(أول خطبة جمعة في شهر شوال)
(الخطبة الأولى)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله : ألا وإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد : فيا أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى فإن من اتقى الله يسر الله له أسباب السعادة في الدنيا والآخرة .
أيّها المؤمنون! إنّ مِنْ سُنّةِ اللهِ تعالى في هذهِ الحياةِ: تَعاقُبَ الليلِ والنهارِ، وهكذا الحياةُ شهرٌ يَعقبُهُ شهرٌ، وعامٌ يَخلُفُهُ عامٌ، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور:44). وهذه الأيامُ تتوالى علينا، وكلٌّ يغدو؛ فَمُعْتِقٌ نَفْسَهُ أوْ مُوبِقُها. وإنّ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى علينا: أنْ جعلَ مَواسِمَ للخيراتِ، يكثرُ فيها الثوابُ لِمَنْ خَلُصَتْ نِيّتُهُ، وَزَكَى عَملُهُ. وإنَّ مِنْ هذه المواسمِ الفاضلةِ: شهرَ الصيامِ الذي طوى بِساطَهُ قبل أيام - نسألُ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنا؛ إنه سميعٌ مجيب -.
أيها الإخوةُ! لقدْ أودَعْنا شهرَ رمضانَ ما شاءَ اللهُ أنْ نُوَدِّعَهُ مِنْ الأقوالِ والأعمالِ؛ فمَنْ كان مِنّا مُحْسِنًا؛ فَلْيُبْشِرْ بالقَبولِ؛ فإنّ اللهَ تعالى: {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنينَ}، ومَنْ كان مِنّا مُسِيئًا؛ فَلْيَتُبْ إلى الله تعالى، ولْيُحْسِنْ في بقيةِ عُمُرِه، فاللهُ يَفرحُ بتوبةِ عَبدِهِ، ويُثيبُهُ عليه الجزاءَ الحسنَ، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (طـه:82).
عباد الله! لئِنِ انْقضَى شهرُ الصيامِ؛ فإنّ زمَنَ العمَلَ لا يَنْقَضِي إلا بالموتِ، ولَئِنِ انْقضتْ أيّامُ صيامِ رَمضانَ؛ فإنَّ الصيامَ لا يزالُ مَشروعًا -وللهِ الحمدُ-في كلِّ وقتٍ. فقد سنّ رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-، ورغّبَ في صيامِ أيامٍ غيرِ رمضان، ومِن ذلك: صيامُ سِتٍّ مِن شوال. فإنّ مِنْ جملةِ شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ على توفِيقِهِ لِصيامِ شَهْرِ رمضانَ، وقِيامِه؛ أنْ يَصومَ عَقِبَ ذلك شُكْراً للهِ تعالى، وتقرُّباً إليه، وتأسِّيًا برسولِه-صلى الله عليه وسلم-، وموافَقةً له فيما رغَّبَ مِنَ الخير. فقدْ ثبَتَ في الحديثِ الذي أخرجَهُ مسلمٌ عنْ أبي أيوبٍ الأنصاريِّ -رضي الله تعالى عنه-، عنِ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " [رواه مسلم] . ومعنى الحديثِ -أيها المؤمنون! كما قال أهلُ العلم-: أنَّ مَنْ صامَ رمضانَ كاملاً فَلَمْ يكنْ عليهِ مِنْهُ قضاءٌ لِعُذْرٍ، ثم صامَ بعدَهُ مِنْ أيامِ شوالَ -غيرِ يومِ العيدِ- سِتّةَ أيامٍ؛ كان كمَنْ صامَ السَّنَة كلَّها. فَمَنْ كان عليه قضاءُ أيامٍ أفْطَرَها مِنْ رمضانَ لِعُذْرٍ؛ فَلْيُبادِرْ إلى صيامِها، فالفرضُ أولى بالتّقديم، ثم يُتْبِعُها بصيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ؛ لِيَتَحَقَّقَ له بذلك إكمالُ الصيامِ المفروضِ، ويَتِمَّ له إدراكُ فضْلِ السِّتِّ مِنْ شوالَ بعد ذلك. قال الإمامُ ابنُ رجبٍ -رحمه الله تعالى-: ((لا يَحْصُلُ مقصودُ صيامِ ستةِ أيامٍ مِن شوالَ؛ إلا لِمَنْ أكملَ صيامَ رمضانَ، ثم أتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شوالَ. فمَنْ كان عليه قضاءٌ مِنْ رمضانَ، ثم بَدَأَ بصيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ تَطَوُّعًا؛ لم يَحصلْ لهُ ثوابُ مَنْ صام رمضانَ، ثم أتبعَهُ بِسِتٍّ مِن شوالَ؛ حيثُ لَم يُكْمِلْ عِدّةَ رمضان))(1). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وهنا مسائلُ ينبغي التنبيهُ عليها، تتعلقُ بصيامِ السِّتِّ مِنْ شوالَ:
فمِنْ ذلك: أنَّ بعضَ الناسِ يكونُ عليه قضاءُ يومٍ أو يومين مِنْ رمضان، فإذا صامَها في شوال؛ جَعَلها معدودةً مِنْ صِيامِ سِتّةِ أيامٍ مِنْ شوال! وهذا خلافُ الصواب. قال ابنُ رجبٍ - رحمه الله تعالى-(1) : ((ولا يحصلُ له فضلُ صيامِ سِتٍّ مِنْ شوالَ بِصَوْمِ قضاءِ رمضان؛ لأنّ صيامَ السّتِّ مِنْ شوالَ إنما يكونُ بعد إكمالِ عِدّةِ رمضان)) اهـ كلامُه.
أيها المؤمنون! لِِصيامِ هذه السِّتِّ فضلٌ عظيمٌ رغَّبَ في صيامِها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، ووعَدَ مَنْ صامَها بالأجرِ العظيمِ، فمَنْ صام هذه الأيامَ السِّتَّ؛ كان كمَنْ صام الدهر؛ يعني: السّنَةَ كلَّها. وجاء ذلك صريحاً في حديثٍ صحيحٍ عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "صيامُ شهرِ رمضانَ بِعَشْرَةِ أشْهُرٍ، وَصِيامُ سِتَّةِ أيامٍ بِشَهْرَيْنِ؛ فَذَلِكَ صِيامُ السّنَةِ"[الترغيب: 1007]. وهذا مِنَ الأعمالِ القليلةِ ذاتِ الأجرِ الكبيرِ، والتي خصَّ اللهُ بها هذه الأمةَ دون سائرِ الأمم .
أيها الإخوةُ! بعضُ الناسِ يُوجِبُ صِيامَ السِّتِّ، ويُنكِرُ ويَعيبُ على مَنْ تركَ صِيامَها أو صيامَ بعضِها، وهذا الإنكارُ في غيرِ محلِّه؛ لأنَّ صيامَها مِنْ باب الترغيبِ في الخيرِ، لا مِنْ بابِ الوجوب على المكلَّفِ، ولكنْ مَنْ تركها؛ فقدْ تَرَكَ فَضْلاً عظيماً. ومِنْ ذلك أيضًا: أنّ بعضَ الناسِ يتحرجُ مِنْ صِيام السِّتِّ مِن شوالَ بِحُجّةِ إنّهُ إذا صامَها -ولو سَنَةً واحدةً-؛ أصبحتْ واجبةً عليه في كلِّ سَنَةٍ بعدها! وهذا خطأ؛ لأن أصلَ صِيامِها ليسَ واجِبًا في أصْلِ الشرعِ، بلْ مَنْ صامَها؛ فَهُوَ مأجُورٌ، ومَنْ تركَ صِيامَها؛ فهو غيرُ مأزُورٍ، ولكنّهُ فَرّطَ في خَيْرٍ كثير. ومِنْ ذلك أيضًا: أنّ بعضَ الناسِ يعتقدُ أنّ فضيلةَ صيامِ السّتِّ مِنْ شوالَ تكونُ بعدَ العيدِ مُباشرةً، وأنّ فضلَها ينقصُ كلّما أخّرَها عن أوّلِ الشهر! وهذا غير صحيح؛ إذْ إنّ وقتَها مفتوحٌ طوالَ شهرِ شوالَ، فمَنْ شاء؛ صامَها في أولِ الشهر، أو في أوسطِه، أو آخرِه، وفي كلٍّ خير. ومِنْ ذلك أيضاً: أنّ بعضَهم يَظُنُّ أنّ فضلَ صِيامِها لا يتحقّقُ إلا بالتتابُعِ في أيامِها! وهذا كسابِقِه لا دليلَ عليه، والأمرُ في ذلك واسع؛ فيجوزُ صومُها متتابعةً سَرْدًا، ويجوزُ صومُها مُتفرِّقةً خلالَ الشهر. قال أهلُ العِلم: ولا فرْقَ بين أنْ يُتابِعَها أو يُفَرِّقَها مِنَ الشهرِ كلِّه، وهما سواءٌ. نعم، ينبغي أنْ يُقالَ: إنّ المبادرةَ في أولِ الشهر بِصومِها مُتتابِعَةً مِنْ بابِ المسارعةِ إلى فِعْلِ الخيراتِ.
فعَلِمْنا -عبادَ الله- مما سبَقَ مِنَ الكلامِ: أنّ صومَ السّتِّ مِنْ شوالَ؛ فَضْلُها عظيمٌ، وأجْرُها كبير؛ إذْ هو يَعْدِلُ صَوْمَ السّنَة. وعَلِمْنا أنّ: صَومَها ليس واجبًا، ولكنه مُستحَبٌّ اسْتحباباً شديداً، ولا يَنبغي الإنكارُ على مَنْ لم يَصُمْها إلا مِنْ بابِ الترغيب على الخير. وعَلِمْنا كذلك: أنّ مَنْ عليه قضاءُ أيامٍ مِنْ رمضانَ أفطَرها بِعُذْرٍ؛ فَلْيَبْدَأْ بِصوْمِها أولاً، ثم لْيُتْبِعْها بصومِ السّتِّ، فَتقديمُ الفرضِ أوجبُ مِنْ تقديم النفْلِ. وعَلِمْنا كذلك: أنه يجوزُ صومُها متتابعةً، ويجوزُ صومُها متفرقة، وأنه لا بأسَ بِصومِها في أولِ الشهر، أو في وسطِه، أو في آخره، وكلُّ ذلك جائزٌ لا حرَجَ فيه.
فصومُوا -أيها المؤمنون– هذه الأيامَ القلائلَ تطوعاً للهِ؛ فإنها تَجْبُرُ لكم النقصَ الذي حَصل في فريضَتِكم، ويُضاعَفُ لكم بها الأجرُ عند ربِّكم، وتَغْنَمونَ بِصيامِها طُولَ دَهْرِكم. اللهم وفّقْنا للمسارعةِ في مرضاتك، ولا تَحْرِمْنا مِنْ واسِعِ رحمتِك، وعظيمِ هِباتِكَ، يا سميع الدعاء! أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِنْ كلِّ ذنبٍ؛ فاستغفروه إنّه هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين، أما بعدُ: فاتّقوا اللهَ -عبادَ الله-، وقابِلوا أوامِرَ الله بامتثالها، ونواهي اللهِ بِتَرْكِها والابتعادِ عنها وعن قُرْبِها، واستقيموا على طاعَتِه مُخلِصين له الدينَ في كلِّ زمانٍ ومكان، ولا تُكَدِّروا في شوالَ ما صَفَا لكم مِنَ الأعمالِ في رمضان، واستَمِرّوا على طاعةِ الرحمن، ومعصيةِ الشيطان؛ فقد َصَحَّ عَنْ الْحَسَن البصريِّ -الإمامِ التابعيِّ الجليلِ- أنه قال: ((لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب، وَصَدَّقَهُ الْعَمَل)) [تعليقات ابنِ القيّمِ على السُّنَن]، وقال أيضًا -رحمه الله-: إنّ اللهَ لم يجعلْ لِعَمَلِ المؤمنِ أَجَلاً دونَ الموت، ثم قرأ قولَ اللهِ تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. فالعبدُ المؤمنُ المكلَّفُ لا يَنقضي عَمَلُه حتى يأتِيَ عليه أجَلُه.
أيها الإخوة المؤمنون! (لقد كان السلفُ الصالِحُ يجتهدون في إتمامِ العمل وإكمالِه وإتقانِه، ثم يهتمّون بعد ذلك بقبولِه، ويخافون مِنْ رَدِّه ، في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامُ أحمد والترمذي وابنُ ماجةَ عن عائشةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ! أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ). وعن فضالةَ بنِ عُبَيدٍ قال: لَأَنْ أكونَ أعلمُ أنّ اللهَ قد تقبّلَ مني مَثقالَ حبةً مِن خردلٍ؛ أحبُّ إلِيَّ مِنَ الدنيا وما فيها؛ لأنّ اللهَ يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: من الآية27)، وقال غيرُه: أدركْتُهُم يجتهدون في العملِ الصالح، فإذا فعلوه؛ وقع عليهمُ الهمُّ ألا يُقبَلَ منهم. وقال بعضُ السلف: كانوا يَدعون اللهَ سِتَّةَ أشهرٍ أنْ يُبَلِّغَهم شهرَ رمضان، ثم يَدْعُون اللهَ سَتّةَ أشهرٍ أنْ يتقبلَه منهم. ورأى وهبُ ابنُ الوردِ -رحمه الله- قوماً يضحكون في يومِ عيد، فقال: إنْ كان هؤلاء تُقُبِّلَ منهم صيامُهم؛ فما هذا فعلُ الشاكِرين، وإنْ كان لم يُتقبّل منهم صيامُهم؛ فما هذا فعلُ الخائفين. وعن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنه كان يقولُ: مَن هذا المقبولٌ منا؛ فَنُهَنِّيه، ومَن هذا المحرومُ مَنّا فنُعَزِّيه.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والسير على ما كان عليه السلف الصالحين من الصحابة والتابعين ووفقنا اللهم للثبات على دينك وطاعتك برحمتك يا أرحم الراحمين وصل اللهم وسلم على من أرسلته رحمة وهدى للناس أجمعين واحشرنا تحت لوائه يوم الدين بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين وشفعه اللهم فينا يوم الحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .