فقه الورع
فقه الورع
لسْنا إلى
ورع الفقه بأحوجَ منا إلى فقه الورع، ويعجب بعضهم: وهل يحتاج الورع
فقهاً؟! أليس الورع ترك المشتبه، والأخذ بالأحوط والعزيمةِ، وتركُ
الرخصة؟! أليس هذا الباب يحسنه كل أحد؛ حتى العامة؟!
ويُقابَل هذا التساؤلُ
بتساؤل يرفع عنه علامات التعجب، وهو: هل الورع بشتى صوره لا يُفضي إلاّ
إلى مصلحة؟! ألا يمكن أن يفضي ترك المشتبه - عند عدم الفقه - إلى مفسدةٍ،
أو تفويتِ مصلحة تؤدي واجباً وتبرأ بها الذمة؟!
من المتقرّر بالاستقراء
أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها،
ومراعاة هذا تقتضي موازنةً بين المفاسد والمصالح، وبين المصالح عند
تعارضها، فتُراعى المصلحة الكبرى بتفويت الصغرى، وكذلك ترتكب المفسدةُ
الأدنى درءاً للمفسدة الكبرى.
وهذا الأمر يجب أن يُراعى حتى في الأخذ بالورع في المسائل المشتبهة؛ فقد يترتب على تورّع بعضهم مفسدةٌ، أو تفويتٌ لمصلحة أعظم.
ولذا قال ابن تيمية -
رحمه الله - (مجموع الفتاوى: 20/141): "ولهذا يحتاج المتديّن المتورّع إلى
علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلاّ فقد يُفسد تورّعُه
الفاسد أكثر مما يصلحه؛ كما يفعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض
وغيرهم".
كما قرر المحققون أن
الخروج من الخلاف - تورّعاً - ليس محموداً بإطلاق، يقول ابن رجب (جامع
العلوم والحكم: 1/282): "ولكنِ المحققون من العلماء من أصحابنا وغيرهم على
أنَّ هذا ليس هو على إطلاقه، فإنَّ من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصة ليس لها معارض، فاتباعُ تلك الرخصة
أولى من اجتنابها، وإنْ لم تكن تلك الرخصة بلغت بعضَ العلماء، فامتنع
منها لذلك، وهذا كمن تَيَقَّن الطهارة، وشكَّ في الحدث". ثم قال: "وهاهنا
أمر ينبغي التفطّنُ له، وهو أنَّ التدقيقَ في التوقّف عن الشبهات إنَّما
يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع،
فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء
من دقائق الشُّبَهِ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك، بل يُنكر عليه، كما قال
ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد
قتلُوا الحسين" أ. هـ.
وقال ابن تيمية - رحمه
الله - (مجموع الفتاوى: 10/512): "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير
الخيريْن، وشرّ الشرّيْن... فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة
الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع الواجبات، ويفعل المحرمات، ويظن أن
ذلك من الورع... كمن يدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو
فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد، وأخذ علم العالم
لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك سماع ذلك من الورع".
وقال في موضع آخر
(20/139): "لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من
الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلاّ في ترك الحرام، لا في أداء
الواجب، وهذا يُبتلى به كثير من المتديّنة المتورّعة: ترى أحدهم يتورّع عن
الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة; لكونه من مال ظالم أو معاملة
فاسدة، ويتورّع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور
في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه: إما عيناً، وإما كفايةً، وقد
تعينت عليه من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل".
وقال (29/279): "الورع
المشروع هو أداء الواجب، وترك المحرم، وليس هو ترك المحرم فقط.. ومن هنا
يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل، أو المال من كراهة توجب تركه،
ولا ينظرون إلى ما فيه من جهة أمرٍ يوجب فعله، مثال ذلك ما سُئل عنه أحمد:
عن رجل ترك مالاً فيه شبهة، وعليه دين، فسأله الوارث: هل يتورّع عن ذلك
المال المشتبه؟ فقال له أحمد: أتترك ذمة أبيك مرتهنة؟!... وهذا عين الفقه؛
فإن قضاء الدين واجب، والغريم حقه متعلق بالتركة، فإن لم يوف الوراث
الدين، وإلاّ فله استيفاؤه من التركة، فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة
التي تعلق بها حق الغريم، ولا يجوز أيضاً إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة".
ومن الورع المناقض لنفسه
أن يتورّع أحدهم عن الترخّص بأحد الأقوال في مسألة خلافية ويأخذ فيها
بالأحوط، ثم لا يحجزه ورعه أن يلغ باللمز والهمز في عرض مَن ترخّص بها
إفتاءً أو عملاً، فأي المسألتين أحق بالورع؟!
أرأيتم كم حاجة ورعنا إلى الفقه؟
سامي بن عبد العزيز الماجد