الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متكبرا على أصحابه منتقصا من قدرهم
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متكبرا على أصحابه منتقصا من قدرهم(الاول)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متكبرا على أصحابه منتقصا قدرهم؛ إذ كان يمارس نفوذه عليهم، ويستبد بالرأي دونهم، ويرون أن في تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه ما يثبت أن روح الكبر والزهو والتعالي كانت تسيطر عليه.
ويستدلون على ذلك بثناء كثير من آيات القرآن الكريم عليه، وتفضيلها إياه على سائر البشر من جهة، وتمجيد المسلمين له، وتعظيمهم إياه من جهة أخرى لاقى عنده رغبة وهوى، فتمادى في زهوه، وتقديس ذاته، وازداد انتقاصه لأصحابه فسماهم "الصحابة"، ولم يسمهم "الإخوان"؛ لأن الأخوة تعني المساواة به، وهو لا يريد ذلك، في حين فضل عليهم أتباعه الذين يأتون من بعدهم؛ وذلك حين قال: «وددت أني لقيت إخواني، فقال أصحابه: أولسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني». ويرمون من وراء ذلك إلى اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزهو والتعالي؛ بغية التشكيك في تقديره لأصحابه، والطعن في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن قرائن الواقع وشواهد التاريخ لدالة على عظيم تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، والمطالع لسيرته - صلى الله عليه وسلم - يراه متعهد حاضرهم، سائلا عن غائبهم، مجالس فقيرهم، معين ضعيفهم، عائد مريضهم، مشيع ميتهم، مشبع جائعهم، كاسي عاريهم، راعي أراملهم وأيتامهم.
2) ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفرض نفوذه على أتباعه، وهو الذي أرسى مبدأ الشورى واختار أن يكون عبدا رسولا، وإن في تعظيم الصحابة وحبهم له - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته ما يدل على ما كان من وده لهم وتواضعه معهم.
3) إن القرآن الكريم الذي أثنى على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات هو نفسه الذي أقر بشريته وأكد عبوديته لله - عز وجل - في آيات أخرى.
4) إن تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحبة والأخوة لا يحمل أي انتقاص لقدر الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الأخوة لا تعني المساواة والمماثلة كما يظنون. ثم إن منزلة الصحبة أعلى المنازل في الإسلام بعد النبوة.
5) إن اشتياق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأتباعه الذين لم يروه وتسميتهم بـ "إخوانه" لا يعني تفضيلهم على أصحابه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصف حالة وجدانية شعورية تعبر عن شوقه لرؤية أمته كلها بما فيهم صحابته.
6) بالاحتكام إلى العقل والمنطق نجد أن الصحابة هم أفضل هذه الأمة؛ وذلك لأنهم الجيل الأول الذي تربى على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبرزت فيه خصائص الشخصية المسلمة الكاملة.
التفصيل:
أولا. إن كل قرائن الواقع وشواهد التاريخ تدل على عظيم تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه:
إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي تعامله مع أصحابه وغيرهم يجده أبعد الناس عن الكبر والزهو والتعالي، بل إن كل تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - تدل على شدة تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ولين جانبه مع الناس أجمعين، فما بالنا مع أصحابه، ولم لا وقد أوصى الله رسوله بالمؤمنين خيرا؛ فقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215)( (الشعراء)، وقد استجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربه؛ "فكان - صلى الله عليه وسلم - رءوفا رحيما بهم، يتعهد حاضرهم، ويسأل عمن غاب منهم، ويسلم عليهم، ويشمت عاطسهم، ويواسي فقيرهم، ويعين ضعيفهم، ويشاركهم في السراء والضراء، ويعود مريضهم، ويشيع ميتهم، ويكسو عاريهم، ويشبع جائعهم، ويرعى أراملهم وأيتامهم، ويجالس فقراءهم والأعبد منهم، ويحنك أطفالهم، ويبارك عليهم، ويداعب صبيانهم ليدخل السرور على نفوسهم.
وتروي كتب السير أنه ما رئي - صلى الله عليه وسلم - مادا رجليه بينهم، ولا عابسا في وجه أحد منهم، ولا استأثر عليهم بشيء لنفسه ولا لأهله، ولما عرض عليه شريكاه في ركوب البعير في غزوة بدر أن يعفياه من نوبته في المشي أبى، وقال: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».[sup][1][/sup] وفي حجة الوداع ذهب ليشرب من السقاية، فأراد عمه العباس أن يميزه بشراب خاص من البيت، فأبى وقال:«لا حاجة لي فيه، اسقوني مما يشرب منه الناس» [sup][2][/sup] [sup][3][/sup].
"وكان من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - السامية التي تحلى بها التواضع، وخفض الجناح لمن تبعه من المؤمنين، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس تواضعا، ومن أشدهم كراهية للكبر والتعالي على الأصحاب؛ لذا ذم الكبر، والمتكبرين في كثير من أقواله، بل وتوعد بالعذاب هذا الصنف من الناس، إذ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» [sup][4][/sup].
وهذا الخلق السامي الذي اتصف به - صلى الله عليه وسلم - عرفه كل من عاصره وعاشره، فقد عاش مع أصحابه كواحد منهم، لم يتميز عنهم في شيء من الأشياء، يأكل مما يأكلون ويلبس مما يلبسون، ويجلس معهم على الأرض كما يجلسون، حيثما انتهى به المجلس جلس، لا يستنكف أن يجالس الفقراء والمساكين، يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، يأكل مع الخادم، ويركب الحمار، إلى غير ذلك من مظاهر التواضع وخفض الجناح الذي اشتهر به صلى الله عليه وسلم". [sup][5][/sup]
وغني عن الذكر أنه كان يركب البعير والحمار، ويردف وراءه غيره، ولا يقبل أن يسير أحد وراءه وهو راكب، وقد حج على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة»،[sup][6][/sup] ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»[sup][7][/sup] [sup][8][/sup].
وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس تواضعا، وأبعدهم عن الكبر والخيلاء، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «يا رسول الله، كل جعلني الله فداك متكئا؛ فإني أهون عليك، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض وقال: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»[sup][9][/sup] [sup][10][/sup].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحمل حاجته من السوق بنفسه، وكانت تقابله المرأة في سكك المدينة فتستوقفه فيقف حتى يقضي لها حاجتها، وعن أنس قال: «إن كانت الأمة - الجارية - من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت» [sup][11][/sup].
وهذا الجانب العظيم من شخصيته جعله يرفض كل مظاهر التعظيم والتفخيم من القيام وتقبيل الأيدي، والإطراء، والألقاب، وغير ذلك من الأمور التي يلهث خلفها الحكام السياسيون.
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحب الناس إلى أصحابه غير أنهم لم يكونوا يقومون له لكراهيته ذلك، «وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد من بني عامر، فلما كانوا عنده قالوا: أنت سيدنا فقال: "السيد الله تبارك وتعالى"، فقالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم[sup][12][/sup] الشيطان».[sup][13][/sup] وهذا كراهية منه للإطراء والألقاب.
ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل على جماعة جلس، حيث ينتهي به المجلس، وحث أصحابه على ذلك، وكان يوسع لهم في المجلس، ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوي بينهم، ويلين جانبه لهم، ويغض الطرف عما لا يحسن إلا أن يكون في السكوت ترك لواجب الإرشاد، وإن أرشد ففي رفق، يكتفي بالإشارة، فإن لم يكف كان التعريض، فإن لم يكف كان التنبيه في تعميم، فإذا رأى بعض الناس يسيء لا يواجهه بالإساءة، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا شك أنه إذا كان التوبيخ فيه معنى العموم كان ألطف، وكان مع ذلك أفعل وأبلغ أثرا[sup][14][/sup].
وقد كان تواضعه - صلى الله عليه وسلم - شهادة على عظمته، فهو تواضع يخمد النفس ويذيبها، ويبطل أنانيتها، وتنقلع به شجرة الرياسة والكبر من النفس، فلا يأخذ الزهو والغرور من النبي - صلى الله عليه وسلم - حظه، بل كان - صلى الله عليه وسلم - سيد المتواضعين، وله في ذلك المثل الكامل والحظ الوافر[sup][15][/sup].
وكان يدنو - صلى الله عليه وسلم - من المريض ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله، ويقول: «لا بأس عليك، طهور بإذن الله»[sup][16][/sup].
وعن زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه ما رواه عبد الله بن بريدة فقال: سمعت أبي بريدة يقول: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي جاء رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله، اركب. وتأخر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأنت أحق بصدر دابتك مني إلا أن تجعله لي، قال: فإني قد جعلته لك قال: فركب»[sup][17][/sup].
فهل يحق لأحد بعد هذا أن يقول إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كانت تغلب عليه روح الكبر والتعالي، ويمارس نفوذه على أصحابه، مكذبين بذلك كتب السير والشمائل والتاريخ.
وقد فتحت عليه الدنيا ودانت له الجزيرة كلها فما أخرجه ذلك عن تواضعه وخلقه، ولما دخل مكة فاتحا منتصرا طأطأ رأسه حتى لتكاد تمس مقدمة الرحل تواضعا لله تعالى، إلى غير ذلك من الأخبار الصحاح والحسان التي زخرت بها كتب الحديث والسير والشمائل المحمدية[sup][18][/sup].
ثانيا. ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفرض نفوذه على أتباعه وهو الذي أرسى مبدأ الشورى:
لقد رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته قول الله عز وجل: )وشاورهم في الأمر( (آل عمران:١٥٩) نبراسا له، ومع كونه المعصوم المؤيد بالوحي إلا أنه لم يهمش أصحابه - رضي الله عنهم - بل جعل لهم دورا عظيما في مشاركته الرأي في كل الأمور، وقد كان الملوك قبل عهد النبوة يستبدون برعاياهم ولا يرون الشورى واجبة عليهم، في حين أنه - صلى الله عليه وسلم - جعلها مبدأ، مع كونه المؤيد بالوحي؛ ليقتدي به غيره في المشاورة وتصير سنة في أمته، وقد كان[sup][19][/sup].
والأمثلة على ذلك كثيرة تغني الإشارة إليها عن حصرها، ومنها ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - قبل غزوة بدر، وفي أسرى بدر، ويوم أحد، والأحزاب، وقبول مشورة عمر - رضي الله عنه - في ترك حدود الشام والعودة إلى المدينة وغيرها كثير.
وبالجملة نقول: "إن هذه النفسية الرفيعة عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرأي، وأدركت مفهوم السمع والطاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرأي المعارض لرأي سيد ولد آدم - عليه السلام - وتبدو عظمة القيادة النبوية في استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة الجديدة المطروحة من جندي من جنودها، أو قائد من قوادها" [sup][20][/sup].
ولا عجب أن تكون تلك أخلاق النبي، وأن يكون ذاك نهجه وسيماه وهو الذي خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار العبدية تواضعا لله - عز وجل - وهذا ثابت من حديث أبي هريرة، ولفظه: «جلس جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك، أملكا أجعلك أم عبدا رسولا؟ فقال له جبريل: تواضع لربك يا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بل عبدا رسولا» [sup][21] [22][/sup].
وإذا كان هؤلاء قد زعموا احتقار النبي - صلى الله عليه وسلم ـلأصحابه، وفرض نفوذه عليهم. فماذا عن تزكية الله لهم وثنائه عليهم في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أما كان من المنطق لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يفرض نفوذه ويتعالى على أصحابه أن يخفي مثل هذه الآيات أو على الأقل لا يمدحهم ولا يثني عليهم، كما ورد في سنته - صلى الله عليه وسلم - ومن نماذج تزكية الله لهم في كتابه الكريم الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم"قوله عز وجل: )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)( (الأحزاب)، وقال - عز وجل - عنهم: )رضي الله عنهم ورضوا عنه( (البينة: 8)، وقال - عز وجل - في حقهم: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18)( (الفتح)، وزكاهم الله - عز وجل - بقوله: )محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)( (الفتح).
وهذا طرف من جملة ما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - عز وجل - في قرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ليس هذا فحسب، بل إننا إذا تأملنا السنة وجدنا ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه كثيرا متواترا، ولو كان - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا من أجل تهميش أحد لكتم شهادته لأصحابه حتى لا يصبح أحد غيره المشار إليه والمثنى عليه، وفيما يأتي نذكر طرفا منها للتدليل على ما نحن بصدده:
· فعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا، " ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن» [sup][23][/sup].
· وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «مر بجنازة فأثني عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبت"، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبت"، قال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خيرا، فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» [sup][24][/sup].
· وعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه. قال: «صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال: فجلسنا. فخرج علينا فقال: "ما زلتم ها هنا"، قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: "أحسنتم، أو أصبتم"، قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» [sup][25][/sup].
· وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان فيغزو فئام[sup][26][/sup] من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم» [sup][27][/sup].
· وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني، وصاحب من صاحبني» [sup][28][/sup] [sup][29][/sup].
وأكثر من هذا برهانا فيما نحن بصدده ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم سب أصحابه، ومن ذلك ما يأتي:
· عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد[sup][30][/sup] أحدهم ولا نصيفه»[sup][31][/sup].
· وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى اختارني، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف[sup][32][/sup] ولا عدل» [sup][33][/sup] [sup][34][/sup].
· وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا»[sup][35][/sup] وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من سب أصحابي».[sup][36][/sup] وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» [sup][37][/sup] [sup][38][/sup].
وإذا كان إكرام النبي لصحابته على هذا النحو؛ فإن لنا أن نتساءل: هل من المنطق أن يكرمهم - صلى الله عليه وسلم - ويقدرهم قدرهم، ويحرم سبهم ثم يفرض عليهم نفوذه وينفرد بالأمر دونهم؟!! ولو كان ذلك حقا؛ فهل من المنطق أن يحب الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحب، ويتمثلوا دينه هذا التمثل في حياته وبعد مماته وهو مزهو بنفسه متكبر عليهم؟!
إننا لا نجد بدا من أن نلزم هؤلاء النفر بحقيقة تنافي ما ادعوه ببراهين الواقع قبل أي شيء. "فقد استولى حب النبي - صلى الله عليه وسلم - والإخلاص في طاعته والشوق إلى رؤيته على قلوب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام من المجتهدين وتلامذتهم وأتباعهم؛ لأنهم أحسوا في أعماق نفوسهم بأنه أنقذهم من الظلمات إلى النور، وخلصهم من الضلالة إلى الإيمان الراسخ، والأعمال الصالحة، والشواهد والأمثلة على هذا كثيرة منها:
· عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله»، أي يبصرني بدلا عن أهله وماله.[sup][39][/sup] وكذلك حديث عمر - رضي الله عنه - الذي جاء في هذا المعنى، إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لأنت أحب إلي من نفسي».[sup][40][/sup] أي روحي، وورد مثل ذلك كثيرا عن الصحابة الكرام. فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مزهوا بنفسه معجبا، لكان أول النافرين منه أصحابه، أما وقد صرحوا بحبه وإخلاصهم له ولدعوته حتى بعد مماته، فهذا مما ينفي زعم هؤلاء وافترائهم.
· قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم».[sup][41][/sup] وقالت عبدة بنت خالد بن معدان: «ما كان خالد - أبوها - يأوي إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار يسميهم، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل رب قبضي إليك، حتى يغلبه النوم»[sup][42][/sup].
· وروي أنه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: «أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا»[sup][43][/sup].
· وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «كانت المرأة إذا جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - حلفها بالله ما خرجت من بغض زوجي، ما خرجت إلا حبا لله ورسوله».[sup][44][/sup] ووقف ابن عمر على ابن الزبير - رضي الله عنهما - بعد قتله، فاستغفر له، وقال: كنت والله - ما علمت - صواما قواما تحب الله ورسوله[sup][45][/sup].
إن قوما تمثلوا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا النحو لجدير بهم أن يثبتوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على خلاف ما ادعاه هؤلاء المغرضون من التعالي عليهم أو فرض نفوذه وما شابه ذلك من أقاويل تبتعد عن المنطق والواقع التاريخي بعد المشرق عن المغرب.
ثالثا. إن القرآن الكريم الذي أثنى على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في بعض آياته هو أيضا الذي أقر بشريته وأكد عبوديته لله - صلى الله عليه وسلم - في آيات أخرى:
لقد عظم الله قدر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بفضائل ومحاسن لا يمكن حصرها، فمنها ما صرح به - سبحانه وتعالى - في كتابه، ونبه به على جليل نصابه، وأثنى به عليه من أخلاقه وآدابه، وحض العباد على التزامه، فكان - عز وجل - هو الذي تفضل وأولى، ثم طهر وزكى، ثم مدح بذلك وأثنى، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى؛ فله الفضل بدءا وعودا والحمد أولى وأخرى[sup][46][/sup].
وترتب على ذلك التشريف والثناء من الله - عز وجل - في قوله سبحانه وتعالى: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء: 80)، فقد جعل طاعته مقرونه بطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا تشريف له - صلى الله عليه وسلم - وبيان لعلو مكانته عند ربه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى، وقدوة الخلق في محاسن الأخلاق التي لا يعدلها شيء وقال سبحانه وتعالى: )فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك( (آل عمران: 159)، فكان رسول الله لين الجانب، حسن الأخلاق والسجايا بعيدا عن الغلظة، يعدل بين الناس ولا يظلم أحدا، وبذلك اجتذب إليه المؤمنين، ولو كان فظا لنفروا منه ونبذوه وانفضوا من حوله[sup][47][/sup].
متابعه
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]