خطبة بعنوان: من دروس الاساءة(صناعة الاعداء)
الحمد لله رب العالمين أتم نعمته وفضله على خاتم أنبيائه محمد فكان سيد
ولد آدم ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع ، فحسده كثيرون
طبقا للقاعدة التي تقول
إنه بحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له ، فإن كثر فضله
كثر حسّاده وإن قلّ قلّوا ؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما
كانت نعمة لله على أحد إلا
وجّه لها حاسداً :
إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شرح صدر نبيه ووضع وزره ورفع ذكره ،
روى الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي r فقال يا رسول
الله إنك لأحب إلي من
نفسي وإنك لأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي
فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين
وإني إذا دخلت الجنة
خشيت أن لا أراك ، فلم يرد عليه النبي فأنزل الله " ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ... "
ومن عجـب ٍ أني أحـن إليهم * * * وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها * * * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا أنموذج الرشد في العلاقات الإنسانية ، تقرر
أحاديثه أن الحسد والبغضاء يحلقان الدين ويصيبان الإيمان في مقتل، وينفيان
الخير من الناس فقد
قال : " دبّ إليكم داء الأمم قبلكم البغضاء والحسد هي الحالقة حالقة
الدين لا حالقة الشعر " وقال : " لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد"
وقال : " لا يزال
الناس بخير ما لم يتحاسدوا " .
أيها الإخوة المؤمنون : ما زلت أؤكد أن خواطرنا ينبغي أن تطيب كلما تذكرنا
مسألة الفيلم المسيء إلى رسولنا فقد ترتب على نشره استثارة عاطفة الحب له
وهي العاطفة التي
تصور البعض أنه قد نجح في إخمادها في المحيط الإسلامي ، كما يترتب على هذه
الاساءة رغبة جامحة لدى قطاع عريض من غير المسلمين في التعرف على نبينا مما
سيؤدى بإذن الله تعالى
إلى اعتناق الكثيرين منهم للإسلام ، وصدق من قال:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لســــان حســود
لولا اشتعـال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
لكن حماقة أصحاب الفيلم المسىء تكمن في نجاحهم في تحريك مشاعر الخصومة
والعداء لهم في أوساط قرابة المليار ونصف المليار من المسلمين خصوصا هؤلاء
الذين تؤثر فيهم بقوة
رسالة الصحابي الجليل سعد بن الربيع التي أرسلها إلى الصحابة وهو في رمقه
الأخير " لا عذر لكم إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف " .
وهنا لابد من وقفة : القوم فعلوا ما يستثير عداوتنا ويهيج خصومتنا لهم ،
لكن المسلم الذي يتبع رسول الله بحق لا يكره أحدا ولا يعاديه ، قد أكره
مسلكك وأعادي اتجاهك لكني
في الوقت ذاته أشفق عليك وأتمنى هدايتك ، لماذا ؟ لأن المسلم يمثل امتدادا
لنبيه أنموذج الرحمة والرأفة والشفقة على خلق الله كافرهم مع مؤمنهم ،
ولهذا أبى كل الإباء أن
يدعو على من سبوه وسخروا منه وشتموه وضربوه ، وكان دعاؤه " الله اهد قومي
فإنهم لا يعلمون " ورد على ملك الجبال حين قال له لو شئت لأطبقت عليهم
الأخشبين قائلا " لعل
الله يخرج من أصلابهم من يعبده " ولما رأى جنازة يهودي بكى فقالوا له : إنه
يهودي فرد عليهم " نفس تفلتت مني إلى النار " ولم يقدم أبدا على معاقبة
أحد من خصومه بجرم
غيره ولهذا كان ينهي عن قتل غير المقاتلين من النساء والأطفال والعجزة
والمدنيين وحتى الرهبان ، ومن وصاياه " لا تخربوا عامرا ، لا تهدموا بناء ،
لا تحرقوا نخلا ، لا
تقطعوا شجرا " .
هذا هو محمد وهكذا ينبغي أن يكون أتباعه همهم غزو النفوس بالحب لا لي
الأعناق بالقهر ، همهم تذويب العداوات وتغييب الخصومات لتشيع في دنيا الناس
المحبة ويسود السلام ،
إنهم يقرؤون في كتابهم قول الله لنبيهم " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
الجاهلين " يقرؤون " فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون " وقد تعلموا من
نبيهم أن يعفوا عمن
ظلمهم ، وأن يصلوا من قطعهم ، وأن يعطوا من حرمهم ، وأن يحسنوا إلى من أساء
إليهم ، وأن يصنعوا المعروف في أهله وفي غير أهله .
إن أسوأ صناعة نجح فيها من أساءوا إلى رسول الله هي صناعتهم لعدواتنا لهم
، وصناعة الأعداء هي أسوأ صناعة في الحياة ، لأنها لا تتطلب أكثر من الحمق
، وسوء التدبير ، وقلة
المبالاة ، لتحشد حولك جموعاً من الأعداء والمناوئين والخصوم ، فدعونا إذا
نستكشف من خلال هذا العيب الخطير عيب صناعة الأعداء الذي أبرزته في أصحابها
حركة الرسوم لنعرف
إن كان هذا العيب فينا ، فطوبى لمن اشتغل بعيويه عن عيب غيره حتى ولو كان
عدوه .
مقررات الإسلام تنطق بأن المؤمن إلف مألوف ، وأنه أخو المؤمن يحب له ما
يحبه لنفسه بل يؤثره على هذه النفس ، وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضا
وكاليدين تغسل إحداهما الأخرى ،
وبناء على ذلك لن تجد للعداوات والحزازات سبيلا في أوساط المسلمين ، فهل
هذا هو الواقع ، هل روح المودة والمحبة والإيثار تشيع بيننا ، أم أننا نجيد
بامتياز صناعة الأعداء
واصطناع الخصوم في محيطنا ؟
قلب النظر في واقعنا لترى كما هائلا من الخصومات والحزازات الظاهرة
والباطنة على المستوى العام والخاص بين من تعمل معهم ومن تعرفهم وتجاورهم
وبين حتى من يمتون لك بصلة
قرابة ، حتى إنك تفاجأ في كل مكان تحل فيه بكم من الأقاويل المتناقضة التي
تصدر ممن يوجدون في هذا المكان ، وهي أقاويل تبرهن على حالة من التوتر
والخصومة والنزاع يضيق معه
صدرك فتؤثر العزلة بصورة تضيع معها حقوقا لا ينبغي أن تضيع مع أن قاعدة
الإسلام تقول لأن تخالط الناس وتصبر على أذاهم خير لك من ألا تخالطهم ولا
تصبر على أذاهم .
إننا بحق نجيد صناعة الخصوم والأعداء على نحو يؤكد أن خدوشا بل جروحا قاتلة
قد أصابت إيماننا ، ففساد ذات البين هي حالقة الدين كما قال الرسول
والذين كفروا بعضهم أولياء
بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير كما قال الله تعالى ، والمؤمن
الحقيقي لا يصنع الأعداء بل يحول أعداءه إلى أولياء وخصومه إلى أصدقاء ،
كما فعل أحكم الخلق
وأحلمهم محمد .
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال الحنفي عرض لرسول
الله يريد قتله ، فأسره الصحابة وأتوا به رسول الله فأمر به فربط إلى
عمود من عمد المسجد فخرج
عليه رسول الله فقال : ما لك يا ثمامة هل أمكن الله منك ؟ قال : قد كان
ذلك يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تعف تعف عن شاكر ، وإن تسأل مالا
تعطه ، فمضى رسول الله وتركه
، حتى إذا كان الغد مر به فقال : ما لك يا ثمام ؟ فقال : خيرا يا محمد ، إن
تقتل تقتل ذا دم ، وإن تعف تعف عن شاكر ، وإن تسأل مالا تعطه ، ثم انصرف
عنه رسول الله ، قال أبو
هريرة رضي الله عنه فجعلنا نقول بيننا ما نصنع بدم ثمامة والله لأكلة من
جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دمه ، فلما كان الغد مر به رسول الله
فقال : مالك يا ثمام ؟ فقال
خيرا يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه
، فقال رسول الله : أطلقوه فقد عفوت عنك يا ثمام ، فخرج ثمامة حتى أتى
حائطا من حيطان المدينة
فاغتسل فيه وتطهر وطهر ثيابه ، ثم جاء رسول الله وهو جالس في المسجد في
أصحابه ، فقال يا محمد ، والله لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك ، ولا دين
أبغض إلي من دينك ، ولا
بلد أبغض إلي من بلدك ، ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك ، ولا دين
أحب إلي من دينك ولا بلد أحب إلي من بلدك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا عبده ورسوله .
هذا هو محمد فهل نتأسى به في تحويل العدواة إلى محبة والخصومة إلى مودة ؟ سلفنا تعلموا منه وهاكم شاهد في غاية الروعة .
وقعت بين الحسن بن علي وأخيه محمد خصومة فأرسل محمد رسالة إلى أخيه الحسن
يقول فيها : إن الله فضلك علي ، فأمك فاطمة بنت محمد بن عبد الله وأمي
امرأة من بني حنيفة ، وجدك
لأمك رسول الله ، وجدي لأمي جعفر بن قيس ، فإذا جاءك كتابي هذا فتعال إلي
وصالحني حتى يكون لك الفضل علي في كل شيئ ، فما أن بلغت رسالته الحسن حتى
بادر إلى بيته وصالحه .
أسلم لك بوجود أشخاص أنانيين مغرقين في اللؤم والدناءة ينتقصون غيرهم في كل
مناسبة حتى لو بذلت لهم من المعروف ما لم تبذله لأحد غيرهم ، ينقصونك إذا
زدتهم ، وتهون عندهم
إذا خاصصتهم ، ليس لرضاهم موضع تعرفه ولا لسخطهم موضع تحذره ، وهم في
الأغلب ينطلقون من مرض عضال لا يسلم منه إلا القليل من الناس ، أتدرون ما
هذا المرض ؟ إنه الحسد ، مرض
غالب لا يخلص منه إلا القليل من الناس ؛ ولهذا قيل: ما خلا جسد من حسد، لكن
اللئيم يبديه والكريم يخفيه ، وقد قيل للحسن البصري: أيحسِد المؤمن ؟
فقال: ما أنساك إخوة يوسف.
كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك عن حسد..!!
وعلى قدر خبث نفس الحاسد على قدر تعذر مداواته :
وكلٌ أدوايه على قدر دائه سوى حاسدي فهي التي لا أنالها
وكيف يدواي المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
خبروني بالله عليكم ماذا فعل آدم لإبليس ، ماذا فعل هابيل لقابيل ، ماذا
فعل يوسف لإخوته ، ماذا فعلت عائشة لمن رموها زورا بالزنا ، هل هناك سبب
معقول يستحق عدواة بين أولى
الأرحام ، بين أهل العلم ، بين الجيران وزملاء العمل ، ألا لعنة الله على
سجية الحسد.
تتساءل كثيرا لم يعاديك قريبك ، ولم يقاطعك من كان صديقك ، ولم يعيبك زميلك
؟ وأجيبك فأقول : إنه الخوف من المزاحمة وفوات مقصد من المقاصد الدنيوية
بين النظراء خصوصا في
مجال العمل ويكون بين النظراء لكراهة أحدهم أن يفضل عليه الآخر، ومن
الأمثال المتدوالة قولهم : عدو المرء من يعمل عمله ، قال يحيى بن سعيد : من
أراد أن يبين عمله ويظهر علمه
، فليجلس في غير مجلس رهطه ، ولما قال رجل لخالد بن صفوان : إني أحبك قال :
وما يمنعك من ذلك ولست لك بجار ولا أخ ولا ابن عم ؟ يريد أن الحسد موكّل
بالأدنى فالأدنى .
لا يحسدك إلا أقرب الناس إليك قريب أو صديق أو زميل يعمل نفس عملك خرج أحد
خلفاء بني العباس متنزها بالأنبار فأمعن في نزهته فوافى خباء لأعرابي فقال
له الأعرابي : ممن
الرجل؟ قال: من كنانة. قال: من أي كنانة ؟ قال من أبغض كنانة إلى كنانة.
قال: فأنت إذاً من قريش؟ قال: نعم. قال: فمن أي قريش؟ قال: من أبغض قريش
إلى قريش. قال: فأنت إذاً من ولد
عبد المطلب قال: نعم. قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد
المطلب إلى عبد المطلب. قال: فأنت إذا أمير المؤمنين ! السلام عليك يا أمير
المؤمنين ورحمة الله
وبركاته..
إن أبا جهل رغم قرابته لرسول الله لم يكتف بكل ما قدمه لرسول الله في
حياته فأصر أن يرسل له برقية حتى وهو في رمقه الأخير وعبد الله بن مسعود
يقف على صدره ، سأله أبو جهل :
لمن الغلبة اليوم ؟ قال : لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال أبو جهل : أبلغ
محمدا أني أبغضه حيا وميتا ، وكم في أوساطنا ممن يتبعون سنة أبي جهل ،
فماذا نفعل ؟
علمتنا التجارب ألا نأسى على أولئك الذين يصرون أن يكونوا أعداء ومناوئين..
فهم جزء من السنة الربانية في الحياة.. وهم ضريبة العمل الجاد المثمر، ومن
الحكمة الصبر عليهم ،
وطول النفس معهم، واستعمال العلاج الرباني بالدفع بالتي هي أحسن " ولا
تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم وما يلقاها
إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " .
يا من تضايقه الفعال من التي ومن الذي ادفع فديتك (بالتي) حتى ترى (فإذا الذي)
أيها الإخوة الأحباب : هذا درس من دروس مسألة الاساءة يجعلني أقول : بدل أن
نحقد على أصحاب الاساءة يجب أن نعرف أن لهم دورا إيجابيا في كشف عيوبنا
لنا ، هم إذا قد سخروا لنا
فنشكر الله على هذا التسخير ، ونشكرهم أن كشفوا لنا من خلال عيوبهم عيوبا
قاتلة في أوساطنا :
عداتي لهم حق عليّ و منة فلا أعدم الله مني الأعاديا
ترى لو التزمنا بمقتضيات هذا الدرس وتوقفنا عن صناعة الأعداء والخصوم كيف تكون شبكة علاقاتنا ؟!!
الخطبة الثانية :
أيها الإخوة المؤمنون : استوحش من لا إخوان له وفرط المقصر في طلبهم ، وأشد
تفريطاً من ظفر بواحد منهم فضيعه ، ولهذا قال علي بن أبي طالب لابنه الحسن
: يا بني الغريب من ليس
له حبيب ، وقد علمنا حبيبنا محمد أن نحب الكل وأن نحرص على أن يحبنا الكل
لأن هذا هو سبيل الجنة : لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولن تؤمنوا حتى
تحابوا ، أولا أدلكم على شيئ
إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ، ولا يحل لسلم أن يهجر أخاه فوق
ثلاث ، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " ، اسلك درب
نبيك وإن أصر أحد على
معاداتك فلا تحزن فتلك سنة ربانية حتى مع الأنبياء ، اقرؤوا إن شئتم "
وكذلك جعلنا لكل نبيا عدوا " وكن على ثقة أن عوض الله في الأحباب عظيم ،
فلا تأس على حاقد أو حاسد
.
إذا المرء لا يرعـاك إلا تكلفــا * * * فدعه ولا تكثر عليه التأسفــــا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة * * * وفي القلب صبر للحبيب ولو جفـا
فما كل من تهـواه يهواك قلبـه * * * ولا كل من صافيته لك قد صفــا
ولا خير في خِل ٍ يخـون خليـله * * * ويلقـاه من بعـد المودة بالجـفـا
وينـكر عيشا ً قد تقـادم عهـده * * * ويظهـر سرا ً كان بالأمس قد خفا
سلام ٌ على الدنيا إذا لم يكـن بها * * * صديق ٌصدوق ٌصادق الوعد منصفا