماعي
لن يجدوا نظامًا أروع ولا أعظم ولا أجل من نظام الزكاة بالنسبة للتساوي بين
أفراد المجتمع.
كما
أن الزكاة تطهير للمال، كما هي تطهير للنفس من الشح والبخل وحب المال
والحرص عليه، هي كذلك تطهير للمال، لأن المال فيه شوائب، هذه الشوائب أتت
من معاملة مشبوهة، وأتت من معاملة غير سليمة، أو لا يدري عنها المتعامل،
فلما يخرج الزكاة يُطهر هذا المال، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم أوساخ
المال، عندما قال للحسن ( كخ كخ )، لما أخذ من تمر الصدقة، ( فإنها لا تحل لنا آل محمد، لأنها من أوساخ المال )،
فالزكاة مظهرٌ اجتماعيٌّ مهم بين الغني والفقير، يسد حاجة المجتمع ويطهر
المال ويطهر النفس، وهو شعورٌ أيضًا بتقارب المسلم مع أخيه المسلم، لما قال
النبي صلى الله عليه وسلم ( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا )، هذه من عناصر شد البنيان.
الركن
الرابع، صوم شهر رمضان، وهو شهر في السنة، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب
الشمس، لتطهر النفس، وليتراجع الإنسان من خلال طول العام ماذا عمل، لينتبه
لنفسه، ويكون هذا عبودية لله سبحانه وتعالى، وليعلم أن هناك من يصوم الدهر
كلها من الفقراء والمساكين، وبالتالي يصل بالصيام إلى تقوى الله عزّ وجلّ.
والخامس الحج إلى بيت الله الحرام، والحج يكفي أن صلى الله عليه وسلم قال ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
فهذا يدل على أهمية هذه الأركان.
والفائدة
الأخرى لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على هذه الأركان أن ليس
هناك واجبات أخرى، بل هناك واجباتٌ أخرى بينتها النصوص الأخرى، وإنما هذه
دعائم وأسس.
نكتفي بهذا القدر من هذا الحديث، ونستقبل الأسئلة.