فضل خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين الطاهرة العفيفة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(الخطبة الأولى)
أيها الناس، حين اصطفى الله تعالى نبيه محمدا على العالمين ليكون نبي هذه الأمة، ويختم به رسالاته سبحانه إلى البشر اختار له أحسن الخلال فزينه بها، وحباه من الأوصاف أفضلها، فسما على أقرانه، وفاق أهل زمانه، فما حفظت له في صباه هنة،
ولا نقلت عنه في شبابه صبوة، حتى لقب فيهم بالأمين، وحكّموه بينهم، واستأمنوه على ودائعهم، وكان في صباه وشبابه من سادتهم، وإنما يكمل الرجال بالعقل والأخلاق ولا ينفع مع الحمق والجهل مال ولا جاه.
وكان في قريش امرأة سادت نساء أهل زمانها، وفاقتهن رجاحة عقل وجمال خلقة، وكرم أصل ونسب، ووفرة مال، في خلال حسنة أخرى يزاحم بعضها بعضا، وكان أبوها ذا شرف في قومه، ونزل مكة وحالف بها بني عبد الدار بن قصي، فهي سيدة سادة شريفة أشراف.
وصفتها من حضرتها وعاشرتها وهي نَفِيسَةُ بنتُ مُنْيَةَ فقالت رضي الله عنها: (كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جلدة شريفة، أوسط قريش نسبا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصين على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال).
كانت رضي الله عنها تُدعى في الجاهلية بالطاهرة، وكان يقال لها: سيدة قريش، تزوجت قبل النبي ثلاثة رجال من أشراف الناس، ولم يرغب عنها كرام الرجال يوما، بل ظلوا يرغبون في زواجها، ويتوسلون بالأموال والشفاعات إليها ولكنها تردهم، وكان أحفادها ينادشون: بنو الطاهرة، فلازم وصفها بالطهر أحفادها، كما ذكر ذلك حافظ الأنساب الزبير بن بكار رحمه الله تعالى.
كَانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها امْرَأَةً تَاجِرَةً تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ الله ما بلغها مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ وَعَظِيمِ أَمَانَتِهِ وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ،
فشاركها النبي وسار إلى الشام واشترى لها البضائع، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بورك لها في بضاعتها، فبَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فربحت الضعف أو قريبا منه،
وَحَدَّثَهَا غلامها مَيْسَرَةُ ما رأى من رسول الله من الأخلاق والآيات، فأحبته ورأت أنه لا أهل لها من أشراف قريش سواه، قالت نفيسة رضي الله عنها: فأرسلتني خديجة خفية إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ((ما بيدي ما أتزوج به))، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟
قال: ((فمن هي؟)) قلت: خديجة، قال: ((وكيف لي بذلك؟)) قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبتُ فأخبرتها فأرسلتْ إليه أن ائت لساعة كذا وكذا،
فأرسلتْ إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر ودخل رسول الله في عمومته فخطبوها من عمها، فقال عمها: هذا الفحل لا يُقدَعُ أنفه، أي: لا يضرب أنفه لكونه كريما سيدا، والمعنى أنه لا يرد، فتزوج الكريم الكريمة.
ووالله، ما اختارها رب العالمين لنبيه إلا لأنها امرأة طيبة طاهرة ثابتة حازمة، فالوحي وتبعاته والرسالة وثقلها والبلاغ ومؤونته كلها تحتاج إلى ثبات أقوى من ثبوت الجبال، وكانت خديجة رضي الله تعالى عنها منبع التثبيت والطمأنينة والمواساة.
لما خاف النبي من الوحي أول مرة زمّلته حتى ذهب روعه فقال لها: ((ما لي لقد خَشِيتُ على نَفْسِي؟)) فَأَخْبَرَهَا الْخَبرَ، قالت خَدِيجَةُ: كَلَّا أَبْشِرْ فَوَ الله، لَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا؛ فَوَالله إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الحديث وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الْحَقِّ. رواه الشيخان.
تأملوا كلام هذه الحبيبة الأريبة الحنون الرؤوم المؤمنة الصديقة؛ فهي أول من صدقه وآمن به، وبشره وأذهب الخوف عنه، وقواه وثبت قلبه،
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "خديجة أول خلق الله إسلاما بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة". وقال إمام السير محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى: "آمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ،
فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَتْ بِالله وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَخَفَّفَ اللهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ، أَلَّا يَسْمَعَ شَيْئًا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إِلَّا فَرَّجَهُ اللهُ عَنْهُ بِهَا إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا تُثَبِّتُهُ وَتُخَفِّفُ عَنْهُ وَتُصَدِّقُهُ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ".
لقد اختصت رضي الله عنها بخصائص عن غيرها من أمهات المؤمنين لم يشركها فيها أحد منهن، وشاركتهن في أكثر خصائصهن فكانت مقدمة عليهن، ومن خصائصها: أن النبي لم يتزوج عليها في حياتها، ولا أشرك معها غيرها في قلبه؛ وفاء لها، وردا لإحسانها، واعترافا بفضلها، وأولاده كانوا كلهم منها إلا إبراهيم رضي الله عنه، وهي خير نساء الأمة، ومناقبها جمة، وأخبارها غزيرة، وفضائلها كثيرة.
سمي العام الذي توفيت فيه مع أبي طالب عام الحزن؛ لأن النبي فقد فيه أقرب وأقوى نصيرين له من البشر،
قال ابن أخيها حكيم بن حزام رضي الله عنه: (توفيت خديجة في رمضان سنة عشر من النبوة وهي يومئذ بنت خمس وستين سنة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله في حفرتها ولم تشرع صلاة الجنازة يومئذ".
فرضي الله عن أمنا خديجة وأرضاها وعن سائر أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم، ورزقنا السير على صراطهم المستقيم، وجنبنا دروب المفسدين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
(الخطبة الثانية)
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132].
أيها الناس، لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مناقب عدة، فقد عدها النبي من النساء الكاملات وهن قلائل، وكان يتعاهد صاحباتها بالهدايا، ويكثر الثناء عليها حتى غارت منها عائشة رضي الله عنها.
ويكفي في فضلها أن الله تعالى أرسل سلامه لها مع جبريل، وبلغه جبريل للنبي ؛
ففي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أتى جِبْرِيلُ النبي فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذه خَدِيجَةُ قد أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فيه إِدَامٌ أو طَعَامٌ أو شَرَابٌ، فإذا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عليها السَّلَامَ من رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ في الْجَنَّةِ من قَصَبٍ لَا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. رواه الشيخان.
هذه المرأة العظيمة التي ارتبط ذكرها بذكر الوحي والبعثة حين كانت تثبت النبي وتبشره، هذه المرأة الطاهرة العفيفة الحيية الستِيرة حتى لقبت بالطاهرة في الجاهلية فزادت بالإسلام شرفا إلى شرفها وطهارة إلى طهارتها، هذه المرأة العظيمة في الإسلام انبرى لفيف من الجاهلين والجاهلات لتلويث سمعتها، واجتمعوا على تشويه صورتها، وتدنيس سيرتها، بخلع اسمها الطاهر على مركز للتغريب والتخريب والإفساد،
ومحادة الله تعالى في أحكامه وتزوير شريعته.
ولئن كان الروافض قبل أشهر قد أظهروا الطعن في عائشة رضي الله عنها فإن الليبراليين حاولوا تشويه سمعة خديجة رضي الله عنها، والرافضة والليبراليون قريب بعضهم من بعض قرب اليهود والنصارى من الرافضة الفرس.
لقد أرادوا خداع العامة بتصوير خديجة رضي الله عنها سيدة أعمال تخرج في تجارتها، وتباشر أعمالها خارج منزلها، وتزاحم الرجال في ميادينهم، ويعلنون باسم الطاهرة خديجة التمرد على الحجاب وعلى قوامة الرجل على المرأة وعلى إسقاط المحرم في السفر،
وباسم خديجة يدعون إلى السفور والاختلاط ومزاحمة الرجال، فما أكثر كذبهم! وما أعظم فريتهم على بيت النبوة!
أوَلو اختاروا غير خديجة، تلك المرأة القارّة في بيتها التي لم يُعرف لها خروج مستمر منه، ولا مزاحمة للرجال، ولا غشيان للأسواق، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، تلك المرأة التي ما كانت تمنعها الجاهلية أن تخرج في تجارتها للشام مع غلامها وخدمها وهي السيدة التي لا يوطأ لها على طرف، ولا يكشف لها كنف؟!
أولو اختاروا غير خديجة التي كانت تبذل من مالها للرجال ليديروا تجارتها لكي تقر هي في منزلها؟!
والله ما منعها من غشيان أعمال الرجال إلا طهرها وعفتها وحياؤها، ولقد كانت توكل محارمها من الرجال لشراء حاجاتها كما اشترى لها ابن أخيها حكيم بن حزام مولاها زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم.
وجبريل عليه السلام بشرها ببيت في الجنة ولم يبشرها بقصر أو بستان أو نحوه، فاستخرج العلماء من ذلك نكتة لطيفة ذكرها السهيلي رحمه الله تعالى فقال: "لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث
فصارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، لم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث فيه رسول الله بيت في الإسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها غيرها".
فهل يصح أن يختار أذناب الغرب خديجة مثالا للتاجرة ومزاحمة الرجال وتحرير المرأة من أحكام الشريعة وهي التي قرّت في بيتها قبل الإسلام وبعده، وأوكلت أمر تجارتها ومالها للرجال؟! نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى وعمى البصيرة.
ولما تزوجت خديجة رضي الله عنها رسول الله كان قبل البعثة يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء، وما نقل أن خديجة كانت تخرج معه، أو تبحث عنه إذا استبطأته، وهي الزوجة المحبة التي سعت إليه حتى حظيت به، بل كانت تنتظره في بيتها حتى يرجع إليها. ومن قرأ أحاديث بدء الوحي تبين له ذلك.
كذبوا -ورب خديجة- على خديجة، فما حضرت منتديات الرجال، ولا غشت أسواقهم، ولا شاركت في مؤتمراتهم، بل أشرف شيء وهو دعوة الخلق إلى الحق تركته من أجل القرار في البيت، فما خرجت مع النبي لتدعو الناس،
بل كانت تثبته وتسليه وتصبره وهي في منزله، وتوفر له السكن والطمأنينة والراحة في مخدعه.
لم تكن خديجة كما حاولوا تصويرها سيدة أعمال، وإنما كانت ربة منزل، كانت سيدة أشرف منزل، فحظيت بشرف أن تكون سيدة النساء، وأفضل أمهات المؤمنين.
هذا التشويه المتعمد لهذه المرأة العظيمة ماذا يريد منه أهل الجهل والهوى من أتباع الغرب الشهواني؟!
إنهم يريدون تسويق الرذيلة باستغلال أسماء فضليات النساء اللائي لا يختلف في فضلهن،
وتمرير ثقافة التغريب والتخريب عبر بوابة مكتوب عليها أسماؤهن.
ألا وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كما أمركم الله تعالى بقوله
(إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين ءآمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)