تفسير سورة الذاريات
أيضاً
في النفس آيات في نفوس الناس: فمن الناس من تجده هيناً ليناً طليق الوجه
مسروراً، كل من رآه سر بوجهه، وكل من جلس إليه زال عنه الغم والهم، ومن
الناس من هو بالعكس قطوب، عبوس، بمجرد ما تراه لو كنت مسروراً لأتاك الحزن
والسوء، فهذا أيضاً من آيات النفس وهي كثيرة جداً، ومن أراد المزيد من هذا
والاطلاع على قدرة الله تعالى فيما في أنفسنا من الآيات فعليه بمطالعة كلام
ابن القيم - رحمه الله - في كتاب (مفتاح دار السعادة) يجد العجب العجاب،
وكذلك أيضاً كتابه الصغير وهو كبير في المعنى وهو (التبيان في أقسام
القرآن). ذكر من ذلك العجب العجاب {أفلا تبصرون }، الاستفهام هنا للتوبيخ
والإنكار، كأنما يقول الله - عز وجل - أبصروا في أنفسكم تبصَّروا وتأملوا
وتفكروا، فإذا لم تعرفوا هذه الآيات فأنتم لا تبصرون، فيكون الاستفهام هنا
للتوبيخ والإنكار ألا نتبصر، وهي دعوة من الله - عز وجل - لعباده أن
يتبصروا في الآيات، فإذا لم تتبصر في الآيات فاعلم أنك محروم، قال الله
تعالى: {وما تغنى الآيـات والنذر عن قوم لا يؤمنون}. إذن إذا لم تنتفع
بالآيات فاعلم أنك محروم، وأن إيمانك ناقص {وما تغنى الآيـات والنذر عن قوم
لا يؤمنون }. فعليك يا أخي أن تتفكر في آيات الله الكونية، وما في هذا
الكون العظيم من آيات الله الدالة على عظمته وسلطانه ورحمته وحكمته، وكذلك
في آيات الله الشرعية، ومن فتح الله عليه في الآيات الشرعية ينتفع بها أكثر
مما ينتفع بالآيات الكونية، إذا تأمل ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء
والصفات، والأفعال والأحكام، ازداد إيماناً بالله - عز وجل - وعرف بذلك
الحكمة والرحمة، وإذا تأمل فيما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وما يكون فيه
من ثواب وعقاب، وجزاء وحساب ازداد إيماناً بالله، وكلما تأمل الإنسان في
آيات الله الشرعية ازداد إيماناً، فبعض الناس الموفقين يكون ازدياد إيمانه
بالآيات الشرعية أكثر من ازدياد إيمانه بالآيات الكونية، أما الإنسان الذي
يفتح الله عليه في هذا وهذا فيا حبذا.
{وفي
السماء رزقكم وما توعدون } ذهب كثير من العلماء أن المراد بالرزق هنا
المطر، لأن الله تعالى قال: {هو الذي يريكم آيـاته وينزل لكم من السماء
رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب }. وسمي المطر رزقاً؛ لأنه سبب للرزق، فإذا
أنزل الله المطر أخرجت الأرض الماء والمرعى، متاعاً لنا ولأنعامنا، وهذا
رزق، كم من ناس يكون رزقهم على ما ينزل من المطر من الزروع والحشيش والمياه
وغيرها، بل إن الله تعالى قال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون أءنتم أنزلتموه
من المزن أم نحن المنزلون} هل أحد يستطيع أن ينزل من المزن ماءً؟ لا يمكن،
وهل أحد يستطيع أن يخلق في المزن ماءً؟ لا يمكن، وإنما الله عز وجل هو
الذي يتولى ذلك، هذا هو مادة الرزق، لولا الماء لهلكت، وتأمل قوله تعالى:
{أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا
تشكرون}. لم يقل: لو نشاء لم ننزله، مع أنه لو شاء لم ينزله، لكن قال: {لو
نشاء جعلناه أجاجاً } يعني لو نشاء أنزلناه لكن جعلناه أجاجاً مالحاً، لا
يمكن أن يشرب، وحسرة الإنسان على ماء بين يديه ولكن لا يستطيعه ولا يستسيغه
أشد من حسرته على ماء مفقود، لأن ماءً موجوداً لا تنتفع به ولا تستطيع
شربه أشد حسرة من ماء مفقود، ولهذا ذكرنا الله هذه الحال، أرأيتك الآن لو
أن هذا المطر العذب الزلال اللذيذ صار أجاجاً مالحاً، ماذا تكون الحال؟
تكون صعبة جداً، ولهذا قال: {لو نشاء جعلنـاه أجاجاً فلولا تشكرون }. {وفي
السماء رزقكم } إذن الرزق هو المطر كما في الآية الكريمة {وينزل لكم من
السماء رزقاً } ويمكن أن نقول: إن الرزق الذي في السماء أعم من ذلك، فقد
يقال: إن في السماء رزقاً من المطر، وما كتبه الله لنا في اللوح المحفوظ من
المصالح والمنافع الجسدية من أموال وبنين وغير ذلك، فيكون هذا القول أشمل
وأعم، واعلم أنه ينبغي أن يراعي المستدل بالقرآن والسنة قاعدة مفيدة، وهي
إذا فسرنا النص القرآني أو النبوي بمعنى أخص وفسرناه بمعنى أعم، فنأخذ
بالأعم، لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، إلا إذا دل دليل على أنه خاص،
فهذا يتبع فيه الدليل، لكن عندما لا يدل الدليل، فخذ بالأعم، لأن الأعم
يدخل فيه الأخص ولا عكس، فهنا إذا قلنا: المراد بالرزق ما هو أعم من المطر،
فالجواب صحيح، فيدخل فيه المطر وغيره، وقوله: {وما توعدون } يعني وفيه
الذي توعدون، والذي نوعد الجنة، فالجنة في السماء وليست في الأرض، ولهذا
قال الله تعالى في قصة آدم: {قلنا اهبطوا منها }. والهبوط يكون من أعلى إلى
أسفل، فالجنة في السماء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة
درجات، وأن أعلاها الفردوس، وأنه أعلاها وأوسطها أيضاً، وهو إشارة إلى أن
الجنات مثل القبة أعلاها هو وسطها، قال: «منه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش
الرحمن» (9) إذن هي أعلى شيء، - نسأل الله أن يجعلنا من ساكنيها إنه على كل
شيء قدير -، فالذي نوعد هو الجنة، فالرزق في السماء، والجنة التي نوعدها
في الآخرة في السماء، إذا نحن أهل الأرض محتاجون إلى السماء في الحياة
الدنيا وفي الآخرة، ففي السماء رزقنا في الدنيا، وفيها ما نوعد في الآخرة
وهو الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
{فورب
السماء والأَرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون } الفاء عاطفة، والواو للقسم،
ورب السماء والأرض هو الله - عز وجل - أقسم بنفسه تبارك وتعالى بمقتضى
ربوبيته للسماء والأرض، أن ما يوعدون حق؛ لأنه قال: {وفي السماء رزقكم وما
توعدون } {فورب السماء والأَرض } أي: ما توعدون. ويحتمل أن يكون الضمير
عائداً للقرآن، ويحتمل أيضاً أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
والمعاني الثلاثة كلها متلازمة، وقوله: {إنه لحق } أي: ثابت، لأن الحق
والباطل متقابلان، فالباطل هو الزائل الضائع سداً، والحق هو الثابت الذي
فيه الفائدة، وفيه الخير والصلاح، وقوله: {مثل مآ أنكم تنطقون } يعني كما
أن الإنسان يتيقن نطقه، فإن هذا القرآن حق، ومعلوم أن كل واحد منا لا ينكر
نطقه، وإذا نطق تيقن أنه نطق، إذن هذا القرآن كلام الله - عز وجل - حق
مثلما أن نطقنا حق.
{هل
أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم
فحسب، بل له، ولكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، كأنه قال: هل
أتاك أيها المخاطب { حديث ضيف إبراهيم المكرمين } والاستفهام هنا للتشويق،
كأنه يشوقك إلى أن تسمع هذا الحديث، ونظيره في التشويق قوله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجـارة تنجيكم من عذاب أليم }. ليس المراد
بهذا الاستفهام أنه يستفهم، لكنه أراد أن يشوق المخاطبين إلى ذلك، ويكون
الاستفهام للتهديد والإنذار والتخويف في مثل قوله تعالى: {هل أتاك حديث
الغـاشية * وجوه يومئذ خـاشعة }
فإذا قال قائل: أي شيء يدلنا على أن الاستفهام للتشويق، أو للتهديد، أو للاستخبار أو ما أشبه ذلك؟
نقول:
الذي يدلنا على هذا السياق وقرائن الأحوال، والعاقل يفهم هذا وهذا، {هل
أتاك حديث } أي: خبر {ضيف إبراهيم }، ضيف هنا مفرد، لكنه يستوي فيه الجماعة
والواحد، وهم جماعة ملائكة كرام عليهم الصلاة والسلام، {ضيف إبراهيم }
يعني الذين نزلوا ضيوفاً عنده، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام،
وهو أبو العرب، وأبو بني إسرائيل كما قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم هو
سمـاكم المسلمين من قبل }. وهو الذي أمرنا الله تعالى أن نتبع ملته، قال
الله تعالى: {ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من
المشركين }. ولهذا ادعت اليهود أن إبراهيم يهودي، والنصارى ادعوا أنه
نصراني، ولكن الله تعالى كذبهم في ذلك، فقال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا
نصرانيا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين }. يقول الله - عز وجل
-: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } يحتمل أن {إذ دخلوا } متعلق بقوله
(المكرمين) يعني الذين أكرمهم حين دخولهم عليه، ويحتمل أنها مفعول لفعل
محذوف، والتقدير: اذكر إذ دخلوا على إبراهيم {فقالوا سلاماً قال سلام قوم
منكرون } (قالوا سلاماً)، أي: نسلم سلاماً، وعليه فسلاماً مصدر عامله
محذوف، والتقدير: نسلم، {قال سلام } مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: عليكم
سلام، وعلى هذا فيكون التسليم هنا ابتداؤه بالجملة الفعلية، وجوابه بالجملة
الاسمية، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، ولهذا قال العلماء -
رحمهم الله -: إن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكمل من تسليم الملائكة،
لأن تسليم الملائكة جاء بالصيغة الفعلية، ورد إبراهيم جاء بالصيغة الاسمية،
{قوم منكرون }، قوم خبر مبتدأ محذوف، والتقدير:
أنتم قوم، وإنما قال إنهم قوم؛ لأنهم بصورة البشر، وقوله: {منكرون } أي:
غير معروفين، كما قال تعالى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس
منهم خيفةً }. فـي هـذه الآية شاهد لحذف المبتدأ، وحذف الخبر، والشاهد لحذف
الخبر (سلام)، لأن التقدير: عليكم سلام. والشاهد لحذف المبتدأ (قوم)، لأن
التقدير: أنتم قوم. {فراغ إلى أهله } راغ: انسل بخفية وسرعة، وذلك من حسن
ضيافته. لم يقل: انتظروا آتي لكم بالطعام. ولم يقم متباطئاً كأنما يدفع
دفعاً، وإنما قام بسرعة منسلاً، لئلا يقوموا إذا رأوه ذهب إلى أهله، فكأنه
أخفى الأمر عنهم {أهله } يعني أهل بيته {فجاء بعجل سمين } وفي آية أخرى:
{بعجل حنيذ } أي مشوي، واللحم إذا شوي يكون أطعم وألذ، لأن طعمه يبقى فيه
لا يمتزج بالماء، بخلاف ما إذا طبخ يمتزج بعضه بالماء، فتقل لذته، لكن إذا
كان مشوياً صار أطيب وأحسن، { فجاء بعجل سمين }يعني
أنه عليه الصلاة والسلام لا يتخير للضيوف البهائم العجفاء الهزيلة، وإنما
يتخير لهم البهائم السمينة، لأنها ألذ وأطيب وأنفع، واختيار العجل إما أن
يكون من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكرم الناس بهذا، أو أنه يكرم الضيوف
بحسب ما تقتضيه الحال، فإذا كانوا كثيرين أتى بالعجل، وإذا كانوا أقل أتى
بالغنم، وما أشبه ذلك حسب عادة الكرماء {فقربه إليهم قال ألا تأكلون } أي
لم يجعله بعيداً، ويقول: قوموا إلى طعامكم، بل خدمهم حتى جعله بين أيديهم،
وقربه إليهم قال: { ألا تأكلون } ولم يقل: كلوا. إنما عرضه عليهم عرضاً،
لأن هذا أبلغ في الإكرام، والعرض أخف وألطف من الأمر، إذ إنه لو قال: كلوا.
كان يحتمل أنه أراد أن يستعلي عليهم ويوجه الأمر إليهم، لكن قال: ألا
تأكلون؟ والفرق بين العبارتين في الرق، فقوله: {ألا تأكلون } أرق وأرفق.
مسألة:
هل نقول: إن السنة والأفضل أن الإنسان إذا دعا ضيوفاً، أو أتاه ضيوف أن
يقرب إليهم الطعام في مجلس الجلوس أو نقول: هذا يختلف باختلاف الأحوال؟
الثاني
هو الأظهر، لأن عموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (10) يدل على أنك تكرمهم بما جرت العادة
بإكرامهم به، وعندنا الآن إذا دعوت أصحابك وأصدقاءك وهم قلة فلا يعدون
تقديم الطعام في مكان جلوسهم إهانة، لأنهم إخوانكم وأصدقاؤكم، لكن لو نزل
بك ضيف أو دعوت ضيفاً ليس بينك وبينه صلة تامة فإنه في عرف الناس الآن ليس
من إكرامه أن تقدم الطعام في محل الجلوس، اللهم إلا لضرورة، إذا لم يكن
عندك مكان، والآن الإكرام أن تجعل الطعام في مكانه، ثم إذا أراد أن يأكلوا
يقول: تفضلوا، ألا تتفضلوا، أو ما أشبه ذلك من الكلمات المتداولة، فالمهم
أن قوله تبارك وتعالى عن إبراهيم: {فقربه إليهم قال ألا تأكلون } ينبغي أن
يجعل هذا حسب عادة الناس، إذا كان من الإكرام أن تأتي بالطعام إلى محل
جلوسهم فأت به، وإذا كان من الإكرام أن تجعله في محل آخر فافعل، دليل ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» .
{فأوجس
منهم خيفةً } أي: أحس بنفسه بخيفة منهم، وسبب تلك الخيفة أنه عليه الصلاة
والسلام لما قدَّم إليهم الطعام لم يأكلوا منه {فأوجس منهم خيفةً } لأن
العادة أن الضيف يأكل مما قدم له المضيف، لكن هؤلاء الملائكة، لم يأكلوا؛
لأن الملائكة صمد أي ليس لهم أجواف، كما جاء ذلك مأثوراً عن السلف، ولهذا
لا يحتاجون إلى أكل ولا إلى شرب، فأوجس منهم خيفة {قالوا لا تخف } طمأنوه،
قالوا: لا تخف لما رأوا على وجهه من علامة الإنكار والخوف، وكل إنسان يعرف
حال قلب المرء المواجه له، هل هو في سرور؟ هل هو في انشراح؟ هل هو خائف؟ هل
هو مطمئن؟ لأن هذا أمر معلوم بالفطرة، ولا يحتاج إلى كبير فراسة {وبشروه
بغلام عليم } البشارة هي الإخبار بما يسر، أي أخبروه بما يسره وهو الغلام
العليم، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد بلغ من الكبر عتيًّا قبل أن
يولد له، فبشروه بهذا الغلام، وبشروه بأنه عليم أي سيكون عالماً؛ لأن الله
تعالى جعله من الأنبياء، والأنبياء هم أعلم الخلق بالله - عز وجل - وأسمائه
وصفاته وأحكامه وأفعاله، وهذا الغلام العليم غير الغلام الحليم، لأن في
القرآن أن إبراهيم بُشر بغلام عليم في آيتين من كتاب الله، وبشر بغلام حليم
في آية واحدة، وهما غلامان، أما الغلام الحليم فإنه إسماعيل أبو العرب،
وأما الغلام العليم فإنه إسحاق أبو بني إسرائيل، ولذلك تجد قصتهما مختلفة،
ولقد أبعد عن الصواب، من قال: إن الغلام الحليم هو الغلام العليم، بل ونص
صريح في سورة الصافات أنهما غلامان مختلفان، فإن الله تعالى لما ذكر قصة
الذبيح في سورة الصافات قال بعدها: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصـالحين }
فكيف يبشر بمن أمر بذبحه، وكان عنده وبلغ معه السعي، كل هذا مما يدل على أن
الغلام الحليم غير الغلام العليم، بشروه بغلام عليم، وهذه بشارة بثلاثة
أشياء: أولاً بأنه سيأتيه مولود يصل إلى أن يكون غلاماً، ثانياً: أن هذا
المولود ذكر لا أنثى لقوله (غلام)، ثالثاً: أنه عليم أي ذو علم، وكل هذه
البشارات عظيمة، كل واحدة تكفي أن تكون بشارة {فأقبلت امرأته في صرة }
امرأته هذه: سارة أم إسحاق، أقبلت لما سمعت البشرى {في صرة } في صيحة سرور،
لأنها جاءتها هذه البشرى بعد أن تقدمت بها السن، تصيح وكأنها والله أعلم
تقول: غلام غلام، {فصكت وجهها } أي ضربته بيدها كالمتعجبة، كما يصنع الناس
إلى اليوم إذا أتاهم خبر نادى: الله أكبر. وضرب على وجهه {وقالت عجوز عقيم }
عجوز خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنا عجوز عقيم، فكأنها تعجبت أن تحصل لها
البشرى بهذا الغلام العليم، بعد أن تقدمت بها السن وعقمت من الولد، ولكنهم
بينوا لها السبب الوحيد الذي به وجد هذا الولد، فقالوا: {كذلك قال ربك }
أي مثلما قلنا وبشرنا به، قال الله - عز وجل - وانظر إلى قوله: {قال ربك }
حيث أضاف الربوبية هنا إلى هذه المرأة العجوز العقيم الكبيرة، إشارة إلى أن
هذا من عناية الله بها، لأن إضافة الربوبية إلى الشخص المعين تكون ربوبية
خاصة، والربوبية العامة لكل أحد، والله رب كل شيء، والخاصة ليست لأحد إلا
لمن كان خاصًّا بالله، قال الله عز وجل: {قالوا آمنا برب العـالمين * رب
موسى وهـارون} الربوبية العامة {برب العـالمين }، والربوبية الخاصة {رب
موسى وهـارون }، هنا قالوا لها: {قال ربك } من باب الربوبية الخاصة التي
تقتضي عناية خاصة { قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم } إن شئت فقل:
(الحكيم) خبر إن و(هو) ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وإن شئت فقل: (هو)
مبتدأ و(الحكيم) خبر هو، والجملة خبر إن، وهنا قدَّم الحكيم على العليم؛
لأن المقام يقتضي هنا تقديم الحكمة على العلم، والحكمة هنا في شيئين:
أولاً: تأخير الولادة بالنسبة لهذه المرأة، إن الله لم يؤخر ولادتها إلى أن
تبلغ العجز إلا لحكمة، ثانياً: كونها ولدت بعد أن أيست واعتقدت أنها عقيم،
فهاهنا حكمتان: حكمة سابقة، وحكمة لاحقة، ومن ثم قدَّم اسم الحكيم على اسم
العليم، والقرآن إذا جمع الله فيه بين هذين الاسمين الكريمين: العليم
والحكيم يقدم غالباً العليم، لكن هنا قدَّم الحكيم؛ لأن المقام يقتضي ذلك {
إنه هو الحكيم العليم } وأكثر الناس يظنون أن معنى (الحكيم) أنه المتصف
بالحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في مواضعه، ولكن الواقع أن الحكيم له
معنيان: حكيم من الحكمة، وحكيم من الحكم، فالله - عز وجل - حكيم من الحكمة،
لأن الله تعالى هو الحكم بين العباد، والحاكم في العباد هو حاكم فيهم، وهو
الحكم بينهم، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم {ومن أحسن من الله
حكماً لقوم يوقنون }. {أليس الله بأحكم الحـاكمين
}. وهذا استفهام للتقرير، يعني أن الله تعالى أحكم الحاكمين، وكلاهما في
محله المناسب، ففي سورة المائدة ذكر الله {ومن لم يحكم بمآ أنزل الله
فأولـئك هم الكـافرون }. {الظالمون}. {الفاسقون}، وتتابعت الآيات حتى قال:
{أفحكم الجـاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }. فكأن المقام
مقام مفاضلة بين الأحكام فبين أن حكم الله أحسن الأحكام، لكن في سورة
التين المقام مقام سلطة وقوة، والله أحكم الحاكمين يعني أن حكمه نافذ
وسلطته تامة، ولا أحد يعارض حكمه أبداً مهما قويت شوكته، وانظر إلى قول
الله تعالى عن عاد {من أشد منا قوةً }. يعني لا أحد أشد منا قوة، فقال الله
تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم }. وعذبهم بألطف
الأشياء عذبهم بالريح، الهواء اللطيف الذي لا تحس بملمسه، وإن كان قوياً
بأن يدفع كل شيء، وهو أقوى من الماء كما هو معروف، وهذا الهواء اللطيف أهلك
به هؤلاء القوم الذين يقولون: من أشد منا قوة، أهلكهم به، فالحاصل أن الله
أحكم الحاكمين حكمه نافذ صادر عن قوة وسلطان، ثم إن أحكم الحاكمين تضمن
أيضاً حسن الحكم، فصار حكم الله - عز وجل - يتضمن أنه الحاكم في العباد،
وأنه الحاكم بين العباد، وأن حكمه أحسن الأحكام، وأنه تعالى أحكم الحاكمين،
والحكمة البالغة لله ولا شيء من الأفعال القائمة بالوجود أحكم من حكمة
الله، وإذا آمنت بهذا أيها المؤمن سهل عليك أمور كثيرة تشكل على كثير من
الناس، منها بعض الأحكام الشرعية لا يدرك الناس، أو أكثرهم، أو بعضهم
حكمتها، فهل نقول: إذا لم يدرك الحكمة إنه لا حكمة لها، أو نقول: إن لها
حكمة، لكن عقولنا قاصرة، نقول: لها حكمة ولكن عقولنا قاصرة، وإذا آمنا هذا
الإيمان اطمأننا إلى كثير من الأمور الشرعية التي تخفى علينا حكمتها، فنحن
لا ندرك الحكمة في كون الصلوات الخمس خمساً، أو أنها سبع عشرة ركعة، وأشياء
كثيرة من الأمور الشرعية لا يدرك الإنسان حكمتها، لكن إذا آمنت أن الله
حكيم آمنت بأنه لابد لهذا الشيء من حكمة تقتضيه، كذلك في الأمور القدرية قد
يرسل الله سبحانه وتعالى عذاباً يشمل الصالح والطالح، وقد يرسل الله
عذاباً على قوم لا تتوقع أن يصيبهم العذاب، فهل تقول: ما الحكمة؟ أو تقول:
إن الله عز وجل لابد أن يكون تقديره لهذا عن حكمة؟ ولذلك أقول: إن الواجب
علينا فيما أمر الله به من الشرائع، وفيما قضاه من الأقدار أن نستسلم غاية
التسليم، وأن لا نعترض قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }.
أقسم الله - عز وجل - أنه لا يمكن لأحد أن يؤمن إلا بهذه الشروط الثلاثة،
هي: أن يحكموك فيما شجر بينهم، والثاني: ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً، يعني
لا تضيق صدورهم بحكم الله، الثالث: أن يسلموا تسليماً، وأكد هذا المصدر
تسليماً يعني تسليماً تامًّا، فلا يتهاون الإنسان ويتباطأ في تنفيذ حكم
الله، فإذا وجدت من نفسك عيباً يتعلق بهذه الأمور الثلاثة فصحح إيمانك،
فإذا رأيت أنك تود أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله فصحح الإيمان، وإذا
رأيت من قبلك أنك لا تريد إلا حكم الله ورسوله لكن يضيق صدرك بحكم الله
ورسوله تحدث نفسك أنك لا يمكن تتحاكم إلى غير الله ورسوله لكن يضيق صدرك
فأنت ناقص الإيمان، وإذا كنت لا يضيق صدرك ولا تريد التحاكم لغير الله
ورسوله وأنت منشرح الصدر لحكم الله ورسوله، لكن تتباطأ وتتهاون فأنت ناقص
الإيمان، اقرأ قول الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصـارهم كما لم يؤمنوا به
أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }. لما لم يؤمنوا به أول مرة ولم يقبلوه
من أول مرة صارت - والعياذ بالله - قلوبهم متقلبة، وتركهم الله في طغيانهم
يعمهون، ولهذا يجب عليك أيها المؤمن أن تبادر بانقياد تام لحكم الله تعالى
القدري.
وأتكلم
على آداب السلام، حيث إن الملائكة قالوا: (سلاماً)، فقال إبراهيم: (سلام)،
ذكرنا فيما سبق أن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحسن من ابتداء
الملائكة؛ لأن رد إبراهيم عليه السلام جملة اسمية تفيد الثبوت والاستمرار،
بخلاف سلام الملائكة عليهم السلام، واعلم أن رد التحية واجب، لقول الله
تبارك وتعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }. فقال: {إذا
حييتم} ولم يذكر من يحيينا، فيشمل أي إنسان يحيينا، فإننا نحيه ونرد عليه
أحسن من تحيته، أو مثلها كما قال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو
ردوهآ }. فبدأ بالأحسن، لأنه هو الأفضل، أو ردوها، أي: ردوا مثلها، ويشمل
هذا ما إذا سلم علينا أحد من اليهود، أو النصارى، أو البوذيين، أو غيرهم،
فنرد عليهم، لكننا لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام، لنهي النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم عن ذلك (11) ، ثم إن السلام المشروع هو: السلام عليكم،
وأما أهلاً وسهلاً، ومرحباً، وكيف حالك وما أشبهها، فهذا ليس بمشروع،
المشروع أن تبدأ أولاً بالسلام، ولهذا في حديث المعراج حين كان النبي صلى
الله عليه وسلم يمر بالأنبياء فيسلم عليهم، قال: فرد عليه السلام، وقال:
مرحباً بالنبي الصالح (12) ، فابدأ أولاً بقولك السلام عليكم، والجواب يكون
مثل ذلك أو أحسن، يكون: عليكم السلام، أو وعليكم السلام، أو عليكم السلام
ورحمة الله، أو عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كل هذا من المشروع، ونرى
كثيراً من الناس إذا سُلِّم عليه يقول: أهلاً وسهلاً، أو يقول: مرحباً بأبي
فلان، وهذا لا يجزىء، فلو قال: أهلاً وسهلاً، مدى الدهر فإنه لا يجزىء؛
لأن الله يقول: {فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }، ومعلوم أن الذي يقول: السلام
عليك، يدعو لك بالسلام من كل نقص ومن كل آفة، ومن كل مرض في القلب والبدن،
ولا يكفي أن تقول مرحباً وأهلاً، بل لابد أن تقول: عليك السلام، أو وعليكم
السلام، وإن زدت ورحمة الله وبركاته كان أحسن.
ثانياً:
من السنة أن يسلم الصغير على الكبير؛ لأن حق الكبير على الصغير أعظم من حق
الصغير على الكبير، فيبدأ الصغير بالسلام على الكبير، ولكن إذا قدر أن
الصغير لم يسلم فهل يدع الكبير السلام، لأن الحق له، أو يسلم لئلا تفوت
السنة؟
والجواب:
يسلم لئلا تفوت السنة، فكون الإنسان يقول: أنا صاحب الحق، لماذا لم يسلم
عليَّ، هذا خطأ، صحيح أنك صاحب الحق وأن المشروع أن يسلم هو عليك، لكن إذا
لم يفعل فسلم أنت.
ثالثاً:
يسلم الماشي على القاعد (13) ، ولو كان القاعد أصغر، فإذا مر شخص بإنسان
قاعد فليسلم عليه، ولو كان أصغر منه سنًّا، أو قدراً، وقد كان من هدي النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يسلم على الصبيان إذا مر بهم (14) ، وفي
ذلك فوائد عظيمة منها: التواضع، أن الإنسان يضع نفسه إذا سلم على من هو
دونه، ومنها الرحمة؛ لأن سلامك على الصغار نوع من الرحمة، وقد أخبر النبي
عليه الصلاة والسلام أن الراحمين يرحمهم الله (15) - عز وجل -، ومنها تعويد
هؤلاء الصبيان على السلام، يعني أن الصبي يعرف شعار المسلمين أن يسلم
بعضهم على بعض، فيأخذ من هذا أدباً وخلقاً ينتفع به في شبابه وبعد هرمه.
رابعاً:
يسلم القليل على الكثير كالصغير مع الكبير، فإذا تقابل جماعة خمسة وستة
فيسلم الخمسة على الستة، لأن الستة فيهم زيادة، فهذه الزيادة لها حق
الزائد، فيسلم القليل على الكثير، وإذا لم يفعلوا فليسلم الكثير على
القليل، لئلا تفوت السنة بينهم.
خامساً:
يسلم الراكب على الماشي، فإذا تقابل رجلان أحدهما يمشي، والثاني راكب في
سيارته أو على بعيره فيسلم الراكب على الماشي، لأن الراكب له علو فيسلم على
الماشي، لأن السنة جاءت بهذا (16) ، كذلك الصاعد على النازل، فلو أن اثنين
التقيا في درجة سلم فإن الصاعد هو الذي يسلم على النازل، وإذا لم تأت
السنة ممن عليه أن يبدأ بها فليبدأ بها الثاني، قال النبي صلى الله عليه
وسلم : «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض
هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (17) قال: خيرهما، فدل ذلك على أن من بدأ
غيره بالسلام فهو خير، وهو كذلك لأنك إذا سلمت حصلت عشر حسنات، ثم إذا رد
صاحبك حصل عشر حسنات، والسبب الذي جعله يحصل عشر حسنات هو البادي، لولا أنه
سلم ما رد، فتكون أنت متسبباً لهذا الذي عمل عملاً صالحاً فلك أجره، ولهذا
قال العلماء: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، ثم أوردوا على هذا إشكالاً
فقالوا: ابتداء السلام أفضل من رده، فكيف تكون السنة أفضل من الواجب؟
والقاعدة الشرعية أن الواجب أفضل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي:
«ما تقرَّب إليَّ بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه» (18) أجابوا عن ذلك
قالوا هذا الإشكال جوابه: أن هذا الواجب كان مبنيًّا على السنة، فصارت
السنة التي بني عليها الواجب، لمن أتى بها ثواب أجره الخاص وثواب أجر
الراد.
سادساً:
ينبغي أن يكون بصوت مسموع، فبعض الناس يلاقيك ويسلم لكن تشك: هل سلم أو
لا؟ لأنه لم يرفع صوته، وهذا غلط، ارفع الصوت على وجه يدل على أنك فرح بهذا
الأخ الذي قابلك أو الذي سلمت عليه لا بصوت مزعج ولا بخافت لا يسمع، وعلى
العكس من ذلك، بعض الناس يسلم بصوت مزعج، والدين وسط بين الغالي والجافي،
فنقول: سلم سلاماً مسموعاً يسمعه أخوك ويكون بأدب واحترام.
سابعاً:
من آداب السلام أيضاً: أن يكون المسلم منبسط الوجه منشرح الصدر، فإن من
المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق (19) ، فإن طلاقة الوجه وانشراح الصدر
والابتسامة في وجه أخيك لا شك أنها من الأمور المطلوبة لما فيها من إدخال
السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك من الأمور المستحبة التي
تُؤجر عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل معروف صدقة» (20) .
ثامناً:
رد السلام المحمول إن كان الحامل له شخصاً وقال: فلان يسلم عليك. فقل:
عليك وعليه السلام، وإن شئت فقل: عليه السلام، أي على الذي حمله، أما إذا
كان محمولاً بكتابة يعني إنسان كتب لك كتاباً، وقال: السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته. فإن كنت تريد أن تجيبه بكتاب فرد عليه بجوابك، مثلاً: كتب
إليك إنسان كتاباً وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تكتب إليه:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قرأت كتابك وفهمت ما فيه، والجواب كذا
وكذا، وأكثر الناس الآن لا يهتمون بهذا، تجده يكتب الجواب ويقول في
ابتدائه: السلام عليكم ورحمة الله. هذا طيب، لكن الذي سلم عليك يريد جواباً
فقل: جواب - يعني -: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وصلني كتابك أو
قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وهذا الجواب، وتجيبه بما سألك، وإذا كان لا
يحتاج إلى جواب مثل أن يكون الشخص كتب إليك كتاباً يخبرك بخبر لا يحتاج إلى
جواب، فهنا إذا قرأت الكتاب فقل: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، لا أقول
وجوباً، لأن صاحبك لن يسمع، لكن على سبيل الاستحباب، رجل دعا لك بظهر
الغيب فادع له أنت بظهر الغيب.
{قال
فما خطبكم أيها المرسلون } القائل: ما خطبكم هو إبراهيم عليه الصلاة
والسلام، أي ما شأنكم أيهاالمرسلون وهم الملائكة {قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم
مجرمين * لنرسل عليهم حجارةً من طين} يعني أرسلنا الله - عز وجل -، لأنه
من المعلوم أنه لا يرسل أحداً من الملائكة إلا خالقهم سبحانه وتعالى { إلى
قوم مجرمين } أي: ذوي جرم عظيم ألا وهو اللواط - والعياذ بالله -، فإنهم
كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، فيأتون ما لم يخلق لهم، ويدعون ما
خلق لهم، كما قال لهم نبيهم لوط عليه الصلاة والسلام: {وتذرون ما خلق لكم
ربكم من أزواجكم }، وهذه الفاحشة فاحشة نكراء، لا يقرها عقل، ولا فطرة، ولا
دين، ولهذا كانت عقوبتها القتل للفاعل والمفعول به، إذا كانا بالغين
عاقلين، سواء كان محصنين أم غير محصنين، بخلاف الزنى، فالزنى أهون عقوبة،
لأن الزنى من لم يكن محصناً فعقوبته أن يجلد مائة جلدة ويغرب عن البلد سنة
كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع: فعقوبته أن يرجم بالحجارة
حتى يموت، أما هذا فعقوبته القتل بكل حال، كما جاء في الحديث: «من وجدتموه
يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (21) ووقعت هذه الفاحشة في
عهد أبي بكر - رضي الله عنه - فأمر أن يحرق كل من الفاعل والمفعول به، لأن
الإحراق أعظم عقوبة يعاقب بها بنو آدم، وكذلك جاء عن بعض الخلفاء أنهم
أمروا بإحراق اللوطي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أجمع
الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل اللوطي فاعلاً كان أو مفعولاً به، لكنهم
اختلفوا: كيف يقتل؟ منهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرمى بالحجارة حتى
يموت كالزاني المحصن، ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق في البلد، يعني في
مكان مرتفع، أعلى ما يكون في البلد، ثم يتبع بالحجارة حتى يموت، فالمهم
أنهم متفقون على قتله، ولا شك أن قتله هو الحكمة، لأن هذه الفاحشة متى دبت
في الرجال صار الرجال كالنساء، وبدأ الذل والعار والخزي على وجه المفعول
به، لا ينساه حتى يموت، ثم استغنى الرجال بالرجال وبقيت النساء، لأن هذه
الفاحشة - والعياذ بالله - إذا ابتلي بها الإنسان لا يلتفت إلى غيرها،
لأنها مرض، فتاك ساري، فإذا أعدم هؤلاء وهم في الحقيقة جرثومة فاسدة مفسدة
للإنسان، كان ذلك عين المصلحة، ثم اللواط - والعياذ بالله - لا يمكن التحرز
منه، لأنه بين ذكرين لا يمكن لأي إنسان يجد ذكرين يمشيان في السوق أن ينكر
عليهما اجتماعهما، ولكن الزنى إذا رأيت رجلاً مع امرأة تستنكره أو تتهمه
وتتكلم معه، لذلك كانت عقوبة الإعدام في حق اللوطي أوفق ما يكون للحكمة
وللرحمة، فهي رحمة بالفاعلين، يعني باللائط والملوط به، حتى لا يبقيا في
حياتهما يكتسبان الإثم وتزداد العقوبة عليهما، ورحمة بالمجتمع فتكون
عقوبتهما نكالاً حتى لا يفسد المجتمع، لهذا قالت الملائكة لإبراهيم: {إنآ
أرسلنآ إلى قوم مجرمين} وجرمهم - والعياذ بالله - ما سبقوا عليه، كما قال
لهم نبيهم {ما سبقكم بها من أحد من العـالمين }. {لنرسل عليهم حجارةً من
طين * مسومةً عند ربك للمسرفين} حجارة من طين، لكنه ليس الطين الذي يتفتت
بل الصلب العظيم الذي إذا أصابت هذه الحجارة أحداً من الناس وضربته على
رأسه خرجت من دبره، لا يردها عظم ولا لحم، لقوتها وشدتها وصلابتها -
والعياذ بالله - {مسومةً عند ربك } أي: معلمة عند الله، يعني عليها علامة،
لأن كل شيء عند الله بمقدار، لا تظن أن الأمور التي يقدرها الله - عز وجل -
تأتي هكذا صدفة، بل هي بمقدار، حتى تباعد ما بين النجوم، وتفاوت ما بينها
من الكبر والإضاءة بمقدار، لم يجىء هكذا فلتة أو جاء صدفة، كل شيء عند الله
بمقدار ولابد، فهذه الحجارة معلمة عند الله، وهل هي معلمة بمعنى أن هذه
مكتوب عليها مثلاً حجارة عقوبة؟ أو مسومة بالنسبة لمن تقع عليه؟ الجواب:
الثاني، لأن هذا أدق، هذه الحجارة لفلان، هذه الحجارة لفلان، مسومة عند ربك
{للمسرفين } أي: للمتجاوزين حدودهم، ولا شك أن اللواط مجاوزة للحد
والإسراف - والعياذ بالله - قال الله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من
المؤمنين} أخرجناهم أي: أمرناهم أمراً قدرياً فخرجوا، قال الله تعالى للوط:
{فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك }. فأخرج الله
من كان فيها من المؤمنين، وهم لوط وأهله إلا امرأته، ولهذا {فما وجدنا فيها
غير بيت من المسلمين } بيت واحد، قرية كاملة يدعوهم نبيهم إلى توحيد الله
وإلى ترك هذه الفاحشة ما اتبعه أحد حتى أهل بيته لم يخلصوا، فيهم من لم
يؤمن بلوط، فانتبه يا أخي الداعية، لا تجزع إذا دعوت فلم يستجب لك من
المائة إلا عشرة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يبقون في أممهم دهوراً كثيرة
ولا يتبعهم إلا القليل، ولوط عليه الصلاة والسلام لم يتبعه من القرية أحد،
وتخلف عن دعوته من تخلف، ولهذا قال: { فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين} وهنا يتساءل الإنسان في نفسه: كيف قال: { فأخرجنا من كان فيها من
المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}، هل المسلمون هنا بمعنى
المؤمنين في الآية التي قبلها؟ ذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: إن في هذا
دليلاً على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وذهب الآخرون إلى الفرق،
وقالوا: أما المؤمنون فقد نجوا، وأما البيت فهو بيت إسلام، لأن المظهر في
هذا البيت - بيت لوط - أنه بيت إسلامي، حتى امرأته لم تتظاهر بالكفر،
تظاهرت بأنها مسلمة، ولهذا قال الله تعالى في سورة التحريم: {ضرب الله
مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين
فخانتاهما } ليس المعنى خانتاهما بالفاحشة، بل خانتاهما بالكفر، لكنه كفر
مستور، وهو خيانة من جنس النفاق، ولهذا يقال للمجتمع الذي فيه المنافقون:
إنه مجتمع مسلم، وإن كان فيه المنافقون، لأن المظهر مظهر إسلام، إذن نقول: {
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} إنما قال: من المسلمين، لأن امرأته
ليست مؤمنة، ولكنها مسلمة.