شروط الحج
إنّ الشريعة الإسلامية جاءت من لَدُن حكيم خبير، لا يُشرع منها إلاّ ما
كان مُوافقًا للحكمة، ومطابقًا للعدل، لذلك كانت الواجبات والفرائض لا
تلزم الخلق إلاّ بشروط مرعية يلزم وجودها حتى يكون فرضها واقعًا موقعه.
فمن ذلك فريضة الحج لا تكون فرضًا على العباد إلاّ بشروط:
الشرط الأول:
أن يكون مسلمًا، بمعنى أنّ الكافر لا يجب عليه الحج قبل الإسلام، وإنّما
نأمره بالإسلام أولاً، ثم بعد ذلك نأمره بفرائض الإسلام؛ لأنّ الشرائع لا
تُقبل إلاّ بالإسلام، قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ
مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ
إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا يصح منه؛ لأنّ الحج لا بد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.
الشرط الثالث: البلوغ، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة:
1-
الإنزال، أي إنزال المني لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ
مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} [النور: 59]. وقول النبي r: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم»
(متفق عليه).
2- نباتُ شعر العانة، وهو الشعر الخشن يَنبت حول القُبل،
لقول عطية القرظي t: "عُرضنا على النبي r يوم قُريظة، فمن كان محتلمًا أو
أَنبتَ عانته قُتِل، ومَنْ لا تُرِك".
3- تمام خمس عشرة سنة، لقول عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما: "عُرضت على النبي r يوم أُحد وأنا ابن أربعَ
عشرة سنة فلم يُجزني". زاد البيهقي وابن حبان: "ولم يَرَني بلغتُ، وعُرضت
عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني". وفي رواية للبيهقي وابن
حبان: "ورآني بلغت". قال نافع: فَقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة
فحدّثته الحديث، فقال: "إن هذا الحد بين الصغير والكبير، وكتب لعماله أن
يفرضوا -يعني من العطاء- لمن بلغ خمس عشرة سنة". (رواه البخاري).
4-
ويحصل البلوغ في الإناث بما يحصل به البلوغ في الذكور، وزيادة أمر رابع،
وهو الحيضُ، فمتى حاضت فقد بلغت وإن لم تبلغ عشر سنين. فلا يجب الحج على من
دون البلوغ لصغر سنه، وعدم تحمُّله أعباء الواجب غالبًا؛ ولقول النبي r:
«رُفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن
المجنون حتى يفيق» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم).
لكن
يصح الحج من الصغير الذي لم يبلغ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي r
لقي رَكبًا بالروحاء -اسم موضع- فقال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون.
فقالوا: من أنت؟ قال: «رسول الله». فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا
حج؟ قال: «نعم ولكِ أجر» (رواه مسلم). وإذا أثبت النبي r للصبي حجًّا، ثبت
جميع مقتضيات هذا الحج، فليُجنَّب جميع ما يجتنبه المُحرم الكبير من
محظورات الإحرام، إلا أن عمدَه خطأٌ، فإذا فعل شيئًا من محظورات الإحرام
فلا فدية عليه ولا على وليِّه.
الشرط الرابع: الحرية، فلا يجب الحج على مملوك لعدم استطاعته.
الشرط الخامس:
الاستطاعة بالمال والبدن، بأن يكونَ عنده مال يتمكن به من الحج ذهابًا
وإيابًا ونفقة، ويكون هذا المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة
عليه، وفاضلاً عن الحوائج التي يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح
والمسكن ومتعلقاته وما يحتاج إليه من مركوب وكُتبِ علمٍ وغيرها؛ لقوله
تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل
عمران: 97].
ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة مَحْرَمٌ، فلا يجب أداء الحج
على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعًا، إذ لا يجوز للمرأة أن
تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلاً أم قصيرًا، وسواء
أكان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزًا شوهاء، وسواء في
طائرة أم غيرها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي r يخطب يقول:
«لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلاّ مع ذي
محرم». فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنّ امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكتتبت
في غزوة كذا وكذا. فقال النبي r: «انطلق فحج مع امرأتك». ولم يستفصله
النبي r، هل كان معها نساء أم لا؟ ولا هل كانت شابة جميلة أم لا؟ ولا هل
كانت آمنةً أم لا؟ والحكمة في منع المرأة من السفر بدون محرم صونُ المرأة
عن الشر والفساد، وحمايتها من أهل الفجور والفسق؛ فإن المرأة قاصرةٌ في
عقلها وتفكيرها والدفاع عن نفسها، وهي مطمعُ الرجال؛ فربما تُخدع أو تُقهر،
فكان من الحكمة أن تُمنع من السفر بدون محرم يُحافظ عليها ويصونها؛ ولذلك
يُشترط أن يكون المَحرَم بالغًا عاقلاً، فلا يكفي المحرم الصغير أو
المعتوه.
والمَحرَمُ زوج المرأة، وكل ذَكرٍ تَحرمُ عليه تحريمًا مؤبدًا بقرابةٍ أو رضاع أو مصاهرة.
فالمحارم من القرابة سبعة:
1- الأصول؛ وهم الأباء والأجداد وإن علوا، سواء من قِبَلِ الأب أو من قِبَلِ الأم.
2- الفروع؛ وهم الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات وإن نزلوا.
3- الإخوة؛ سواءٌ كانوا إخوةً أشقاء أم لأب أم لأم.
4-
الأعمام؛ سواء كانوا أعمامًا أشقاء أم لأب أو لأم، وسواء كانوا أعمامًا
للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أمهاتها، فإن عم الإنسان عمٌّ له ولذريته
مهما نزلوا.
5- الأخوال؛ سواء كانوا أخوالاً أشقاء أم لأب أم لأم،
وسواء كانوا أخوالاً للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أُمهاتها، فإن خال
الإنسان خالٌ له ولذريته مهما نزلوا.
6- أبناء الإخوة وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهم وإن نزلوا، سواءٌ كانوا أشقاء أم لأب أم لأم.
7-
أبناء الأخوات وأبناء أبنائهن وأبناء بناتهن وإن نزلوا، سواءٌ كُنّ شقيقات
أم لأب أم لأم. والمحارم من الرضاع نظير المحارم من النسب؛ لقول النبي r:
«يحرمَ من الرضاع ما يَحرمُ من النسب» (متفق عليه).
والمحارم بالمصاهرة أربعة:
1- أبناء زوج المرأة وأبناء أبنائه وأبناء بناته وإن نزلوا.
2- آباء زوج المرأة وأجداده من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم وإن عَلَوا.
3-
أزواج بنات المرأة وأزواج بنات أبنائها وأزواج بنات بناتها وإن نزلن. وهذه
الأنواع الثلاثة تثبت المحرمية فيهم بمجرد العقد الصحيح على الزوجة، وإن
فارقها قبل الخلوةِ والدخولِ.
4- أزواج أمهات المرأة وأزواج جداتها وإن
علوا، سواء من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم، لكن لا تثبت المحرمية في
هؤلاء إلا بالوطء، وهو الجماع في نكاح صحيح، فلو تزوج امرأةً ثم فارقها قبل
الجماعِ لم يكن مَحرمًا لبناتها وإن نزلن. فإن لم يكن الإنسان مستطيعًا
بماله فلا حج عليه، وإن كان مستطيعًا بماله عاجزًا ببدنه؛ نظرنا: فإن كان
عجزًا يُرجى زواله كمرض يُرجى أن يزول، انتظر حتى يزول، ثم يُؤدي الحج
بنفسه. وإن كان عجزًا لا يُرجى زواله، كالكبر والمرض المُزمن الذي لا يُرجى
برؤه، فإنه يُنيب عنه من يقوم بأداء الفريضة عنه؛ لحديث ابن عباس رضي الله
عنهما أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضةُ الله في
الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال: «حجي عنه»
(رواه الجماعة).
هذه شروط الحج التي لا بد من توافرها لوجوبه،
واعتبارها مطابقٌ للحكمة والرحمة والعدل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]