هؤلاء يحبهم الله عز وجل
هؤلاء يحبهم الله عز وجل
أيمن دياب
الحمدُ لله
الَّذي لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ
أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب، هَيَّأ قلوبَ أوْلِيائِهِ
للإِيْمانِ وكَتب، وسهَّلَ لهم في جانبِ طاعته كُلَّ نَصَب، فلمْ يجدوا
في سبيل خدمتِهِ أدنى تَعَب، وأشْهَدُ أن محمداً عبدهُ وَرَسُولهُ الَّذي
اصْطَفاه الله وانتَخَبَ، صلَّى الله عَلَيْهِ وعلى أصحابه الذينَ
اكْتَسَوا في الدِّيْنِ أعْلَى فَخْرٍ ومُكْتسَب، وعلى التَّابِعين لهم
بإحْسَانٍ ما أشرق النجم وغرب، وسلَّم تسليماً. وبعد:
إن محبة الله لتشترى
بالدنيا كلها، وهي أعلى من أن تحب الله، فكون الله يحبك أعلى من أن تحبه
أنت، ولهذا قال - تعالى -: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، ولم يقل: فاتبعوني، تصدقوا في
محبتكم لله مع أن الحال تقتضي هذا، ولكن قال: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل
عمران:31].
ولهذا قال بعض العلماء: "الشأن كل الشأن في أن الله يحبك لا أنك تحب الله".
كل يدعي أنه يحب الله،
لكن الشأن في الذي في السماء - عز وجل -، هل يحبك أم لا؟ إذا أحبك الله -
عز وجل -، أحبتك الملائكة في السماء، ثم يوضع لك القبول في الأرض، فيحبك
أهل الأرض، ويقبلونك، ويقبلون ما جاء منك وهذه من عاجل بشرى المؤمن.
إن مذهب أهل السنة
والجماعة إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله –صلى الله عليه
سلم- من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا
تمثيل، بل يؤمنون بأن الله - سبحانه وتعالى – (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون
الكلم عن مواضعه، متبعين في ذلك كتاب الله والسنة وما ورد عن سلف الأمة،
ثم هم ينكرون على من حرَّف صفات الله أو مثَّل الله بخلقه؛ لأن ذلك تعدٍّ
على النصوص وقول على الله بلا علم إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في
الذات، فكما أنه - عز وجل - لم يخبرنا عن كيفية ذاته فكذلك لا نعلم كيفية
صفاته لكننا نثبتها كما يليق بجلاله وعظمته.
قال نعيم بن حماد الخزاعي
- رحمه الله -: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به
نفسه فقد كفر"، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله –صلى الله عليه وسلم-
تشبيه، لذا إثبات صفة المحبة لله -وهي من الصفات الفعلية-، قد دل عليها
الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، محبة تليق به - عز وجل -، وهي محبة
حقيقية على ظاهرها؛ وليس المراد بها الثواب؛ ولا إرادة الثواب خلافاً
للأشاعرة، وغيرهم من أهل التحريف الذين يحرفون هذا المعنى العظيم إلى معنى
لا يكون بمثابته؛ فإن مجرد الإرادة ليست بشيء بالنسبة للمحبة؛ وشبهتهم:
أن المحبة إنما تكون بين شيئين متناسبين؛ وهذا التعليل باطل، ومخالف للنص،
ولإجماع السلف، ومنقوض بما ثبت بالسمع والحس من أن المحبة قد تكون بين
شيئين غير متناسبين؛ فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أُحُداً
-وهو حجر- ((جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ)).
هؤلاء يحبهم الله - عز وجل -:
أثبت الله- تبارك وتعالى -
محبته لمن اتصف من خلقه ببعض الصفات، وهذه الصفات منها ما ورد في القرآن
الكريم ومنها ما ورد في السنة المطهرة.
- أولاً من القرآن:
- المُحْسِنِونَ، قال - تعالى -: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [البقرة: 195].
الإحسان قد يكون واجباً،
وقد يكون مستحباً مندوباً إليه، فما كان يتوقف عليه أداء الواجب، فهو
واجب، وما كان زائداً على ذلك فهو مستحب.
والإحسان يكون في عبادة
الله، ويكون في معاملة الخلق، فالإحسان في عبادة الله فسره النبي - صلى
الله عليه وسلم - حين سأله جبريل فقال: مَا الإِحْسَانُ؟ قال: ((أَنْ
تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)) وهذا أكمل من الذي بعده، لأن الذي
يعبد الله كأنه يراه يعبده عبادة طلب ورغبة، ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ))، أي فإن لم تصل إلى هذه الحال، فاعلم أنه
يراك، والذي يعبد الله على هذه المرتبة يعبده عبادة خوف ورهب، لأنه يخاف
ممن يراه.
وأما الإحسان بالنسبة لمعاملة الخلق، فقيل في تفسيره: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
بذل الندى: أي المعروف، سواءً كان مالياً أم بدنياً أم معنوياً.
كف الأذى: أن لا تؤذي الناس بقولك ولا بفعلك.
وطلاقة الوجه: أن لا تكون
عبوساً عند الناس، لكن أحياناً الإنسان يغضب ويعبس، فنقول هذا لسبب، وقد
يكون من الإحسان إذا كان سبباً لصلاح الحال ولهذا، إذا رجمنا الزاني أو
جلدناه، فهو إحسان إليه
ويدخل في ذلك إحسان المعاملة في البيع، والشراء، والإجارة، والنكاح وغير ذلك.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)، هذا تعليل للأمر، فهذا ثواب المحسن، أن الله يحبه، ومحبة الله مرتبة عالية عظيمة.
- التَّوَّابِونَ، قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة: 222].
التّواب: صيغة مبالغة من التوبة، وهو كثير الرجوع إلى الله، والتوبة: هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته.
ومعلوم أن كثرة التوبة
تستلزم كثرة الذنب، ومن هنا نفهم بأن الإنسان مهما كثر ذنبه، إذا أحدث لكل
ذنب توبة، فإن الله - تعالى -يحبه، والتائب مرة واحدة من ذنب واحد محبوب
إلى الله - عز وجل - من باب أولى؛ لأن من كثرت ذنوبه وكثرت توبته يحبه
الله، فمن قلت ذنوبه، كانت محبة الله له بالتوبة من باب أولى.
- المُتَطَهِّرِونَ، قال - تعالى -: (وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
الذين يتطهرون من الأحداث
ومن الأنجاس في أبدانهم وما يجب تطهيره، وهنا جمع بين طهارة الظاهر
وطهارة الباطن، طهارة الباطن بقوله: (التَّوَّابِين)، وطهارة الظاهر
بقوله: (المُتَطَهِّرِينَ).
- المتابعون للنبي –صلى
الله عليه وسلم-، قال - تعالى -: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31].
- المُتَّقِونَ، قال - تعالى -: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ) [آل عمران: 76].
المتقون: هم الذين اتخذوا
وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا من أحسن وأجمع ما
يقال في تعريف التقوى لما رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيث عَطِيَّة
السَّعْدِيِّ - رضي الله عنه – مَرْفُوعًا: ((لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ
يَكُون مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَرًا
مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ)).
- الصَّابِرِونَ، قال - تعالى -: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
قال الحافظ ابن حجر -
رحمه الله -: "قَالَ الرَّاغِب: الصَّبْر الإِمْسَاك فِي ضِيق، صَبَرْت
الشَّيْء حَبَسْته، فَالصَّبْر حَبْس النَّفْس عَلَى مَا يَقْتَضِيه
الْعَقْل أَوْ الشَّرْع، وَتَخْتَلِف مَعَانِيه بِتَعَلُّقَاتِهِ؛ فَإِنْ
كَانَ عَنْ مُصِيبَة سُمِّيَ صَبْرًا فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ فِي لِقَاء
عَدُوّ سُمِّيَ شَجَاعَة، وَإِنْ كَانَ عَنْ كَلاَم سُمِّيَ كِتْمَانًا،
وَإِنْ كَانَ عَنْ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُ سُمِّيَ عِفَّة" ا.هـ
وعَنْ صُهَيْبٍ - رضي
الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((عَجَبًا
لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ
لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ
خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا
لَهُ)).
- المُتَوَكِّلِونَ، قال - تعالى -: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
التوكل: هو الاعتماد على
الله - سبحانه وتعالى - في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به وفعل
الأسباب المأذون فيها، ولا بدّ من أمرين:
- الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتماداً صادقاً حقيقياً.
- الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فمن جعل أكثر اعتماده على
الأسباب، نقص توكله على الله، ومن جعل اعتماده على الله ملغياً للأسباب،
فقد طعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً، ومن اعتمد على الله
اعتماداً مجرداً كان قادحاً في حكمة الله؛ لأن الله حكيم، يربط الأسباب
بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
- المُقْسِطِونَ، قال - تعالى -: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [المائدة:42].
بِالْقِسْطِ: أي بالعدل،
وهذا واجب، فالعدل واجب في كل ما تجب فيه التسوية؛ يدخل في ذلك العدل في
التوجه إلى الله –عز وجل-، ينعم الله عليك بالنعم، فمن العدل أن تقوم
بشكره، يبين الله لك الحق، فمن العدل أن تتبع هذا الحق.
ويدخل في ذلك العدل في
معاملات الخلق أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولهذا قال –صلى الله
عليه وسلم-: ((فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ
وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ
أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)).
ويدخل في ذلك العدل بين
الأولاد في العطية، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)).
ويدخل في ذلك العدل بين
الورثة في الميراث، فيعطى كل واحد نصيبه، ولا يوصي لأحد منهم بشيء؛ لقوله
–صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)).
ويدخل في ذلك العدل بين
الزوجات، بأن تقسم لكل واحدة مثل ما تقسم للأخرى؛ لقوله –صلى الله عليه
وسلم-: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا
جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)).
ويدخل في ذلك العدل في
نفسك، فلا تكلفها ما لا تطيق من الأعمال؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-:
((وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ))