خطبة بعنوان (حسن الظن بالله تعالى) للشيخ أسامة خياط حفظه الله تعالى وسدد خطاه
(الخطبة الأولى)
أما
بعد: فيا عباد الله، شرُّ ما مُنِيَت به النفوس، واضطربت به القلوب؛ يأسٌ
يُمِيتُ الشعور، وقنوطٌ تُظلِم به الدنيا، وتتحطّم به الآمال، وتخبوا به
الأماني، وتُسَدّ به المسالك، وتُغْلَقُ به المنافذ.
ولقد جاء ذكر
اليأس والقنوط في آيتين من كتاب الله، في مَعْرِض الذَّمِ لهما والتنفير من
سلوك سبيلهما؛ لأنهما من كبائر الذنوب، فقال عزَّ من قائل: إِنَّهُ لا
يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]،
ورَوْح الله ـ يا عباد الله ـ هو رحمته ورجاء الفرج عنده.
وقال
سبحانه: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّون) الآية
[الحجر:56]، فأوضح سبحانه أن المؤمن ليس من شأنه اليأس والقنوط، وإنما
يكون على الدوام خائفًا راجيًا، يخاف جَرِيرَة ذنبه وتَبِعَة معصيته، ويرجو
مع ذلك رحمة ربه وعفوه ومغفرته، مقرونًا بالعمل بطاعته.
ولقد أطمع الله
عباده في رحمته ورغّبهم في عفوه، وعلّق آمالهم في مغفرته، فقال عَزَّ
اسمه: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، وقال سبحانه:
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)
الأعراف:156
وفي الحديث القدسي ـ الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده
بإسناد صحيح، عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله قال ـ: ((قال الله تعالى: يا
ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم،
لو بلغت ذنوبك عَنَان السماء ثم اسْتَغْفَرْتَنِي غفرت لك. يا ابن آدم،
إنك لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خَطَايَا ثم لَقِيتَنِي لا تشرك بي شيئا
لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مغفرة))[1]. أي: بقريب مِلْئها غفرانًا وعفوًا.
وفي
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله قبل موته بثلاثة
أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه))
وكل ذلك ـ
يا عباد الله ـ وما في معناه من نصوص الوحيين لَمِن مَّا يفتح أمام المرء
أبواب الأمل والرجاء، ويصرفه عن اليأس والقنوط، ويوجّهه خير وُجْهَة، ويسلك
به أحسن المسالك، ويجعله ينظر إلى ما يستقبل من أيامه نظرة المتفائل الذي
يحسن الظن بربه، ويرجو رحمته وجميل العاقبة عنده.
وإن حسن ظن العبد
بربه يجب أن لا يكون مقصورًا على حالة مخصوصة، أو حادثة بعينها، أو زمن دون
آخر، فكما يجب أن يحسن المرء ظنه بالله وهو مقبل عليه، يرجو عفوه ومغفرته،
فكذلك يجب أن يكون حسن ظنه بالله مصاحبًا له في كل ما يعرض له في هذه
الحياة الدنيا من شدائد، وما ينزل به من نوازل، وما يغشاه من كروب،
فإذا
ابتُلِي بداءٍ أو أصابته جَائِحَة أو غَلَبهُ الدَّين أو فَقَدَ حبيبًا
كان مِلء السمع والبصر؛ وجب عليه أن لا ييأس من رَوْح الله، وأن لا يقنط من
رحمته، بل يجب عليه أن يستيقن أنّ ما نزل به من بلاء لم يكن إلا خيرًا له؛
يرفع الله به الدرجة أو يدفع عنه شرًّا أعظم مما ابتلاه به، أو يعوّضه
خيرًا مما فقد في عاجل أو آجل،
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري
في صحيحه عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيرًا يُصِب
منه))[3]. أي: يبتليه بالمصائب ليثيبه.
وكما جاء في الحديث الذي
أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد جيد، عن أنس ، أن رسول الله قال:
((إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا
ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخَط))
وأولئك الذين
ينظرون إلى الحياة بمنظار أسود حين تنزل بساحتهم الكوارث، وحين تصيبهم
البلايا يسكن في نفوسهم، أن البلوى سوف يطول أمدها، وأنهم سوف يُشْرِفون
بها على الهلاك، وأن الشدائد سوف تلاحقهم، وأن المحن لن ينقطع نزولها بهم،
وذلك
كله ـ يا عباد الله ـ سوء ظن بالله ليس من صفات المؤمنين، ولا من سجايا
المخبتين. فكم بَدّل الله خوف عباده أمنًا، وفقرهم غنى، وبأساهم نَعْمَاء،
وفواجِع الأيام رِفْعة ورحمة وغفرانًا!
حدّث عتبة بن غَزْوَان في خطبة
له فقال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ما لنا طعام إلا ورق الشجر،
حتى قَرِحَت أشداقُنا، والتقطت بُرْدة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك،
فاتّزرت بنصفها، واتّزر سعد بالنصف الآخر، فما أصبح اليوم منا أحد إلا وهو
أمير على مِصْر من الأمصار
وكم لهذا ـ يا عباد الله ـ من أمثالٍ وأشباه لا يكاد يستوعبها حصر في ماضي الأيام وحاضرها.
فاتقوا
الله عباد الله، واذكروا على الدوام أن حسن الظن بالله في كل حال، والأمل
فيه ورجاء ما عنده مع الخوف من تَبِعات معصيته هو شأن المؤمنين الصادقين
ودَيْدَن المحسنين، وصدق الله إذ يقول: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى
الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ
يَئُوسًا قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً )
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هوالغفور الرحيم
(الخطبة الثانية)
الحمدلله رب العالمين وصلاة وسلامآ على سيد المرسلين
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
أما
بعد: فيا عباد الله، جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي
سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: ((ما يُصِيبُ
المسلم من نَصَبٍ ولاَ وَصَبٍ ولاَ هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أَذَىً ولا غَمٍّ
حتى الشوكة يُشَاكُهَا إلا كفّر الله بها من خَطَايَاهُ))[1].
وفيه
ـ كما قال أهل العلم ـ: بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبًا
عن ألم بسبب مرض أو هَمٍّ أو نحو ذلك، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية
كانت أم قلبية تكفّر ذنوبًا وقعت عليه، وإن كان هذا التكفير مخصوص عند
جمهور أهل العلم بالصغائر، أما الكبائر فلا تكفرّها إلا التوبة النصوح؛
لقوله في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: ))الصلوات الخمس، والجمعة إلى
الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر))
وبكل
حال فإن في هذه البشارة فتحًا لباب الأمل والرجاء في كرم الله تعالى،
وجميل عفوه وعظيم غفرانه، فهي باعث قوي لكل مؤمن على تحسين الظن بالله،
والنهي عن اليأس والقنوط من فضله.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على قطع جذور اليأس من قلوبكم، وأحسنوا الظن بربكم تكونوا من المفلحين.
واذكروا
على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين
وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين (إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)