احقنوا الدماء
احقنوا الدماء
كتبه/ ياسر برهامي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمشهد
"ميدان العباسية" في غاية الألم، كم كنا نُحذِّر مِن هذه السلوكيات
والأفكار التي يريد البعض مِن خلال نشرها الوصول للفوضى والدمار، غير عابئ
بما يُسفك من دماء وما ينتهك من حرمات، ونحن في هذه المحنة العصيبة، التي
ندعو الله أن يُخرج مصرنا الحبيبة وشعبنا الطيب منها بسلام.
ونذكر الجميع بما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيمًا) (النساء:93).
ونحذر
مِن تأويل الجاهل أو تحريف المضل يقنع المرء به نفسه أو غيره بأن ما يفعله
ليس قتلاً لمسلم بغير بحق، بل هو نصرة للحق، أو دفعًا لظلم أو دفاعًا عن
النفس، بل ربما كان هو المبطل والظالم والمعتدي، ونحذر مِن الوقوع في الهرج
الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ
يَوْمٌ لا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلا الْمَقْتُولُ فِيمَ
قُتِلَ!). فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: (الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
ولا تكفي النيات الحسنة في دفع الإثم عمن شارك في قتل مسلم، ولا اتباع الظنون التي لا بينة عليها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس:36).
ونذكِّر الجميع بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري). وبقوله: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ) (متفق عليه). وبقوله: (لا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ
إِسْلامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ
نَفْسٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
ولنحذر من دعاوى التكفير الجاهلة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا قالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَلَعْنُ المُؤمِنِ كَقَتْلِهِ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني). وقال: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) (متفق عليه).
وليعلم
كل مشارك في الفتن أن توبة القاتل للمسلم عمدًا غير مقبولة عند ابن عباس
وغيره، والصحيح أنها لا تسقط كل الإثم؛ لأنه يبقى حق المقتول، يأتي يوم
القيامة وأوداجه تَشْخَبُ
دمًا، يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، حتى لو أخذ أولياء المقتول حقهم
بالقصاص أو بالدية أو بالعفو، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه
الآية: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ...) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ). وَالهَرْجُ: القَتْلُ. (متفق عليه). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).
وإذا
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر مَن مر بسهام في المسجد أو السوق أن
يمسك بنصالها خشية أن تصيب مسلمًا، ونهى عن الإشارة للأخ بسلاح -ولو
مازحًا- لا ينزع الشيطان في يده فيقع في حفرة من النار، فقال: (لاَ
يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي
لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ) (متفق عليه)؛ فكيف بمن وجه سلاحه إلى صدور المسلمين ورؤوسهم لا يعبأ بحرمتهم، مستهينًا بدمائهم وأرواحهم؟!
وَعَنِ
الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ
هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا
أَحْنَفُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي عَلِيًّا. قَالَ: فَقَالَ لِي:
يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ). قَالَ فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) (متفق عليه).
مع
أن عليًا -رضي الله عنه- كان أمير المؤمنين، الخليفة الراشد الذي بَغى
عليه مَن خالفه؛ فكيف بالفتن التي تلتبس فيها الأمور، وإنما تُبنى فيها
القرارات على أساس الظنون والتحليلات المزعومة، بلا بينات حقيقية؟!
فليبذل
كل واحد منا غاية جهده في صرف الناس عن سفك الدماء المعصومة بغير حق،
ولنسع جميعًا إلى إزالة الاحتقان، ودعوة الجميع إلى الحكمة والتأني، والنظر
في عواقب الأمور والمآلات، عسى الله -عز وجل- أن يحفظ بلادنا آمنة مطمئنة،
وسائر بلاد المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت بجريدة "الفتح" بتاريخ: الجمعة 13 جمادى الآخرة 1433هـ - 4 مايو 2012م.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف