خطبة بعنوان (رسائل الزلازل) للشيخ (صلاح البدير) حفظه الله تعالى
(الخطبة الأولى)
أمّا بعد: فيا أيُّها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ تقاته، وسارِعوا إلى مغفرتِه ومرضاتِه، وسابِقوا إلى رحمتِه وجنّته، وحاذِروا سخَطَه وأليم نقمتِه، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128].
أيّها المسلمون، خلَق الله الخَلقَ وهو المعبودُ أبدًا، المحمود على طول المدَى، ومِن آيات قدرتِه العظيمة أن جعَل الأرضَ قارّةً ساكنة ثابتة، لا تتزلزَل ولا تضطرِب ولا تميد، ولا تتحرَّك بأهلِها، ولا ترجُف بمن عليها، وجَعَلها مِهادًا وبِساطًا، وأَرساها بالجبالِ وقرَّرها وثقَّلها حتى سَكنت وتذلَّلَت:
وَحَى لَها القرار فاستقَرَّتِ وشدَّها بالراسيات الثُبَّتِ
أنبَع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرَى أنهارَها، وأنبت زرعَها وأشجارها وثمارَها، وبثَّ الخلق فيها إذ دَحاها، فهُم قُطَّانها حتّى التنادِي، يعيشون في أرجائها وأطرافها، حتى إذا انتهى الأمرُ وانقضى الأجل أذِن الله لها فتزلزلت وتحرَّكت، وألقَت ما فيها من الأموات، وحدَّثت بما عمِل العاملون على ظهرها من الحسَنات والسيِّئات، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 4-8].
أيّها المسلمون، ولله آياتٌ وعِظاتٌ، يريها عبادَه في الدنيا إنذارًا وتخويفًا وتحذيرًا وترهيبًا وإيقاظًا وتذكيرًا، وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. قال قتادة: "إنَّ الله يخوِّف الناس بما يشاء من عباده؛ لعلهم يعتبرون ويذّكَّرون ويرجعون".
ومن الآيات المخيفة والنذُر المرعِبَة والعِظات الموقِظَة آيةُ الخَسف والرَّجفَة والزَّلزَلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي : ((لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبَض العِلم، وتكثُر الزلازل، ويتقارَب الزَّمان، وتظهَر الفتن، ويكثر الهرج ـ وهو القتل ـ حتى يكثُر المال فيفيض)) أخرجه البخاري، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((في هذه الأمة خَسفٌ ومسخٌ وقذف))، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرتِ القينات والمعازفُ وشُرِبت الخمورُ)) أخرجه الترمذي،
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخرِ هذه الأمّة خَسفٌ ومَسخٌ وقَذف))، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم؛ إذا ظهَر الخبث)) أخرجه الترمذي. وعن صفية بنت أبي عبيدٍ قالت: زُلزِلت الأرضُ على عهد عمر حتى اصطَفَقت السّرُر، فخطب عمرُ الناسَ فقال: (أحدَثتم؟! لقد عجلتم، لئن عادَت لأخرجَنَّ من بين ظهرانيكم) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي.
وذُكِر أنَّ الكوفة رجفَت على عهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: (يا أيها الناس، إنّ ربكم يستعتِبكم فأعتبوه)، ومعنى يستعتبكم أي: يطلُب مِنكم الرجوعَ عن المعاصِي إلى ما يُرضيه عنكم.
أيُّها المسلمون، إنَّ ما حدَث في الأيّام الماضيةِ مِن زلازلَ وهزّاتٍ حدثٌ جللٌ وأمرٌ عظيم، يبعَث على الوجَل من الله تعالى وعقوبته؛ فضجّوا بالاستغفار، وتخلَّصوا من الذنوب والأوزار، وأشفِقوا من غضَب الجبّار، وأظهِروا الخشيةَ والتوبةَ والإنابة والتضرُّعَ والفاقةَ والمَسكَنة، وأكثروا الدعاءَ، وعظِّموا الرغبةَ والرجاء، واصدُقوا في اللَّجَأ، ولا تفتُرُوا عن ذكر الله تعالى والتذلّلِ له والتقرّبِ إليه والفِرار إليه.
يا من إليه جميـعُ الخلـق يبتهِـلُ وكلُّ حيٍّ على رُحْمـاه يتَّكـل
أنت الْمنـادَى فِي كـلِّ حادثـةٍ وأنت ملجَأ من ضاقَت به الْحِيَلُ
أنتَ الغِيـاث لمن سُدَّت مذاهِبُـه أنت الدّليل لِمن ضلَّت به السُّبُل
إنّـا قصدنـاك والآمـالُ واقِعـةٌ عَليك والكلُّ ملهوفٌ ومبتَهِـلُ
فإن غَفَرت فعَن طَولٍ وعن كـرمٍ وإن سَطوتَ فأنت الحاكِم العَدلُ
لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنا منَ ظالمين، ربَّنا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين، ربِّ اغفر وارحم، ربِّ اغفِر وارحَم، ربِّ اغفر وارحَم وأنت خير الراحمين.
يا كاشِفَ الضرّ صَفحًا عن جرائمنـا لقد أحـاطَت بنـا يا ربّ بأساءُ
نشكو إليك خطوبًـا لا نطيـق لَهـا حملاً ونحـنُ بهـا حقًّـا أحِقّـاء
زلازل تخشـع الصـمّ الصِّلاب لَهـا وكيف يقوى علـى الزّلزال شمّاء
فباسمك الأعظم الْمكنـون إن عظُمت منّا الذنوب وسـاءَ القلب أسواء
فاسمح وهَب وتفضَّل وامحُ واعفُ وجُد واصفح فكلٌّ لفرط الْجهل خطّاء
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]. قال قتادة: "بلغنا أنه ليس أحدٌ يصيبُه خَدشُ عودٍ ولا نَكبة قَدم ولا خَلجات عِرق إلا بذنب، ويعفو الله عنه أكثر". وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: خسفت الشمس في زمن النبيِّ ، فقام فزِعًا يخشى أن تقومَ الساعة، حتى أتى المسجد فقام يصلي بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجود، ما رأيته يفعله في صلاةٍ قطّ، ثم قال: ((إنّ هذه الآياتِ التي يرسِل الله لا تكونُ لموتِ أحد ولا لحياته، ولكنَّ الله يرسلِها يخوِّف بها عبادَه، فإذا رأيتم منها شيئًا فافزَعوا إلى ذِكره ودُعائه واستغفاره)) متفق عليه،
((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا رأى غَيمًا أو رِيحًا عُرِف في وجهه، فسألته فقال: ((يا عائشة، ما يُؤمِنِّي أن يكونَ فيه عذاب؟! عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا)) أخرجه البخاري.
النـاسكـون يحـاذِرون ومـا بسـيِّـئـة ألَمُّـوا
كـانوا إذا رامـوا كلامًا مطلَقًـا خطَمـوا وزمّـوا
إن قيلَـتِ الفحشـاء أو ظهرَت عمُوا عنها و صمّوا
فمضـوا وجـاء معاشرٌ بالْمنكرات قووا و طمّـوا
ففَـم لطعـم فـاغـرٌ و يد علـى مـال تضـمّ
عدلوا عن الحسَن الجميل وللخنـا عمَـدوا وأمّـوا
وإذا هـمُ أعيـتـهـمُ شنعـاؤُهم كـذَبوا وأمّوا
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60]، وَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43]، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
أيا عجبًا للناس في طول ما سهَـوا وفي طول ما اغترّوا وفي طول ما لهوا
يقولون: نرجُو الله ثم افتَـروا بـه ولو أنَّهم يرجون خافوا كما رَجَـوا
وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ [غافر: 13]، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [البقرة: 269]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [هود: 103]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى [النازعات: 26]، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى: 10، 11].
ما يجهَل الرشدَ مَن خاف الإله ومن أمسـى وهِمّتُه في دينه الفكـر
مـا يحذَر الله إلا الراشـدون وقد يُنجي الرشيدَ من المحذورة الحذَر
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونَفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والبيّنات والدلالات والحكمة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
......................................................................
(الخطبة الثانية)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون، من أُصيبَ بهذه المصيبةِ فصبر واحتسَب ورضيَ واستَرجع عوَّضَه الله عما فاته هدًى في قلبه ويقينًا صادقًا في نفسه وخَلفًا عاجلاً في دنياه، فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له)) أخرجه مسلم.
وكلمة الاسترجاع: "إنا لله وإنا إليه راجعون" جعلها الله ملجأً لذوي البصائر وعِصمةً للممتحَنين وبشرى للصابرين المستَرجعين، فلا جزَع ولا هلع، ولكن رِضا وتسليم،
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلمٍ تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها؛ إلا أخلَف الله له خيرًا منها)) أخرجه مسلم،
وعن أبي سعيد وأبي هريرةَ رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله يقول: ((ما يصيب المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا سقَم ولا حزَن حتى الهمّ يهمّه إلاّ كفّر به من سيئاته)) أخرجه مسلم.
إذا ابتُليت فثِق بالله وارضَ به إنَّ الذي يكشِف البلوَى هو اللهُ
إذا قضَى الله فاستَسلم لقدرتِه ما لامرئٍ حيلةٌ فيما قضـى الله
اليأسُ يقطَع أحيانًا بصـاحبه لا تيأسـنَّ فـإنَّ الصـانعَ الله
اللّهمّ ادفع عنّا الغلا والوبا والرّبا والزنى والزلازل والمحن وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن عَن بلدِنا هذا خاصّةً وعن سائر بلاد المسلمين عامّة يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من يومِ السوء ومِن ليلة السوء ومن ساعة السوء،
اللهم اجعلنا في ضمانِك وأمانِك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل أهلنا في العيص وأملج وما حولهما في ضمانِك وأمانِك وإحسانك يا أرحم الراحمين، حسبنا الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى، على الله توكلنا وإليه أنبنا،
اللهم إنا نعوذ بك من الطعن والطاعون والوباء وهجوم البلاء في النفس والأهل والمال والولد.
الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر مما نخاف ونحذر،
الله أكبر الله أكبر عدَد ذنوبنا حتى تغفر،
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء...