التحذير من أهل الأهواء والبدع وموقف أهل السنة منهم " إجمالا ":أُسس وضوابط
الحمد لله
وبعد
التحذير من أهل الأهواء والبدع وموقف أهل السنة منهم " إجمالا ":
من الأصول المقررة في مذهب السلف، التحذير من أهل البدع
ويتمثل ذلك بذمهم وهجرهم وتحذير الأمة منهم والنهي عن مجالستهم ومصاحبتهم
ومجادلتهم، ونحو ذلك، ولهم في ذلك أقوال كثيرة مشتهرة، لعلنا نشير إلى شيء
منها،
قال الإمام أحمد رحمة الله:
(أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم، وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال...)
وكان الإمام الحسن البصري - رحمه الله -
يقول: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم)
وقال الإمام ابن المبارك - رحمة الله -:
(.. وإياك أن تجالس صاحب بدعة)
وقال أبو قلابة:
(لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا في الدين بعض ما لبس عليهم)
ولخص الإمام الصابوني مذهب السلف في ذلك فقال:
(ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في
الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا
يجادلونهم ولايصحبونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع
أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت بالقلوب ضرت وجرت إليها من الوساوس
والخطرات الفاسدة ما جرت
ثم نقل إجماع السلف على ذلك حيث قال - رحمة الله -: (.. واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخراجهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم..) ،
وممن نقل الإجماع على ذلك القاضي أبو يعلى - رحمه الله - حيث قال:
(أجمع الصحابة، والتابعون على مقاطعة المبتدعة)
وممن نقل ذلك الإمام البغوي - رحمه الله - حيث قال:
(.. وقد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع، ومهاجرتهم...) والمقصود من الهجر، زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، وإظهار السنة وإماتة البدعة،
ولكن هناك أسس وضوابط لابد من مراعاتها ويمكن تلخيصها بما يلي:
1-
أن البدع مراتب مختلفة منها ما يوصل صاحبها إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك، ومنها البدعة الحقيقية، ومنها الإضافية، فالموقف يختلف بحسب مرتبة البدعة
2-
أن أهل السنة يفرقون بين الداعية للبدعة وغيره، وبين المعلن لها والمسر
3-
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، وكون صاحبها مجتهداً أو مقلداً
4- ومن وجهة كونه مصراً عليها أو غير مصر كأن تكون فلتة أو زلة عالم ثم لم يعاودها
5-
أيضا يفرق في الهجر وإظهار العداوة بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، فصارت لهم القوة والدولة وبين الأماكن التي يغلب فيها السنة
(فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على
أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله -
فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر
وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر)
6- ذم أهل السنة للمبتدعة والتحذير منهم لم يمنعهم من ذكر ما عند بعضهم من إيجابيات في نصرة الإسلام من جهاد ونحوه أو رد بعضهم على من هو أشد انحرافاً كرد الأشاعرة على المعتزلة ورد المعتزلة على الفلاسفة ونحو ذلك.
7-
كذلك الذم والهجر لا يمنع الاعتراف بما في كلامهم من حق وصواب،
ربما لدى بعضهم من زهد وعبادة ولذلك يقبل أهل الحديث والسنة رواية
المبتدع غير الداعية إذا توفرت فيه شروط الرواية المعروفة، مع شروط خاصة
بذلك - لا مجال لتفصيلها هنا -
8-
أيضاً إذا دعت الضرورة أو الحاجة لمناظرتهم ومجادلتهم - كأن يخشى فتنة العامة أو يطمع برد الشبهة فتشرع المناظرة في هذه الحالة
9-
وأخيراً يجب أن نعلم أن مسألة هجر المبتدع تندرج تحت القاعدة الإسلامية الكبرى " الولاء والبراء " ولذلك
فالمبتدع إذا كانت بدعته غير مكفرة لا يعادى من كل وجه كالكافر، وإنما
يعادى ويبغض على حسب مامعه من بدعة ويحب ويوالى على حسب ما معه من إيمان
وإليك بعض النصوص عن أئمة السلف في بيان بعض الضوابط السابقة،
يقول الإمام الآجري في بيان متى يشرع مناظرة المبتدع:
(فإن قال قائل: فإن اضطر المرء وقتاً من الأوقات إلى
مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرونهم؟ قيل الاضطرار إنما يكون مع
إمام له مذهب سوء - فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه - تفعل كما مضى في وقت
أحمد بن حنبل - رحمه الله - ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم
السوء فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة
الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً فأثبت الله - عز وجل - الحق مع
أحمد بن حنبل)
ويقول الإمام ابن عبد البر: (إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عام--ة أو نحو هذا)
ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -
مبيناً اختلاف الهجر بحسب البدعة وصاحبها: (...
إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد والإبعاد أو الإنكار هو
بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين، أم لا؟ وكون
صاحبها مشتهراً بها أو لا؟ وداعياً إليها أو لا؟ ومستظهراً الأتباع وخارجاً
عن الناس أو لا؟ وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا؟ وكل من هذه
الأقسام له حكم اجتهادي يخصه، إذا لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد
عليه ولا ينقص منه) ثم بين - رحمه الله - اختلاف اجتهاد الأئمة في مواقفهم
من المبتدعة بحسب ذلك من الطرد والإبعاد، أو السجن والقتل، أو التجريح
والتشهير أو المناظرة والمداراة الخ .
ولشيخ الإسلام في هذا المجال أقوال كثيرة نشير إلى شيء منها، يقول - رحمه الله - مبيناً اختلاف حكم الهجر باختلاف حال
الهاجرين: (...
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن
المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت
المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وإن
كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون
مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس
أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى
الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين.. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا
الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها
البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين
ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة
سلك في حصوله أوصل الطرق إليه) ويقول - رحمه
الله - في بيان الفرق بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية: (.. فأما من
كان مستتراً بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر
الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية
قولاً أو عملاً، وأما من أظهر لنا خيراً فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى
الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله
عليه وسلم - يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاءوا إليه عام
تبوك يحلفون ويعتذرون، ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من
الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون راوية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف
الساكت....) ، ويقول
- رحمه الله-.. (.. إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة
ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير،
واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما
فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له
من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه
لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج
والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط وإلا
مستحقاً للعقاب فقط....)
ونختم هذه النقولات عن شيخ الإسلام،
بنص قيم يبين فيه أن الرجل لا يعتبر مبتدعاً إلا بمخالفته أمراً مجمعاً
عليه، أما الخلاف في مسائل الاجتهاد فلا تبديع فيه، يقول: (.. والبدعة التي
يعد بها الرجل من أهل الأهواء، ما اشتهر عند أهل العلم، بالسنة مخالفتها
للكتاب والسنة، كبدع الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة......)
ويقول أيضاً: (من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة،
أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به
أهل البدع....)
والخلاصة
في هذا المبحث (أن الأصل في الشرع هو هجر المبتدع لكل ليس
عامًا في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، وترك الهجر والإعراض عنه
بالكلية، تفريط على أي حال وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص
والإجماع وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية
المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف
مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة
والكثرة...) .
المصدر
نواقض الإيمان الاعتقادية
وضوابط التكفير عند السلف
إعداد
د. محمد بن عبد الله بن علي الوهيبي
والحمد لله
[/size]