رمضان يدك حصون التغريب
رمضان يدك حصون التغريب
أحمد بن عبد المحسن العساف
أهلاً بك يا
رمضان، فقد اشتدَّ إليك شوقُنا، ننتظرك بعد عام من فراقك وقد اختلفتْ
بعدَك أشياءُ كثيرة، كنَّا فيما مضى نتشوف لك؛ للاستزادة من الخير وتربية
النَّفس المؤمنة المطمئنَّة، ونحن اليومَ نتلقَّاك لأجل البناء ولأجل
الهدم أيضًا؛ لتبنيَ فينا يا رمضان ما نرومه من خير وفضيلة، ولتهدم ما
شاده المُبطِلون من مباني الفساد وصوره في مجتمعنا ونفوسنا، فاللهم باركْ
لنا في شهرنا أفرادًا ومجتمعات وحكومات، واجعله جسرًا للعابرين بخير،
وسدًّا في وجه دعاة الشَّر.
ويدخل رمضان بعد رؤية
هلاله أو إكمال عدَّة شعبان، ويعلن الحاكم دخول الشَّهر بناءً على قول
العلماء والقضاة، وفي هذا الإجراء المعتاد سنويًّا مراغمةٌ لأولياء
الشَّيطان الذين يريدون قطع العلائق بين العالم والحاكم، وتحويلها إلى
قضية فلكية لحساب دخول الشُّهور، مع أنَّهم بعيدون عن اتِّباع مرضاة الله
في وسائلهم، وحانقون على التَّقويم الهجري، وحرصهم على إثارة هذه المسألة
لمكاسب حجاجية فقط، وقد أغاظهم أن يكون هلال رمضان سببًا في تأكيد وجوب
رجوع الحاكم إلى العلم وأهله، فحيَّهلاً بهلال نغَّص على أهل الضلالة،
وزادهم مرارة وحسرة.
وقد أخبر النَّبي - صلى
الله عليه وسلم - عن تصفيد المرَدَة من الشَّياطين في أول ليلة من شهر
رمضان المبارك، فلا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في
غيره؛ لاشتغالهم بالصِّيام، واستشعارهم روحانية الموسم ونفحات الرَّب
الجليل - سبحانه - وفي ذلك قمعٌ للشَّهوات بأنواعها، وانصراف إلى الخيرات
المختلفة، فالحمد لله الذي جعل رمضانَ زمانًا لقطع تواصل شياطين الإنس مع
مردة الشَّياطين؛ لترتاح مجتمعاتنا من كيد وكلاء الشَّيطان وشيعته.
ومع أول ليلة من ليالي
رمضان يشرع غالب المسلمين في أعمالٍ تعبديَّة، وبرامجَ خيريَّة، فيصومون
مع أنَّ النَّهار طويل، والشَّمس لافحة، والرَّقيب البشري لا يقوى على
المتابعة في كلِّ مكان، فيرتقي المسلم مرتبة نحو الإيمان، وربما أخرى
باتجاه الإحسان، وإنَّ مجتمعًا يعيش بعض أفراده بين هذه الدَّوائر
لَمجتمعٌ صالح ولو كره المنافقون، وقد يذنب الشَّاب فيتوب، وتخطئ الفتاة
فتؤوب، ويزلُّ العالم فيرجع، ويتمكن المقتدر فيعفو، والحمد لله الذي جعل
رمضان موسمًا لتثبيت المرابطين، وتكثير العائدين، والتَّنكيل على المرجفين
بما يرونه ويسمعونه ويحسُّونه.
وتزدحم المساجد في
الشَّهر الأجلّ، ويكثر قاصدو مكة أو المدينة والمرابطون حول المسجد الأقصى
وأكنافه، ولا صوت يعلو على القرآن يُتلى، ويسمعه المصلون في التَّراويح،
ويتابعه المشاهدون عبر الفضائيات والإذاعات منقولاً من الحرمين بأصوات
عذبة ماهرة، وإنَّ للقرآن مزيدَ اختصاص في رمضان، فبه نزل ورُوجع، وفيه
الختمات والتَّأملات، وإنَّ قارئ الكتاب العزيز ليقف منه على آيات تبني
الإيمان وتجدّده، وآيات تهدم النِّفاق والتَّغريب وتفضحهما، فكم من آية
مرشدة، وأخرى كاشفة، وإنَّ النَّظر فيه بتدبُّر مغنم طالما تمنَّاه
العارفون، ورمضان فرصة للتِّلاوة مع التَّدبُّر والعمل، واستنباط الدُّروس
من سوره الفاضحة كـ(التَّوبة) و(المنافقون).
وما أكثرَ ازدحامَ
النَّاس على العلماء والمفتين في رمضان! فهذا سائل، وذاك مستشير، وغيرهم
من أصحاب الحوائج والشَّفاعات، وإنَّ هذا التَّلاحم بين علماء الأمَّة
وشبابها وعامتها لَعلامةُ خيرٍ وصلاح أقضَّت مضاجع المفسدين، حتى تبرَّموا
من سؤال العامة عن أكثر شؤونهم، وما فتئوا يشغبون على الفتوى وأهلها،
ويفرحون بأي قول شاذ، ولو فاه به نكرةٌ أو غير ذي اختصاص.
وللمرأة في رمضان شأن
آخر، فالحامل والمرضع وذات العذر لهنَّ أحكام خاصَّة تفسد على دعاة
المساواة، وتنقض عرى "السيداو"، وتخزي مَنْ ذلَّ لها، ولعمر الله إنّي
لأعجب من "سيداوية" تصوم - إن صامتْ - ثمَّ تفطر لعارض شرعي وهي ما برحت
تنعق بالمساواة ومرجعية السيداو! وكما ينقض رمضان اتفاقيةَ الفساد فإنه
يؤكد على خصوصية المجتمعات الإسلامية دون غيرها، وعلى خصوصيات لكل إقليم
دون غيره، والخصوصية عقبة في طريق مَنْ يطرق أبوابًا ليست لنا أهل
الإسلام.
وفي دهاليز الحياة، ومع
مشاغل الدُّنيا قد ينصرف النَّاس عن بعض شؤون دينهم، حتى تأتي أحداث توقظ
النَّائم، وتنبِّه الغافل، وهذه الأحداث تكاثرتْ أخيرًا بصورة لافتة،
وأجبرت معها عددًا من المثقفين والسياسيين إلى مراجعة أفكارهم، وإعادة
تقييم ما كانوا يعتقدونه سابقًا، فمن هذه الأحداث الاعتداء على المقدَّسات
والرُّموز والشَّعائر، واحتلال البلاد، وإبادة الشُّعوب والأقليات، ومنها
مواسم مباركة تتعاقب، وإنَّ موسم رمضان له القدح المعلَّى من بينها، فهل
نرى فيه بدايات توبة عامَّة وخاصَّة، وأوبة شعبية ورسمية، وصلاح الوسائل،
واستقامة الأنظمة؟