كيف نعرف خير الخيرين وشر الشرين
عناصر الخطبة :
1. الشرع جاء بالمصالح والنهي عن المفاسد.
2. مراتب المصالح والمفاسد.
3. أمثلة على المصالح والمفاسد.
4. كيفية معرفة خير الخيرين.
5. تزاحم المفاسد.
6. أهمية العقل والنظر والعلم في مثل هذا الموضوع.
7. أمثلة على تزاحم المفاسد.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الشرع جاء بالمصالح والنهي عن المفاسد
عباد الله:
لقد جاء الدين بالخير والمصالح، وبني على ذلك، وجاءت الشريعة بالنهي عن الشرور والمفاسد، وهذا واضح في أحكامها، و ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) ، فيعرف المصالح التي جاءت بها الشريعة، ويستطيع القياس عليها، ويعرف المفاسد التي نهت عنها الشريعة، ويعرف درجاتها، ويستطيع أن يوازن، ويقارن في مسائل المصالح والمفاسد، فمن يرد الله به خيراً يدله على الخير.
والناس منهم صاحب علم ليس بصاحب عقل، وصاحب عقل ليس بصاحب علم، فهذا عنده علم من جهة أنه يحفظ المعلومات، ولكن لا عقل لديه راجح للاستنباط منها وفهمها، أو القياس عليها، وهذا عنده عقل قوي عميق، وتفكير دقيق، ولكن ليس عنده علم، فلا يعرف نصوص الوحي، ولا يعرف ما جاء الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء به الشرع من أمر الناس بمعرفته وفهمه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة النحل:12)، فبعضهم عنده عقل وذكاء، ولكن ليس عنده علم ولا معرفة بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يخبط خبط عشواء بعقله، فلا يراعي نصاً، ولا يقيم له حرمة، بل لا يعرفه أصلاً، ومنهم من ليس عنده علم ولا عقل فهو كبهيمة الأنعام، ومن فتح الله عليه سلك سبيل العلم فتعلم، وأنعم الله عليه بعقل ففهم ما أنزل الله على رسوله. ولذلك فإن العلم والعقل بالكتاب والسنة؛ لا بد منهما.
ومسألة جلب المصالح، ودرء المفاسد مما جاءت به الشريعة، وهو واضح فيها تمام الوضوح، فأمرت بالمصالح مثل بر الوالدين، والإحسان للجيران، وإكرام الضيف، وإعمار الأرض بالمباحات، فالمصالح: ما فيه رعاية للعباد في الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض.
وكذلك فإن من أعظم الأمور؛ التفريق بين المنكر والمعروف، والمصلحة والمفسدة، والخير والشر، ومعرفة الصحيح والباطل من الأعمال، فالفقه في الدين يمكِّنك -يا عبد الله- من التمييز بين ما هو المنكر، وما هو المعروف، وما هو الحق، وما هو الباطل، وما هي السنة، وما هي البدعة، وما هو الصحيح المقبول، وما هو المردود الباطل، ويبصر الإنسان أيضاً بأنواع الواجب، فهذا فرض عين، وهذا فرض كفاية، ففرض العين واجب على كل أحد بعينه، ونفسه، وذاته، وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، والفقه يبصرك بما هو الواجب الموسع، والواجب المضيق، فيقال: هذا واجب تفعله قبل أن تموت، فوقته موسع، وهذا مضيق، إذا انتظرت أكثر يفوت وقته، فلا بد من الإتيان به فوراً، فهذا على الفور، وهذا على التراخي، أيضاً يبصرك بالأولويات، فهذا يقدم على هذا.
مراتب المصالح والمفاسد.
ولما جاءت الشريعة في مبناها على المصالح ودرء المفاسد؛ فإن المصالح مراتب، فمنها الضروريات، ومنها الحاجيات، ومنها التحسينيات، فالضروريات تقدم على الحاجيات، والحاجيات تقدم على التحسينيات، وكذلك فإن في كل واحد من هذه مراتب، ولذلك يحتاج الأمر إلى فقه دقيق، وأيضاً فإن المصالح والخير يتفاوت، وكذلك الشر والمفاسد تتفاوت، فليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وقضية معرفة خير الخيرين وشر الشرين مهمة جداً في تصرفات الإنسان في حياته؛ لأنه إذا تعارض عنده منفعتان ولا يستطيع القيام بهما؛ لأن الأصل القيام بالمصالح جميعاً، وجمع المنافع كلها، ولكن إذا لم يستطع قدم الأعلى، ولو ترك الأدنى، وكذلك في المفاسد يجب أن تجتنب جميعاً، ولكن إذا لم يمكن إلا بارتكاب مفسدة من مفسدتين، ارتكب المفسدة الأدنى وترك المفسدة الأشد، ودرأها ودفعها.
أمثلة على المصالح والمفاسد
ومن ذلك أن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين حي، فإن شق بطنها مفسدة؛ لأنه تمثيل بجثتها، واعتداء على كرامتها، وجثمان الميت له حرمة، فلا يجوز كسر عظمه، ولا يجوز شق جلده وهكذا، ولكن الجنين الحي في بطن أمه له حرمة أيضاً، فحياته يجب أن تصان، وتركه يموت مفسدة، فأي المفسدتين أعظم ترك الجنين يموت وهو حي، تيقنا بقائه حياً ينبض في بطن أمه، وتيقنا موتها، فهل نرتكب مفسدة شق بطن الميتة، أو نرتكب مفسدة ترك الجنين يموت ودفن الأم بجنينها؟
قال العلماء: يشق بطن الميتة لاستخراج جنينها الحي، إذا كان يرجى بقاء حياته، من باب ارتكاب أدنى المفسدتين.
ولو طلب ظالم مالاً من رجل فتوسط آخر بينهما وأخذ من المظلوم مالاً أقل، فإن هذه واسطة خير؛ لدرء أشد المفسدتين، فإنه لو ترك الظالم يأخذ كل مال المظلوم فهذه مفسدة عظيمة، ولو توسط عند الظالم ليترك للمظلوم بعض ماله فهذه مع وجود المفسدة فيها وهي أخذ بعض المال ظلماً؛ لكن هذه شفاعة حسنة؛ لأنه هوَّن الشر وخففه، وهكذا في شرع الله عز وجل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين"، وقال أيضاً: والشارع دائماً يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما، فإذا تعارضت المصلحتان وكانت إحداهما أعلى من الأخرى فعل الأعلى منهما؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل أعظم المصالح فأعظمها، ومدار الشرع على تحصيل أعلى المصلحتين وارتكاب أدنى المفسدتين، فإذا تعارض عندك -يا عبد الله- أمران كلاهما خير، ولا تستطيع أن تقوم بهما جميعاً، والأصل أن تقوم بهما جميعاً، وأن تحرص على الجمع بينهما، فإذا تعذر عليك فاسأل نفسك أيهما أحب إلى الله؟ وما الأفضل منهما؛ فاعمله لتنال أجراً أعظم عند ربك، وقول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (سورة الملك:2) -أحسن صيغة تفضيل- يدل على هذا، فقد يكون مثلاً في سنة من السنوات بذل المال لإطعام الطعام مقدم، أو أفضل من حج النافلة؛ لأنها سنة مجاعة مثلاً، أو حاجة شديدة، أو مخمصة نزلت بالناس، فيكون إنفاق المال في إطعام الطعام أولى من إنفاق المال في حج النافلة، وإذا اجتاح العدو بلداً للمسلمين كان إنفاق المال في صد هؤلاء أولى من بناء المساجد مثلاً، فهذه حاجة طارئة وملحة، والعدو خطره على الدين، وليس فقط على النفس والمال، وإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل مصلحة؛ لأن قريشاً لما جاء السيل في عهدهم، وهدم الكعبة ما وجدوا مالاً حلالاً بزعمهم خالياً من الحرام إلا ما بنوا به بعض الكعبة، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة أن يعيدها ونظر في الأمر قال لعائشة وأخبرها أنه ترك ذلك تألفاً لقريش حتى لا تفتن فترجع، أو يرجع بعضهم عن دينه، فترك مصلحة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم البنيان الكامل لمصلحة أعلى، وهي تأليف قلوب الناس على الإسلام، وتثبيتهم على الإسلام، وهم حدثاء عهد به ، وتزوج جابر رضي الله عنه ثيباً، ولم يتزوج بكراً، مع أن البكر أفضل؛ لأنه كان عنده أخوات يحتجن إلى من يقوم عليهن، فلم يكن يصلح بعد وفاة أبيه وبعد فقد الراعي أن يجلب لهن امرأة مثلهن فقال: إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن، وتمشطهن، وتقوم عليهن.
كيفية معرفة خير الخيرين
لكن كيف يعرف العبد خير الخيرين؟ يحتاج إلى علم. وكيف يوازن؟ يحتاج إلى عقل، فإذا كبرَّ المصلي لصلاة النافلة مثلاً، وأقيمت صلاة الجماعة فإنه يقطع النافلة ليدرك أعلى المصلحتين وهي الجماعة، وإذا كان تثليث الوضوء يذهب بتكبيرة الإحرام، أو يفوت صلاة الجماعة فيتوضأ مرة مرة ليلحق صلاة الجماعة؛ لأن مصلحة إدراك الجماعة أعلى من تثليث الوضوء، فتثليث الوضوء سنة، والإتيان بمرة واحدة في الوضوء يجزئ، ومصلحة الجماعة أعلى من مصلحة تثليث الوضوء، هذا فقه.
وإذا تعارض الأمر بين الركن والمسنون، أو الواجب والمستحب، قدم الواجب، ولذلك من الفقه إذا دخل المأموم في أثناء قيام الإمام للقراءة متأخراً عن أول الصلاة، أو أول الركعة؛ فإن من الفقه أن لا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لأن الإمام سيركع بعد قليل، ومصلحة قراءة الفاتحة أعلى من مصلحة دعاء الاستفتاح، ولذلك إذا كبر بدأ بالبسملة والفاتحة مباشرة.
وإذا تعارض قضاء الدين مع صدقة التطوع، قدم قضاء الدين طبعاً.
وهكذا لو تعارض فرض العين مع فرض الكفاية، قدم فرض العين؛ كمن عنده نفقة تكفي أهله فقط، وهناك جهاد على الكفاية، فإنفاقه على أهله فرض عين عليه، فمن الذي سيقوم به غيره، فهذه زوجته وهؤلاء أولاده، فيقدم الإنفاق على الزوجة والأهل، على الإنفاق والخروج في سبيل الله إذا كان على الكفاية، وليس فرض عين.
ولو تعارض عمل المرأة مثلاً في الدعوة إلى الله، مع حق زوجها وأولادها، فتقدم حق الزوج والأولاد؛ لأنه فرض عين عليها، وقيامها بالدعوة إلى الله، والخروج إلى أخواتها، أو إلقاء المحاضرات فيهن فرض كفاية، ليس واجباً عينياً عليها، ولذلك تقدم حق الزوج والأولاد، فالذي لا يفقه الفقه الشرعي الصحيح يمكن أن يقول: الدعوة إلى الله أعظم، ويهون فراش الزوج، وأكل الأولاد، وحق الزوج والأولاد فرض عين عليها، فتقدمه على ذلك الأمر، فالأمومة رسالة لا تقبل المزاحمة.
وهل دائماً معرفة خير الخيرين واضح جداً؟
الجواب: لا، فقد يختلف فيه أهل العلم أنفسهم، فتصبح القضية فيها دقة شديدة، فلو دخلت المسجد والمؤذن يؤذن لخطبة الجمعة، والإمام على المنبر فهل تقف وتردد مع المؤذن، ثم تصلي الركعتين ولو فاتك شيء من الخطبة، أو تصلي الركعتين لتلحق الخطبة من أولها وتفوت الترديد مع المؤذن؟ فما هو أعلى الخيرين وخير الخيرين، الترديد مع المؤذن، أو إدراك أول الخطبة؟
من العلماء من قال: إدراك الخطبة من أولها خير وأعلى، وأفضل، فيفوت سنة الترديد مع المؤذن، ويصلي ركعتين مباشرة ليلحق الخطبة من أولها، والخطبة واجبة.
ومنهم من قال: بل الترديد مع المؤذن مأمور به، ((فقولوا مثل ما يقول)) ، وسماع الخطبة مأمور به، ولكنه إذا فوت سيفوت أول الخطبة، ويقوم بهذا المأمور به، وببقية الخطبة المأمور بالإنصات إليها، فهنا الجمع أحسن.
إذن منهم من يقول: إنه يمكن الجمع، ومنهم من يقول: إنه لا يمكن الجمع بين المصلحتين، ومنهم من يقول: هذه المصلحة أعلى، ومنهم من يقول: هذه أعلى، فالقضية في بعض الأحيان حتى عند أصحاب العلم والعقل؛ فيها نقاش، ومفاضلات.
تزاحم المفاسد
وإذا تزاحمت مفسدتان، ولم يمكن اجتناب المفسدتين جميعاً، وكان لا بد من ارتكاب إحداهما فما هو الحل؟
الأصل: أنه يجب ترك المفاسد كلها، فإذا سأل سائل هل أفعل هذا الحرام، أو هذا الحرام، هل أرتكب هذه المفسدة أو هذه المفسدة؟ فلا بد من التأكد أنه لا يمكن ترك المفسدتين جميعاً، فإذا توصلنا إلى هذه النتيجة، نأتي بعد ذلك إلى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (سورة التغابن:16)، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (سورة البقرة:286)، وكلام العلماء: إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما؛ يفعل الأدنى درأً للأعلى، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، إلا إذا لم يندفعا جميعاً، فعند ذلك يدفع الفساد الكثير بالفساد القليل، ويدفع الشر الكثير بالشر القليل، والعقل مع الشرع يوجبان ارتكاب أخف الضررين، ومن الأمثلة على ذلك: خرق الخضر السفينة؛ لأن هنالك ملك ظالم يأخذ كل سفينة غصباً إذا مرت عليه واستحسنها، فخرق السفينة مفسدة، وترك السفينة ليغتصبها الملك مفسدة، فأي المفسدتين أدنى؟ خرق السفينة، فخرقها ودق وتداً مكان الخرق حتى لا تغرق، كما جاء في الحديث الصحيح، وشوه المنظر؛ لئلا يأخذها الغاصب، فإذا رآها لن يستحسنها وهي مشوهة، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} يحتاجون إليها مساكين، هذه حيلتهم، {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} هذا هو الهدف التعييب، {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (سورة الكهف:79).
وإذا أكره العبد على اختيار واحد من الشرين؛ لزمه اختيار ما كان أخف ضرراً اتقاء للأشد، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي مع عظم شره، وشدة شره، وترك قتل المنافقين، وهكذا إذا تعارض أمران محرمان في النهي عن المنكر، قال ابن القيم رحمه الله: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتر بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، - أي أنكرت عليه الإنكار-، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس المسلمة، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم؛ لأن مفسدة شربهم للخمر أقل من مفسدة قتل النفس، وأخذ أموال المسلمين، والاغتصابات، ولذلك أمر بتركهم في سكرهم؛ لأنهم إذا أفاقوا صار إفسادهم أشد.
وهكذا يكون العمل عند وقوع تعارض بين محرم لذاته مثلاً، ومحرم لغيره، فالمحرم لذاته أشد، مثال ذلك: إذا لم يمكن إنقاذ المرأة الأجنبية إلا بلمسها، وحملها، والنظر إليها فماذا نفعل؟ هل نتركها تموت، وتغرق، أو نحملها بالرغم من أن حملها، ولمسها، والنظر إليها محرم، فهذه مفسدتها أقل، فالنظر إلى الأجنبية محرم لغيره، لما يفضي من إثارة الغرائز المحرمة والشهوات فهو حرام، ولكن هنا لا بد أن نرتكبه، وهذا ما فعله المسعفون في حوادث السيول مثلاً، والعلماء يشترطون للطبيب إذا كان لا بد من المعالجة أن ينظر إلى الأجنبية، أو يلمس الموضع الذي لا يجوز لمسه أصلاً يشترطون عدم الشهوة، وترى التدرج في كلام أهل العلم في قضية معالجة المرأة الأجنبية دقيقاً، فيقولون: يبدأ بالطبيبة المسلمة للنظر إلى عورة المرأة عند العلاج أو الولادة، فإن لم يمكن فالطبيبة الكافرة، فإن لم يمكن فالطبيب المسلم، فإن لم يمكن فالطبيب الكافر، فقدموا الطبيبة الكافرة على الطبيب المسلم؛ لأن مفسدة نظر الطبيبة الكافرة إلى عورة المرأة المسلمة أخف من مفسدة نظر الطبيب المسلم إلى عورة المرأة المسلمة.
وهكذا من الأمور الكثيرة الواردة في كتب الفقه، مثل: طلب الزوجة الطلاق لعسر الزوج، فالتفريق مفسدة يضر الرجل، ويضر الأولاد والأسرة، وربما تتضرر الزوجة فيما بعد، وقضية بقائها مع رجل ليس عنده مال مفسدة، وضيق، وضنك، وشدة، فأيهما يقدم في الارتكاب؟
قالوا: تلزم بالبقاء معه؛ لأن العسر عرض لا يدوم، والمال غادٍ ورائح، وأما التفريق فهو ضرر، والزوجة يمكن أن تتدارك الأمر بالاستدانة على الزوج، فيجوز للمرأة إذا أعسر زوجها ولم يكن عنده مال ينفق عليها أن تستدين عليه، فتأخذ من البقالة وتقول: اكتب على حساب زوجي، وتأخذ من الجيران وتقول: على حساب زوجي، وتأخذ ما لا بد من أخذه، ولا يفرق بينهما لمفسدة التفريق، لكن إذا كان بخيلاً، فهذا حتى لو عنده مال لا ينفق، فهنا يفرق بينهما لبخله، إذا كان لا يقدم نفقتها لا في السراء، ولا في الضراء.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، أسبحه، وأحمده، وأكبره، ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه ونبيه ومصطفاه صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وأزواجه، وذريته الطيبين، وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أشهد أنه رسول الله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين.
أهمية العقل والنظر والعلم في مثل هذا الموضوع
عباد الله:
إن قضية النظر والعقل مع العلم والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أمران مهمان جداً، والذي يفرط في هذا الباب يظلم نفسه ويظلم غيره، وأنت تجد يا عبد الله أن المصالح في الدنيا ليست نقية دائماً، ومع ذلك فالشرع أباحها لما غلب عليها من المصلحة، فمثلاً الطعام، لحوم بهيمة الأنعام أليس يمكن أن يترتب عليها مفسدة، فمثلاً: لحم الغنم يزيد الكلسترول، ولحم البقر يمكن أن يوجد فيه الدودة الشريطية، وهكذا، ولكن الشريعة أباحته لأن مصلحته غالبة، والخمر حرمته الشريعة مع وجود مصالح وحسنات فيه؛ من ربح تجارته، أو أنه يصيِّر الجبان إذا سكر شجاعاً، والبخيل كريماً، وينسي المصائب والهموم، ويدفئ في البرد، فإنكار هذا ليس من العقل، ولكن لماذا حرمته الشريعة؟ لأن مفسدته غالبة، ولأنه يضيع العقل، ويترتب عليه من المفاسد أضعاف أضعاف ما يتحصل من مصلحة ربح تجارة، أو نسيان هموم؛ لأن الشريعة أعطتنا في باب ربح التجارة أبواباً كثيرة جداً، وأعطتنا في نسيان الهموم من الأذكار، والعبادات، والإجراءات الكثيرة غير هذا، ولا يعني أنه لا يوجد إلا الخمر لنسيان الهموم، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله وغيره من أهل العلم، أنه لا يوجد مصالح نقية تماماً إلا في الجنة، فكلها مصالح نقية ما فيها مفسدة بوجه من الوجوه، وأن المفاسد الكاملة من كل الوجوه لا توجد إلا في النار، ولا يوجد في النار مفسدة فيها أي شائبة من فائدة أبداً، ولذلك لما تطرح قضية مثل: قيادة المرأة للسيارة في مجتمع محافظ يغلب عليه الدين؛ كمجتمعنا، ففي قيادتها حسنات بلا شك، ومن ذلك أنها تكتفي عن السائق، لكن فيه من المفاسد ما يربو على مصالحه، ولذلك أفتى أهل العلم الثقات بمنعه.
أمثلة على تزاحم المفاسد
وأحياناً تجد أن الإباحة والتحريم في المسائل لا بد فيها من مراعاة الواقع للخروج بحكم صحيح؛ ومن ذلك: المناداة بحرية العبادة في بلاد تحت نير الشيوعية بالحديد والنار، مفيدة؛ لأنه سينبني عليها استطاعة المسلمين بناء مساجد، وإقامة صلوات علنية، فتحت الشيوعية والحديد والنار لا يمكن في أجواء الاضطهاد البالغ لا يمكن، فالمناداة بحرية العبادة هناك مفيد، لكن من ينادي بحرية العبادة في جزيرة العرب التي لا يجوز أن يجتمع فيها دينان، ولا يجوز أن يبنى فيها للكفار دور عبادة، وكنائس، وبيع، ومعابد للبوذيين، والهندوس، وكنائس صلبان.
والذي لا يفقه الربط بين الواقع، والحكم الشرعي، فليس من الفقهاء أصلاً، وهكذا أيها الأخوة، ينبغي أن يسار على القضية في حكم إدخال هذه القنوات إلى البيوت، ولنتكلم عن القنوات المختلطة، وليس عن القنوات الإسلامية التي إذا أمكن تحديدها في البيت فإن إدخالها مفيد، فالقنوات الأخرى فيها فائدة وفيها مصلحة، لكن فيها شرور عظيمة، وشرها في كثير من الأحيان أعظم من نفعها، وكذلك السياحة في بلاد الكفار فيها فائدة؛ من ترويح عن النفس، لكن ما يكون وراءها من التأثر بدينهم، وعدم استطاعة المسلم أن يقيم شعائر دينه في بعضها مفسدة عظيمة، وتأثر أولاده بمناظر كنائسها، ومتاحفها، وبالكفرة، وعادات الكفرة، وحياة الكفرة، ومجتمعات الكفرة، ووجود الخمور في فنادقها، والخنزير في مطاعمها، يعني تطبيع الكفر في نفوس الأهل فهذه مفسدة ضخمة جداً، لا يمكن أن تدانيها، أو تقارنها مفسدة الفرجة والترويح، ولذلك إطلاق الأحكام لا بد من مراعاة الشرع والعقل والواقع فيه، وأن يكون عند ثقة.
وأحياناً تكون هناك أمور دقيقة جداً، هل يجوز في علاج مدمني المخدرات أن يعطى المدمن المخدر مثلاً بدرجات تقل شيئاً فشيئاً حتى يتعود جسمه على تركها ويشفى منها ويخرج، ومعلوم أن إعطاء المخدر حرام، لكن الوصول إلى شفائه حلال، بل مطلوب، بل واجب، ولا بد أن نسأل ألا يوجد طريقة أخرى؟ وإذا قالوا: فعلاً لا يوجد، فهنا الدقائق والمضائق التي تحتاج إلى أهل العلم وأهل الفقه.
ومن اضطر إلى فعل كبيرة أو صغيرة فماذا يفعل؟
الجواب: يفعل الصغيرة إذا لم يكن إلا هي درءاً للكبيرة، ومن طريف ما ذكروا كما في ربيع الأبرار، أن رجلاً زنا بجارية فحملت منه، فقيل له: هلا إذا ابتليت بفاحشة عزلت عنها، بدلاً من أن تحمل الولد الحرام والفضيحة، فقال: بلغني أن العزل مكروه، فقيل: فما بلغك أن الزنا حرام؟.
ولو خير العبد بين أن يرتكب كبيرة، وبين أن يشرك بالله فهكذا أيضاً، والقضية تحتاج إلى علم، ومعرفة بالنصوص سواءً في خير الخيرين، كما فعل الصحابة عندما سافروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم الصائم، ومنهم المفطر في يوم حار جداً، فسقط الصُّوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، والخيام، وسقوا الركاب والدواب، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) . متفق عليه؛ لأنه كان الفطر خير الخيرين.
وقد يصل الجهل بمراتب الأعمال إلى حد تضييع الأجر نفسه، مثل من يجتهد في قيام الليل جداً ويطيل، ويطيل، فيسقط قبل الفجر، وينام نومة تضيع عليه صلاة الفجر، فماذا فعل هذا؟ ما عرف خير الخيرين، فهو عابد، قام أربع ساعات في الليل، وصلاة، وبكاء، ودعاء، ولكن ليس فقيهاً؛ لأنه لم يعرف خير الخيرين؛ لأن صلاة الفجر أعلى، وأفضل من قيام الليل، مع أن الجمع بينهما ممكن، بأن يقوم من الليل قدراً لا يفوت عليه صلاة الفجر، وعلى أية حال أجد -أيها الأخوة- في هذا الوقت الذي عمت فيه فتن، واضطربت فيه أمور، واختلت فيه أوضاع بلدان، أجد أن طرح هذا الموضوع، ولفت النظر إليه، والتفكير فيه من أهم المهمات والله.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم خلص بلاد المسلمين من الظلمة والمنافقين يا رب العالمين، وانشر فيها الأمن والإيمان يا أرحم الراحمين، اللهم انصر المظلومين على الظالمين، واقمع أهل الزيغ والفساد والمعاندين، اللهم من أراد ببلاد المسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، اللهم من أراد الإضرار بأمننا، وأمن المسلمين فاقمعه، واخزه، ورد كيده في نحره، واقطع دابره يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك رحمتك التي تلم بها شعثنا، وتقضي بها ديننا، وترد بها غائبنا، وتهدي بها ضالنا، وترحم بها ميتنا، وتشفي بها مريضنا، يا أرحم الراحمين استر عيوبنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا، اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم أن تغفر لنا ذنوبناً أجمعين، وأن تكتبنا من السعداء من أهل جنات الخلد والفردوس يا أرحم الراحمين، وأن تعتق رقابنا من النار، يا غفار اغفر لنا ذنوبنا كلها، واجعلنا متوكلين عليك، تائبين إليك، ذاكرين لك، شاكرين لنعمك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر موقع الشيخ المنجد