خطبة جمعة عن قصة شعيب عليه السلام
الحمد
لله الجبار الغفار من تنزه عن الولد والحد والجلوس والاستقرار ، والصلاة
والسلام على النبيّ المختار مغيث المستغيثين وشفيع المذنبين ابا القاسم نور
القلوب والأبصار .وبعد :على ساحلِ البحرِ
الأحمرِ مِن جهةِ شمالِ بلادِ الحجازِ وباتجاه الشامِ، قربَ خليجِ
"العقبة"، تَقَعُ مدينة "مدين" التي بعث الله إليها نبيه وحبيبه "شعيبًا"
عليه السلام .كان أهل "مدين" في أول أمرهم مسلمين على ملة
سيدنا "إبراهيم" صلى الله عليه وسلم، عملوا بما يرضي الله تعالى سنين
عديدة، حتى أتاهم الشيطان وزين لهم الشرك فعبدوا "الأيكة" - وهي مجتمع شجرٍ
كثيف- من دون الله تبارك وتعالى .وصاروا يُقدِّمون لها
القرابين والأضحية. وكانوا زيادةً على كفرهم يُنقصون المكيال والميزان،
فإذا جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشَحّحوا له بغاية ما يقدرون،
ويأخذون مع الزيادة ويدفعون مع النقصان . وإذا دخل الغريب بلدتهم أخذوا دراهمه الصحيحة وقالوا: "هي مزيفة" فيأخذونها ويعطونه بدلاً منها دراهم مزيفة على أنها أصلية . وكان
إذا وقع بين أيديهم دنانير ودراهم قرضوا أطرافها ليأخذوا ما تساقط منها
فيجمعونه ويخبِّئونه، وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك منهي عنه في
الأمم السابقة على ألسنة الرسل . ولم يكتفوا بهذه المعاملات
المحرّمة بل كانوا يقطعون الطريق على المارة ويتعرضون للقوافل ويقتلون
الناس ويسفكون الدماء، ولا يتركون إلا من يدفع لهم مالاً بالقهر والجبر . وفي
خضم هذا المجتمع الفاسد بعث الله تعالى رجلاً كريمًا من أهل مدين كان ذا
مال وفير وأخلاق حسنة ولا يفعل ما يفعلونه من المساوئ، وهو سيدنا شعيب بن
مِيكِيل من ذرية من ءامن بسيدنا إبراهيم عليهما السلام، وكان يقال له خطيب
الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، فدعاهم إلى الإسلام وترك الكفر والمعاصي . وكان
"شعيب" كثيرَ الصلاة، مواظبًا على العبادة فرضِها ونفلها ويقول: "الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر" فكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا عليه وتضاحكوا،
فلما أمرهم بالحق ونهاهم عن الشرِ عيّروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة
الصلاة واستهزءوا به وقالوا له: "أصلواتك تأمرنا أن نترك ما يعبد ءاباؤنا ؟
" .ثم زادوا في غيِّهم فقالوا مستكبرين: "إن كنت صادقًا فأسقط
علينا قطعة من السماء"، فأجابهم: "إنما عليَّ البلاغ، والله يفعل ما يشاء
بكم". وكانوا يقعدون على الطرقات التي تؤدي إلى سيدنا شعيب فيتوعّدون
ويهدِّدون من أراد المجيء إليه ويصدّونه ويقولون له: "إنه كذّاب فلا تذهبوا
إليه". فظهرت شدة شقاوتِهم في أنهم لم يقتصروا على تكذيب
"شعيب" وعدم الإيمان به بل أضلوا غيرَهم ولاموهم على متابعته على نحوٍ كانت
تفعله "قريش" مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .لم يتراجع
سيدنا "شعيب" عن الدعوة إلى الإسلام. ودأب على تنفيذ ما أمره الله به، فوجد
من بعض القوم ءاذانًا صاغية وقلوبًا واعية وءامن به نفر قليل، فهلعت نفوس
الكافرين خيفة أن يعظم أمره، ويشتد ساعده، وينتشر دينه وتكثر جماعته،
فتوعّدوه ومن ءامن معه أن يخرجوهم من "مدين" إن لم يرجعوا عن دينهم ويعودوا
إلى ما كان عليه أجدادُهم . لكن "شعيبًا" لم يأبه لتهديداتهم
بل ثابر على ما هو مأمور بتبليغه من الحق والخير، وخوّف قومه بما فعل الله
بالكفار من قوم ((لوط)) عليه السلام من تعذيبهم، فإنهم لم يكونوا بعيدين
عنهم لا زمانًا ولا مكانًا ولا صفاتٍ، ولكنهم بقوا على ماهم عليه من التعنت
والكبر والكفر. ولما يئس شعيب من هدايتهم إلى الصواب، وظهر
إصرارهم وعنادهم دعا ربه عز وجل بأن ينصره عليهم وأن يعاقبهم على كفرهم
وجحودهم، وتضرع إليه أن يعجل لهم ما يستحقون من العذاب وقال: "ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين" أي احكم بيننا وبينهم بالحق .ا
الخطبة الثانية
استجاب
الله دعاءه، وأعانه بنصره، وأيده بمعجزة باهرة، فأسكن الله عنهم هبوب
الهواء سبعة أيام بلياليها، أصابهم خلالها حر شديد، وروي أنه فتح عليهم باب
من أبواب جهنم فتقطعت أنفاسهم فلم يعد يروي ظمأهم ماءٌ، ولا تحميهم ظلال،
ولا تقيهم خنادق عملوها للهرب من الحر ولا منازل ولا قصور، ففروا هاربين
وخرجوا من ديارهم مسرعين .ووصلوا إلى البرية فأظلتهم سحابة
كبيرة فوجدوا لها بردًا ولذة وريحًا طيبة، فنادى بعضهم بعضًا فاجتمعوا
تحتها ليستظلوا بظلها، ويتبرّدوا بفيئها، حتى إذا تكامل عددهم أتى أمرُ
الله فرمتهم السحابة بشرر وشهب وألسنة النار، فاحترقوا كما يحترق اللحم في
المقلى وتقلبوا في العذاب، فزلزلت الأرض من تحتهم وارتجفت بهم، وأتاهم
"جبريل" عليه السلام فصاح عليهم صيحة مفزعة قاضية فقبضت أرواحهم من أجسادهم
وأصبحوا خامدين جاثمين مقطعين .وهؤلاء الكفار ما كانوا
ليؤمنوا لو أحياهم الله تعالى لقوله عز وجل: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ
لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (الأنعام/28). وقد جمع
الله عليهم أنواعًا من العقوبات، وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به
من قبيح الصفات، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة
أخمدت الأصوات، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات .ونجى
الله نبيه "شعيبًا" ومن معه من المؤمنين الذين بلغ عددهم قُرابة تسعمائة
نفر من أصل عشرات الألوف من أهل "مدين" وساروا إلى مكة المكرمة فسكنوها إلى
أن وافاهم الأجل .