وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت
المتأمل في الأمثال القرآنية يلحظ دقة القرآن الكريم في صياغة ألفاظها؛ ليكون وقعها في النفوس مؤثراً وفاعلاً. فهي لا تأتي بالغريب العجيب، بل تتخير الصورة من المحسوسات، وتعرضها بأوصافها وخصائصها، ثم تصوغها في الألفاظ؛ لتكون شاهداً واضحاً على ما يراد إيصاله من أفكار وتوجيهات، فتأتي الصورة صادقة غاية الصدق، ومعبرة أدق التعبير.
ومن الأمثال القرآنية التي توضح هذا المنحى القرآني الفريد ما جاء في قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:41).
يبين هذا المثل أن (الولاية) لأي شيء من دون الله سبحانه، هي ولاية واهية، وتبعية هشة، لا تضر ولا تنفع، وأن هؤلاء الأولياء من دون الله هم أشبه بالعنكبوت في الضعف، وولايتهم مثل بيت العنكبوت في الهشاشة والضعف، القابل للتمزيق والتبديد عند أدنى ملامسة؛ ذلك أن بيت العنكبوت عبارة عن نسيج من خيوط دقيقة، شفافة واهية، لا يكاد اللمس يقاربها، أو الريح تهب عليها إلا وتتمزق، وتذهب أدراج الرياح، فلا تحمي العنكبوت، ولا ترد عنه غائلة العوارض.
وكما هي حال بيت العنكبوت وهناً وضعفاً، كذلك هي حال القوى التي يلجأ إليها الناس طلباً للدعم والمساندة، والتي يجعلونها عوناً لهم لتمدهم بأسباب القوة. ولو علم هؤلاء الذين يلجؤون إلى تلك القوى الهشة، أن القوة التي يستمدونها منها هي عرضة للزوال في كل حين، عندما يأتيها أمر الله، لما طلبوا العون إلا من الله، ولما لجؤوا إلا إليه سبحانه، ومن ثم لن يعبدوا إلا إياه، الذي هو ولي الأمر والتدبير.
فهذا المثل القرآني يضربه سبحانه لبيان تفاهة وهشاشة الآلهة المتخذة من دونه، سواء أكانت هذه الآلهة غيبية أم مشهودة، وسواء أكانت حسية أم معنوية، وسواء أكانت أرضية أم سماوية، مبيناً أنها مهما علت واستطالت فهي آلهة موهومة لا تضر ولا تنفع، ولا تملك ولا تدفع. إنها أشبه بضعفها وهزالها ببيت العنكبوت، ذلك البيت الذي لا يكاد يستمسك بنفسه، وهو معرض للهلاك والزوال لأدنى عارض طبيعي أو بشري.
يقول سيد رحمه الله في دلالة هذا المثل القرآني: "إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحياناً، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ماذا يأخذون؟ وماذا يدعون؟
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان، يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها!
وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها، ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون!
وتخدعهم قوة العلم، يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين، كأنهم عباد في المحاريب!
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة، تخدعهم في أيدي الأفراد، وفي أيدي الجماعات، وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار!
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد.
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول، كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت. حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن. وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين.
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكت بها المعاقل والحصون...قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل؛ مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل. إنها العنكبوت: وما تملك من القوى، ليست سوى خيوط العنكبوت".
وهذا المثل تفسير وتبيان لقوله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} (مريم:81-82)، وقوله سبحانه: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} (يس:74-75)، وقوله عز وجل: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} (هود:101). قال ابن القيم: "فهذه أربعة مواضع في القرآن، تدل على أن من اتخذ من دون الله ولياً، يتعزز به، ويتكثر به، ويستنصر به، لم يحصل له به إلا ضد مقصوده. وفي القرآن أكثر من ذلك. وهذا من أحسن الأمثال، وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده".
فجدير بالمؤمن الحق أن يعي هذه الحقيقة، التي ترد القوة لله جميعاً، ويعمل بهديها، ويعلم أن البشرية بأسرها، واختلاف قواها سوف تبقي تتخبط بمشاكلها ومآسيها، وسوف تزداد أحوالها سوءاً، كلما بعدت عن سنن الله، حتى تصل في النهاية إلى ما ينذر الناس بالعذاب، من غير تفريق بين من يدَّعون القوة، وبين من يسيطر عليهم الضعف.
وجدير بأصحاب الدعوة إلى الله، الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الساطعة، ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة، بأشكالها كافة، ومسمياتها المتعددة. هذه تضر بهم، وتحاول أن تسحقهم، وتلك تستهويهم، وتحاول أن تشتريهم. وكل تلك القوى -عند التحقيق والتدقيق- خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب الإيمان، حين تعرف حقيقة تلك القوى، وتحسن التقويم والتقدير.
وحقيقة أخرى يؤكدها هذا المثل القرآني، وهي أن اللجوء إلى قوى بشرية أو غير بشرية، وطلب العون منها، إنما مرده إلى جهل الإنسان بالله، وظلمه لنفسه، وقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} (الزمر:67)، وقال سبحانه في وصف الإنسان: {إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب:72).