خطبة بعنوان (المحاذير الشرعية للمظاهرات ) (للشيخ عصام السناني )حفظه الله تعالى
(الخطبة الأولى)
وبَعدُ: فاتَّقُوا الله -عِبادَ الله- حَقَّ التَّقْوى.
أيُّها المسْلِمُونَ، الأمْنُ في الأوْطَانِ مَطلَبُ الكَثيرِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مَطْلَبُ العَالَمِ بأسْرِهِ، حَيَاةٌ بِلا أمْنٍ لا تُسَاوِي شَيئًا، كَيفَ يَعيشُ المرْءُ في حَالَةٍ لا يأمَنُ فيهَا عَلَى نَفْسِهِ حتَّى مِنْ أقْرَبِ النَّاسِ إليهِ؟! خَوفٌ وذُعْرٌ وهَلَعٌ وتَرَقُّبٌ وانْتِظَارٌ للغَدِ، لا يُفَكِّرُ الإنْسَانُ في شَيءٍ إلاَّ في حَالِهِ اليَومَ، لَيسَ عِنْدَهُ تَفْكيرٌ في مُسْتَقْبَلٌ، ومَا كانَ ذَلِكَ إلا بِسَببِ فُقْدَانِ الأمْنِ،
قال الله تعالى: وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ؛ طلبَ عليه السلامَ الأمنَ؛ لأنَّ الإنْسَانَ في حَالِ الفِتْنَةِ والقَلاقِلِ يَشْغَلُهُ الخَوفُ عِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورُبَّمَا زَاغَ كَثيرًا عَن الحَقّ؛ لذا أخبرَ الرَّسُولُ أنَّ المُتَمَسِّكَ بدِينهِ في آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ تَكْثُرُ الفِتَنُ كالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ.
إذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادِتهم، فتُهجَرُ المساجدُ ويمنَعُ المسلم من إظهارِ شعائرِ دينِه، وتُعاقُ سُبُلُ الخيرِ، فتختلُّ المعايشُ، وتدمّرُ الديارُ، وتتفرَّقُ الأسَرُ، وتفارَقُ الأوطانُ، وتبورُ التجارةُ، ويتعسَّرُ طلبُ الرزقِ،
وتتبدَّلُ طباعُ الخَلقِ، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحُّ. قال سبحانه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ .
باختلالِ الأمنِ تُقتَلُ نفوسٌ بريئةٌ، وترمَّلُ نساءٌ، ويُيتَّمُ أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمنُ فشا الجهلُ وشاعَ الظلمُ وسلبتِ الممتلكاتُ، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقرِ والجوعِ، قال سبحانه: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، يقولُ معاويةُ رضي الله عنه: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمُّوا بها، فإنها تفسِدُ المعيشةَ، وتكدِّرُ النِّعمةَ، وتورثُ الاستئصال).
أيها المسلمونَ، إننا اليومَ في عصرٍ أخذتْ أمواجُهُ تتلاطم بألوانِ من الشرورِ، وانفتحتْ فيه على المسلمينَ موجاتُ فتنٍ وزورٍ، فتنٌ تترى ومصائبُ تتوالى تهلكُ الحرثَ والنسلَ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ ، تأتي على الأخضرِ واليابسِ،
تذلُ الأعزاءَ وتحيرُ العقلاءَ، فتنٌ وقودُها جثثٌ وهامُ. قالَ البخاريُّ: بَاب: الْفِتْنَة الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ،
وأخرج من حديث أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ))، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: ((الْقَتْلُ الْقَتْلُ)). قالَ حُذَيْفَةَ لعُمَرَ لمّا سأل عنْ الفتنةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا.
عباد الله، الفتنةُ إذا نفخَ فيها السفيهُ اتقدتْ نارُها وعظُمَ شررُها، وإذا وقعتْ الفتنةُ وابتلي بِها الناسُ تاهتِ العقولُ واضطربتِ النفوسُ،
قالَ تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ، وإذا وقعتِ الفتنةُ لمْ يسلمْ منَ التلوثِ بِهَا إلاَّ منْ عَصمَهُ اللهُ".
عبادَ اللهِ، إننَا في زمانِ انتشرتْ فيه الفِتَنُ بينَ المسلمينَ، وبدأَ أقوامٌ لهم مطامحُ سياسيةٌ بتهييجِ الشعوبِ ليخترقُوا بهم أبوابَ الفتنِ، يقولُ الماورديُّ رحمه اللُه: "مع أنَّ لكلِ جديدٍ لذةً ولكلِ مستحدثٍ صبوة، وقالَ النبيُّ : ((إن أخوفَ ما أخافُ على أمتي منافقٌ عليمُ اللسانِ))،
إنَّ الواجبَ على كلِ ناصحٍ للهِ ورسولهِ يريدُ وجهَ اللهِ أن لاَّ يعرّض نفسَه وغيرَه للبلاءِ والفتنةِ؛ فربَّ متعرضٍ للبلاءِ لا يقوى على دفعِهِ، فإذا به أولُ مفتونٍ.
إن أقوامًا يعيشونَ في بلادِهم يتمتعونَ فيها بالعزةِ والكرامةِ، يعبدونَ ربَهم دونَ خوفٍ، ويمارسونَ دعوتَهم بكلِ أمانٍ، سرعانَ ما تغشاهُم الأفكارُ الدخيلةُ المنحرفةُ ليقوموا بتصرفاتٍ هوجاءٍ لا ينظرونَ إلى عواقِبها، فتضيقُ عليهم دنياهُم، ثم تمحى رسومُ دعوتِهم،
بسببِ العواطفِ غيرِ المنضبطِة وعدمِ اتباعِ النبيِ في طريقتِهِ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي .
معاشرَ المؤمنينِ، إن الخروجَ على الجماعةِ والإخلالَ بالسلمِ الاجتماعي هو أصلُ كلِ بلاءٍ وقعَ في تاريخِ المسلمينَ؛
لذا حذر منها أشد التحذير في المجتمع الذي يحكمه حاكمٌ مسلمٌ ولو كان ظالمًا: ففي الصحيحين عن ابْن عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))،
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))،
وعنْ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ))، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ، أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ))،
وعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثالثة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ))،
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ((سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)).
وفي مسلم وأصله في البخاري من حديثِ حُذَيْفَةُ قَالَ : ((يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ))، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)).
كلُّ هذا -أيها المسلمونَ- من النبي بيان لفضلِ الجماعةِ وعظمِ حرمتِها عند الله ورسوله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى (28/390): "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها".
أقول ماتسمعون وأستغفرالله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
(الخطبة الثانية)
الحمدلله حمد الشاكرين ولاعدوان إلا على الظالمين وصلاة وسلامآ على سيد الأنبياء والمرسلين والمبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين :
عباد الله، إن الدعوة إلى المظاهراتِ التي عمّت بلاد المسلمينَ اليومَ حتى صارتْ تقليدًا يتنادى الناس لها دون معرفة ما تؤول إليه الأمورُ بسببها لهو أمرٌ مخيفٌ مخالفٌ لقواعدِ الشريعةِ التي جاءتْ بوجوبِ المحافظةِ على الأمنِ والسلمِ، ومعاقبةِ المتعدي عليه؛ ولذا فإن هذه المظاهراتِ فيها محاذيرُ شرعية وأخطارٌ اجتماعية منها:
الأمر الأول: مفارقة الجماعةِ إذا كانت هذه المظاهراتُ مراغِمَةً للحاكم وتدعو لإسقاطه وخلعه، ، وذلك غاية الضلال لأن من فارق الجماعة والسلطانَ شبرًا فهو يموت ميتة جاهلية، ومنْ خلعَ يدًا منْ طاعةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ؛ لما في ذلك من فتح باب الشر على المسلمين.
الأمر الثاني: أنه لا يشك أحدٌ أن المظاهراتِ قد دخلتْ على المسلمينَ من الخارج، فهي تقليدٌ للكفّار،
والنّبيّ يقول كما جاء عن ابن عمر في سنن أبي داود وغيره: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))،
وروى الشيخان عن النبي وقالَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)).
لو كانت هذه المظاهراتُ فيها خيرٌ لقام بها النبيُ ولقامَ بها السلفُ،
الأمر الثالث: أن هذه المظاهرات إذا لم تأت بها الشريعةُ فهي من دعوى الجاهلية، وقد قال النبيُ : ((وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ)). فهذه المظاهرات الغوغائيةِ هي من دعوى الجاهليةِ، روى الشيخان عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ))،
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَم امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهرِيقَ دَمَهُ)). ودعوى الجاهلية هي التناصر على الباطل وبغير ما أذن الله به.
الأمر الرابع: أن هذه المظاهرات التي لم يأذن بها الله عز وجل ورسوله إذا تضمنت مفارقة الجماعة وأدت إلى قطع الطريق وتخويف الناس وسلب الأموال فهي من الحرابة التي قال تعالى فيها: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا تأولَ السلفُ هذه الآية على الكفارِ وعلى أهلِ القبلةِ حتى أدخلَ عامةُ الأئمةِ فيها قطاعُ الطريقِ الذين يشهرونَ السلاحِ لمجردِ أخذِ الأموالِ، وجعلوهم بأخذِ أموالِ الناسِ بالقتالِ محاربينَ للهِ ورسولِه ساعينَ في الأرضِ فسادًا".
ولذا فالذين يهيّجون الشعوبَ على حكامِها لتحدثَ بعد ذلكَ الفتنُ والصداماتُ وتدمر الممتلكاتُ وتراق الدماء في الطرقاتِ وتسلب الأموال بسببِ اختلالِ الأمنِ هم أشدُّ محاربة لله ورسولِهِ من المباشرين المغرَريِن،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (1/392): "المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان، والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد".
كما يجبُ أن يعلمَ أنَّ اللهَ نهى عن التعاونِ على العداونِ، فمنْ أعانَ هؤلاء في أعمالِهم وتخريبهم ومفارقتِهم للجماعة بأدنى معاونةٍ فهو شريكهم في حرابتِهم وإحداثِهم كما قَالَ : ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) رواه مسلم عن عليٍّ ،
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (15/323): "ومنْ آوى محاربًا أو سارقًا أو قاتلًا ونحوهم ممن وجبَ عليه حدٌ أو حقٌ للهِ تعالى أو لآدميٍّ ومنعه أن يستوفيَ منه الواجبَ بلا عدوان فهو شريكُه في الجرمِ، وقد لعنَه اللهُ ورسولُه".
الأمر الخامس: هذه المظاهراتِ عندَ كلِّ من عرَفها هي من أعظمِ أسبابِ الفسادِ في الأرضِ بسببِ ما تؤولُ إليه غالبًا من هلاكِ الحرثِ والنسلِ كما قال تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ،
قالَ العلامةُ الشوكانيُ عند تفسيرِ قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا :
"نهاهم اللهُ سبحانَه عن الفسادِ في الأرضِ بوجهٍ من الوجوهِ قليلًا كان أو كثيرًا، ومنه قتلُ الناسِ، وتخريبُ منازلِهم، وقطعُ أشجارِهم، وتغويرُ أنهارِهم".
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن المظاهرات فقالَ: "لا أرى المظاهراتِ النسائيةِ والرجاليةِ من العلاجِ، ولكني أرى أنها من أسبابِ الفتنِ، ومن أسبابِ الشرورِ، ومن أسبابِ ظلمِ بعضِ الناسِ، والتعدي على بعضِ الناسِ بغيرِ حقٍ، ولكن الأسبابَ الشرعيةَ المكاتبةُ والنصيحةُ والدعوةُ إلى الخيرِ بالطرقِ السليمةِ، الطرقِ التي سلكَها أهلُ العلمِ وسلكَها أصحابُ النبيِّ ".
وقال سماحته: "ولما فتحوا الشرَّ في زمانَ عثمانَ وأنكروا على عثمانَ جهرةً تمتْ الفتنةُ والقتالُ والفسادُ الذي لا يزالُ الناسُ في آثارِهِ إلى اليومِ،
حتى حصلتْ الفتنةُ بين عليٍ ومعاويةَ، وَقُتِلَ عثمانُ وعليُّ بأسبابِ ذلك، وقُتلَ جمٌّ كثيرٌ من الصحابةِ وغيرِهم بأسبابِ الإنكارِ العلني وذكرِ العيوبِ علنًا، حتى أبغضَ الناسُ وليَّ أمرِهم وقتلوه نسأل الله العافية".
الأمر السادس: أن القيام بهذه المظاهراتِ بسببِ قلةِ الأرزاقِ أو شيءٍ من الظلمِ إضافةً إلى مخالفته للأمر بالصبرِ كماَ تقدّمَ فإنه مخالفٌ للإيمانِ بالقضاء والقدرِ الذي لا يبلغُهُ المؤمنُ حتى يعلمَ أن ما أصابَه لم يكن ليخطئَه وما أخطأَه لم يكنْ ليصيبَه،
روى أصحابُ السننِ عن أَنَسٌ قال: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلا مَالٍ)).
ولما افتقرَ أهلُ الصفة وكانوا يجوعونَ وأحدُهم ما عندَه إلا رداءٌ يغطي به سوأتَه، حتى إن أحدهم إذا صلى خلفَ النبي خرّ من قامتِه من الجوعِ والخصاصةِ،
ومع ذلك يأتي النبي بعد الصلاةِ ويقول: ((لو تعلمونَ ما لكم عندَ اللهِ لأحببتم أن تزدادوا فاقة عند الله)). فهل خرجَ الناسُ في تاريخِ المسلمين الممتدِ في مظاهراتٍ غوائيةٍ إذا جاعوا ليزيدوا البلدَ تكسيرًا وفقرًا وقطعًا للطرقات وإخافةً للآمنين؟!
الأمر السابع: قالَ العلماءُ: السنةُ سفينةُ نوحٍ من ركبَها نجا ومن تركَها غرقَ، فلو قامَ الناسُ بما أمر اللهُ به من الصبرِ والنصيحةِ والتوبةِ من مظالمِهم الخاصةِ التي أدتْ لتسليطِ الحكامِ لتحققَ الخيرُ بإذنِ اللهِ،
أما هذه الثوراتُ والفتَنُ والمظاهراتُ هي على طريقِ من قام على الحكامِ بمظاهراتٍ ثم ثوراتٍ فذمهم أهل العلمِ كأهل الحرةِ وابن الأشعثِ وابن المهلبِ وغيرهم الذين قال شيخ الإسلام عنهم: "فلا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا، والله تعالى لاَ يأمرُ بأمرٍ لا يحصلُ بِهِ صلاحُ الدينِ ولا صلاحُ الدنيا".