الحلقه الثانيه -الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متكبرا على أصحابه منتقصا من قدر
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الحلقه الثانيه -الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متكبرا على أصحابه منتقصا من قدر
وفي سياق ثناء الله - عز وجل - على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهار عظيم قدره لديه، نجد في كتاب الله آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومحاسنه وتعظيم أمره وتنزيه قدره، قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، فقد زينه الله - عز وجل - بزينة الرحمة في الدارين، وأثنى عليه وسماه في القرآن نورا وسراجا منيرا، فقال سبحانه وتعالى: )قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)( (المائدة).
وقال عز وجل: )يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)( (الأحزاب)، فدائما كان التكريم من الله - عز وجل - والثناء منه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال سبحانه وتعالى: )ورفعنا لك ذكرك (4)( (الشرح)، وقيل معناه: إذا ذكرت ذكرت معي في قول لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل في الأذان والإقامة، فرفع الله - عز وجل - ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب مستشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفي هذا تشريف ليس بعده تشريف.
وقد بين الله - عز وجل - فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - عندما جعل الشهادة له يوم القيامة على أمته في قوله سبحانه وتعالى: )فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41)( (النساء)، وقال سبحانه وتعالى: )ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)( (النحل)، فجعله شاهدا على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة وذلك في قوله )يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45)( (الأحزاب)، وفي بعض صور قسمه - سبحانه وتعالى - تعظيم لقدر نبيه، قال عز وجل: )لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)( (الحجر)، فهذا قسم الله - عز وجل - بمدة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أعلى الله قدره وشرفه عندما رفع العذاب عن قومه بسببه في قوله سبحانه وتعالى: )وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)( (الأنفال).
وبعد كل هذا الثناء من الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال سبحانه وتعالى: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)( (الأحزاب)، فأمر بالصلاة عليه تكريما وإلزاما لأمته بذلك.
وبعد كل هذا التكريم والتشريف من قبل الله - عز وجل - في قرآنه يثبت - عز وجل - في مواضع أخرى بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدلل لهم على عبوديته له - عز وجل - قال تعالى: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران)، وهكذا وضح القرآن وأكد بشرية النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن المتأمل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي تصرفاته يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعد بأوامره وتوجيهاته عن هذه البشرية وتلك العبودية قيد أنملة، وأحاديثه خير شاهد على ذلك، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله».[sup][48][/sup] "وفي هذا القول إشارة إلى قوله عز وجل: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي( (الكهف: ١١٠)، ثم لا يلزم من كونه عبد الله ورسوله مساواة غيره له - صلى الله عليه وسلم - في العبودية لله - سبحانه وتعالى - التي هي شهود الربوبية، وعدم الغفلة عنها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هذا الوصف الذي هو عين الكمال الإنساني" [sup][49][/sup].
ولم يبعد هذا المعنى عن ذهن الصحابة، ولم يغب عن علم زوجاته، وليس أدل على ذلك مما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله بشرا من البشر يفلي ثوبه[sup][50][/sup]، ويحلب شاته، ويخدم نفسه».[sup][51][/sup] وفي رواية: «يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»[sup][52][/sup].
وفي هذا دلالة على تواضعه الجم، مما ينفي التقول عليه زورا بأنه كان متكبرا متعاليا.
رابعا. تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحبة والأخوة لا يحمل أي انتقاص لقدر أصحابه رضي الله عنهم:
يحلو للبعض أن يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - سمى أصحابه "الصحابة" ولم يسمهم "الإخوان"؛ لأن الأخوة تعني المماثلة والمساواة بينهم وبينه، ولكن من يزعم ذلك يصطدم ببعض الأحاديث التي يذكر فيها محمد - صلى الله عليه وسلم - أخوة أبي بكر له.
ففي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» [sup][53][/sup].
ثم إن القرآن الكريم سمى صالحا مثلا "أخا ثمود"، وهودا "أخا عاد" وشعيبا "أخا مدين"، ولم يكن القصد أن أقوامهم الكفرة مساوون لهم في الرتبة، بل المقصود بكلمة "أخ" هنا هو أنه "رسول"، فليست الأخوة هنا بمعنى إخوانية الدين، فأين الأخوة في الدين بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم، وقد أطلقت عليهم هذه التسمية من قبل إيمان أحد من أقوامهم بهم، كما أن الكثيرين من أقوامهم قد ظلوا على عنادهم وكفرهم برسالتهم، ولم تكن بين الفريقين من ثم أخوة إيمان[sup][54][/sup].
وقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ليعلن أن البشر - كما يقرر القرآن الكريم - إخوة وأبناء لأب واحد وأم واحدة: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)( (النساء)، وقال عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).
ولأن البشر كلهم إخوة وكرامتهم عند الله واحدة، فقد محا الإسلام كل أسباب التفرقة، وأسقط كل المزاعم التي تميز إنسانا على إنسان بالجنس، أو اللون، أو الطبقة، قال سبحانه وتعالى: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات).
أجل.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. هذا هو الميزان الحق الذي يوزن به الناس، فالعدالة الإسلامية ترفض أي امتياز لإنسان على آخر بسبب اللون، أو الجنس، ولم يؤثر أو يعرف عن مفكري الإسلام أو فقهائه قول يخالف هذه القاعدة التي أرسى قواعدها القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية[sup][55][/sup] وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)».[sup][56][/sup] «فليس لعربي على عجمي فضل، وليس لأسود على أبيض فضل، ولا لأبيض على أسود فضل.. إلا بالتقوى»[sup][57][/sup].
وبناء على ما سبق ليس لمدع أن يقول: إن تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - أتباعه المعاصرين له بـ "الأصحاب" بدلا من "الإخوان" كان تعاليا منه - صلى الله عليه وسلم - أو رغبة منه في البعد عن المساواة بهم، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن البشر خلقا، وخير البشر تواضعا، ولقد أحبه أصحابه رضوان الله عليهم، كما لم يحب بشر بشرا، ويكفي أصحابه هذا الوسام الذي وضعه - صلى الله عليه وسلم - على صدورهم، حينما قال عنهم: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني".[sup][58][/sup] فأين هذا التكبر المزعوم منه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه؟
خامسا. تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأتباعه الذين لم يروه بـ "إخوانه" لا يعني تفضيلهم على أصحابه:
إن الفهم الخاطئ للحديث النبوي الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «وددت أنا قد رأينا إخواننا"، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي».[sup][59][/sup] إن هذا الفهم هو الذي دفع بعض المتوهمين أن يظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فضل أتباعه الذين لم يروه على أصحابه، فالحقيقة التي يتجاهلها هؤلاء أن هذا الحديث لا يحمل معناه أي مظنة لتفضيل المسلمين من غير الصحابة على الصحابة، فليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وددت أني لقيت إخواني» إلا وصفا لحالة وجدانية شعورية تعبر عن مدى اشتياق النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء المؤمنين به بعد موته - صلى الله عليه وسلم - دون أن يراهم أو يروه، وفي هذا من الدلالة الواضحة على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته ورحمته بهم على الرغم من أنه لم يرهم، فما بالنا بمحبته لمن رآهم ورأوه ونصروه وتحملوا معه مصاعب نشر الدعوة!
وإنما اشتاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لرؤية هؤلاء الذين لم يروه ولم يرهم من أمته؛ لأن المرء يزداد اشتياقه لمن لا يراهم، أما أصحابه المعاصرون له فهم تحت ناظريه لا يفارقهم ولا يفارقونه؛ ومن ثم فليس في اشتياق النبي لأتباعه الذين سيأتون بعد موته أي تفضيل لهم على أصحابه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأتباعه الذين لم يروه بإخوانه لا ينفي عن أصحابه أنهم إخوانه؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات)، فأخوة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة مع شرف الصحبة بهذه الآية الكريمة، وقد أرسى - صلى الله عليه وسلم - قواعد المساواة والأخوة بين المسلمين جميعا السابق منهم واللاحق، فهم جميعا أخوة كما قال سبحانه وتعالى: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)( (الحشر).
ومن ثم فلم يفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا على أصحابه، بل إن الحقيقة التي لا يماري فيها أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فضل أصحابه الذين اتبعوه ونصروه على سائر الأمة كما سبق أن تحدثنا، بل فضل أوائل الصحابة على متأخريهم.
إن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم الذين حملوا الأمانة من بعده؛ فقاموا بتأديتها خير أداء، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده؛ فنشروا الإسلام، وكسروا الأوثان، وأطفئوا النيران وفتحوا البلدان، وعدلوا في الرعية، وقسموا الحقوق بالسوية، فمن يوازيهم، أو يبلغ خميص - ثوب - أحدهم ولو أنفق ما في الأرض جميعا[sup][60][/sup]؟!
وعليه فالصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن الاختلاف: هل هذه الأفضيلة بالنسبة إلى المجموع أم الأفراد؟ والذي ذهب إليه الجمهور أن من قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمانه بأمره أو أنفق من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان لقوله سبحانه وتعالى: )وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)( (الحديد) [sup][61][/sup].
إن ما ورد من آيات القرآن الكريم وأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكاف للدلالة على فضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيرهم من المسلمين في كل زمان ومكان؛ ولـم لا وقد تعلموا في مدرسة النبوة على يد معلم البشرية، ودليلها إلى الخير محمد - صلى الله عليه وسلم ـ؟ فلقد باعوا الدنيا؛ لأنهم علموا وأيقنوا أنها إلى زوال وإلى فناء، ويجمع لها من لا عقل له، واشتروا الآخرة لعلمهم أنها الباقية التي لا تزول أبدا، فربحوا الدنيا والآخرة رضي الله عنهم [sup][62][/sup].
وللصحابة - رضي الله عنهم - اليد البيضاء على كل من جاء بعدهم من المسلمين، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا».[sup][63][/sup] وقد كانوا – رضي الله عنهم- الصلة الوثيقة التي تربط المسلمين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - فكل من استفاد وكل من دخل في دين الله وعمل صالحا، فإن الله يثيب الصحابة عليه، وقبلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكل فضل لمن بعدهم لهم فيه نصيب، فهل يعقل أن يفضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الناس عليهم؟ وهل يعقل أن ينتقص النبي - صلى الله عليه وسلم - من قدر صحابته؟ وهل يعقل أن يساويهم أحد أو أن يبلغ منزلتهم في الفضل والأجر؟
ويؤكد هذه الحقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» [sup][64][/sup].
فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه، مع أن الكل تشرف بصحبته - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار؟! إن البون لشاسع، وإن الشقة لبعيدة، فما أبعد الثرى من الثريا، بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة: )ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (4)( (الجمعة) [sup][65][/sup].
سادسا. الصحابة هم أفضل هذه الأمة:
إن المحتكم إلى العقل المنصف والمنطق السليم لا يمكن إلا أن يصل إلى نتيجة مؤادها: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أفضل هذه الأمة؛ وذلك لأن خصائص الشخصية المسلمة الكاملة لم تظهر في جيل من الأجيال كما ظهرت في جيل الصحابة، ومن أبرز هذه الخصائص:
1. الاستجابة الكاملة للوحي وعدم التقديم بين يديه:
إن العلم الصحيح الكامل بالعقائد، والشرائع، والآداب وغيرها، لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزل: قرآنا وسنة، وذلك بالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة ما يجب له وما ينزه عنه - عز وجل - والعلم بالملائكة، والكتاب، والنبيين، والعلم بالآخرة، والجنة والنار، والعلم بالشرائع المجملة والمفصلة والأحكام المتعلقة بالمكلفين، والعلم بالمسلك الصحيح الذي ينبغي سلوكه في سائر الأحوال في: الغضب والرضا، والقصد والغنى، في الأمن والخوف، في الخير والشر، في الهدنة والفتنة، والتزام الدليل الشرعي هو منهج الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح، قال سبحانه وتعالى: )وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181)( (الأعراف).
ولقد كان الصحابة أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليما له؛ لأسباب عديدة منها:
· نزاهة قلوبهم وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله، والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا دون حرج، ولا تردد، ولا إحجام.
· معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
· كانت النصوص - قرآنا وسنة - تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم - بصورة فردية أو جماعية - فتخاطبهم خطابا مباشرا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثا واقعية وقعت في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر، متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
· قد أعفاهم قرب عهدهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهد الذي احتاج إليه من بعدهم في تمييز النصوص وتصحيحها، فلم يحتاجوا - في غالب أحوالهم - إلى سلسلة الإسناد، ولا معرفة الرجال، والعلل، وغيرها، ولم يختلط عليهم الصحيح بغيره، ومن ثم لم يقع عندهم التردد في ثبوت النص الذي وقع عند كثير ممن جاء بعدهم، خاصة من أصحاب النفوس المريضة، أومن الجهلة الذين لم يدرسوا السنة ويفقهوها رواية ودراية، فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارهم - كما يقول ابن عباس رضي الله عنه.
2. التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس بوصفه مجموعة من الحقائق المجردة التي يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، بل لقد أورثهم العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله محبته، والشوق إلى لقائه والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته، وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم - بذلك - آثار العلم بالله والإيمان به، وهي: الحب والخوف والرجاء، وأورثهم العلم بالجنة والنار: الرغبة في النعيم الأبدي السرمدي، والخوف من مقاساة العذاب الرهيب، فقلوبهم تتراوح بين نعيم ترجوه وتخشى فوته، وعذاب تحذره وتخشى وقوعه، فتعلقت قلوبهم بالآخرة، فكرا وخوفا ورجاء، حتى كأنهم يرون البعث والقيامة، والميزان والصراط، والجنة والنار رأي العين، وأورثهم علمهم بالقدر وأنه أمر قد فرغ منه: الاتكال على الله، وعدم التوكل على الأسباب، وعدم الفرح بما أوتوا ولا الأسى لما منعوا، والإجمال في الطلب؛ إذ لا يفوت المرء ما قدر له، ولن يأتيه ما لم يقدر، كما غرس في نفوسهم الشجاعة والإقدام، وأورثهم علمهم بالموت وإيمانهم به العزوف عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، والدوام على العمل الصالح؛ إذ لا يدري متى يموت والموت منه قريب، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم من تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل.
ولقد كان للصحابة - رضي الله عنهم - من هذه المعاني الوجدانية، أعظم نصيب؛ لأن إيمانهم كان أعمق وأكمل من إيمان غيرهم، ولقد تلقوه غضا طريا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلق بغبرة الغفلة والأهواء.
وكان الصحابة فرسانا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم الحق وخشوعهم لله من القيام بشئونهم الدنيوية، من بيع وشراء، وحرث ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون، وكانوا بعيدين كل البعد عن الإعجاب بالنفس، الذي أصيب به بعض المتعبدين ممن جاء بعدهم، فترتب عليه ازدراؤهم واحتقارهم لأعمال الآخرين، والاستهانة بمجهوداتهم في سبيل الدين والحط من قدرهم، فأصبحوا في الحقيقة متعبدين في محراب "الذات" معظمين لأنفسهم، وهذا مصدر لكل رذيلة خلقية، وسبب لمحق كل عمل صالح[sup][66][/sup].
ومن ثم فقد برزت في جيل الصحابة كل خصائص الشخصية المسلمة الكاملة التي قامت عليها الدولة الإسلامية، وهذا ما لم يحدث في أي جيل بعدهم بهذه الصورة المثالية، فاستحقوا بذلك - رضي الله عنهم - أن يكونوا أفضل من غيرهم، وقد عرف لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفضل فقدمهم على من سواهم، وفضلهم على سائر هذه الأمة.
الخلاصة:
· لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - متكبرا على أصحابه، بل إن سيرته معهم تشهد بحبه لهم، ولين الجانب معهم، ولم لا؟ وقد أمره ربه بذلك: )واخفض جناحك للمؤمنين (88)( (الحجر)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحسن معاملة كل أصحابه كبيرهم وصغيرهم، فالكل عنده سواء، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يميز نفسه عليهم بحال من الأحوال ويكره هذا، على الرغم من سعيهم الدءوب لتمييزه؛ لهذا أحبوه حبا شديدا وقدموا حبه على الأهل والمال والنفس.
· لم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سمت التواضع الذي عهد عنه حتى بعد أن فتحت عليه الدنيا ودانت له الجزيرة كلها، حتى إنه لما دخل مكة فاتحا منتصرا طأطأ رأسه حتى لتكاد تمس مقدمة الرحل؛ تواضعا لله - عز وجل - وهذا التواضع شهد له به كل من عرفه أو شاهده أو تعامل معه - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل عن نفسه: «آكل كما يأكل العبيد، وأجلس كما يجلس العبيد، فإنما أنا عبد»[sup][67][/sup].
· ليس من المنطق أن يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ويحترمهم بهذه الكيفية التي نطالعها في كتب السير، ثم يفرض نفوذه عليهم ويلغي دورهم في الدولة الإسلامية، ولقد أرسى النبي - صلى الله عليه وسلم - مبدأ الشورى في الدولة الإسلامية ولم ينفرد برأي دون أصحابه، وهذا خير شاهد على فساد ما ادعوه، وشواهد السيرة على هذا كثيرة تغني الإشارة إليها عن ذكرها.
· لقد أثنى القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضله وامتدحه بما هو أهله، ولم يزده هذا الثناء ولا ذاك التفضيل إلا تواضعا وخشوعا وامتنانا، ولقد أكد القرآن الكريم في أكثر من موضع على بشرية النبي وعبوديته لله - عز وجل - وهذا ما لم تبعد عنه أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، فلقد تمثل النبي أوامر القرآن الكريم بالتودد للمؤمنين وخفض الجناح لهم خير تمثل، فكان نموذجا وافيا للتواضع والرحمة.
· لم يكن وصفه - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين المعاصرين له بصفة "الأصحاب" دون صفة "الإخوان" حطا من شأنهم - رضي الله عنهم - وخاصة إذا علمنا أن الأخوة لا تعني بحال من الأحوال المساواة والمماثلة، وقد صرح الوحي بأن الصحابة الأوائل قد بلغوا منزلة لا يمكن لأحد بعدهم - مهما فعل - أن يصل إليها.
· إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وددت أني لقيت إخواني"، ليس فيه ما يدل على تفضيل المسلمين الذين لم يرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة الكرام، وإنما هو وصف لحالة وجدانية شعورية، تعبر عن شوقه لرؤية أمته كلها بما فيهم صحابته.
· إن منزلة الصحبة هي أعلى المنازل في الإسلام بعد النبوة وذلك بشهادة القرآن الكريم والسنة النبوية، ويكفي أن تستشهد بقوله سبحانه وتعالى: )لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا( (الحديد: 10)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" [sup][68][/sup]، فهم القدوة والأسوة الحسنة لكل من أراد الهداية.
(*) حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، ترجمة: عبد العزير جاويد، وعبد الحميد العبادي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1994م. تاريخ الشعوب العربية، د. ألبرت حوراني، ترجمة: نبيل صلاح الدين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977م. شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2000م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود (3901)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب الاعتقاب في الدابة (8807)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2257).
[2]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الأشربة، باب في الرخصة في النبيذ ومن شربه (23866)، وأحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (1841)، وصححه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (1841).
[3]. السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م ، ج2، ص637 بتصرف.
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (277).
[5]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص340.
[6]. صحيح: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب الاستعاذة في الموقف من الرياء والسمعة في الحج إن ثبت الخبر (2836)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (288).
[7]. القديد: اللحم المشقق المجفف.
[8]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والطبراني في الأوسط، باب الألف، من اسمه محمد (1313)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1876).
[9]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب أهل الكتابين، باب الأكل متكئا (19554)، وأبو يعلى في مسنده، تابع مسند عائشة رضي الله عنها (4920)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (544).
[10]. السيرة النبوية، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص656، 657 بتصرف.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الكبر (5724).
[12]. يستجري: يغلب.
[13]. صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب الخدم والمماليك، باب هل يقول: سيدي (211)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في كراهيته التمادح (4808)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (155).
[14]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، د. هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص340: 342 بتصرف.
[15]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص 167 بتصرف يسير.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله ( (الإنسان: 30) (7032).
[17]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه (23042)، وأبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب رب الدابة أحق بصدرها (2574)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2242).
[18]. السيرة النبوية، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص657، 658 باختصار.
[19]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص394 بتصرف.
[20]. السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج2، ص14.
[21]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند أبي هريرة (6105)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب من صفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخباره (6365)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1002).
[22]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص168 بتصرف يسير.
[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3450)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (6636)، واللفظ للبخاري.
[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت (1301)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى (2243)، واللفظ له.
[25]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه (6629).
[26]. الفئام: الجماعة من الناس.
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3449)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (6630)، واللفظ للبخاري.
[28]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما ذكر في الكف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (32417)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الواو، من اسمه واثلة (207)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3282).
[29]. أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمود المصري، دار التقوى، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 2002م، ج1، ص32: 34.
[30]. المد: نوع من المكاييل.
[31]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" (3470)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة (6651)، واللفظ للبخاري.
[justify][32][color=red][font='Traditio