وسائل نبوية في التعليم
من مقومات
التمكين في الأرض العلم ، والشيء الوحيد الذي أمر الله تعالى رسوله - صلى
الله عليه وسلم - أن يطلب منه الزيادة هو العلم ، قال الله تعالى : {
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً }(طـه : من الآية 114 ) ، ومن ثم استمر النبي
- صلى الله عليه وسلم ـ في العهد المكي والمدني يربي أصحابه ويعلمهم ،
ويحثهم على مكارم الأخلاق ، ويوضح لهم دقائق الشريعة وأحكامها بأساليب
علمية تربوية .. ومن هذه الوسائل :
تكرار الحديث والتأني فيه :
فذلك أسهل في حفظه وأعون على فهمه ، وأدعى لاستيعابه ووعي معانيه ، ولذلك
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تكرار الحديث في غالب أحيانه ، فعن
أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كان إذا
تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ، حتى تفهم عنه )(البخاري) ..
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتأنَّى ولا يستعجل في كلامه ، بل يفصل بين
كلمة وأخرى ، حتى يسهل الحفظ ، ولا يقع التحريف والتغيير عند النقل ، وكان
يسهل على السامع أن يعد كلماته .. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (..
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم
)(البخاري).
عدم الإكثار والإملال :
كان - صلى الله عليه وسلم - يقتصد في مقدار تعليمه وزمانه ، حتى لا يمل
الصحابة ، وينشطوا لحفظه ، ويسهل عليهم عقله وفهمه ، فعن ابن مسعود ـ رضي
الله عنه ـ قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم ـ يتخولنا (يتعهدنا)
بالموعظة في الأيام ، كراهة السآمة (الملل) علينا )(البخاري).
ضرب الأمثال :
للمثل أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل والقلب ، ذلك أنه يقدم الأمر
المعنوي في صورة حِسية فيربطه بالواقع ، ويقربه إلى الذهن ، فضلا عن أن
للمثل بمختلف صوره بلاغة تأخذ بمجامع القلوب ، وتستهوي العقول ، ولذلك
استكثر القرآن الكريم من ضرب الأمثال ، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة ، فقال
الله تعالى : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(العنكبوت:43) ..
وعلى هذا المنهج الكريم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاستكثر من ضرب
الأمثال ، حتى قال عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ : " عقلت عن رسول الله ـ
صلى الله عليه و سلم ـ ألف مثل " .. وقد أُلِفت كتب متعددة في الأمثال في
الحديث النبوي ..
ومن هذه الأحاديث قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : ( مثل الجليس الصالح
والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذيك (يعطيك) ،
وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق
ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة )(البخاري) .
التعليم من خلال طرح السؤال :
طرح السؤال من الوسائل التعليمية والتربوية المهمة في ربط التواصل القوي
بين المُعَلِّم والمعلَّم ، والمُرَبِّي والمُرَبَّى ، ولذلك استخدم النبي -
صلى الله عليه وسلم - السؤال في صور متعددة لتعليم الصحابة ، مما كان له
كبير الأثر في حسن فهمهم وتمام حفظهم ، وتفاعلهم عمليا مع المعاني التربوية
المقصودة .. فأحيانا يوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال لتشويق
المستمع ولفت انتباهه للمعنى المراد ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به
الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ
الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة
، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط )(مسلم) .
وأحيانا يسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يعلم أنهم لا عِلْم لهم
به ، ويقصد إثارة انتباههم للموضوع ، ولفت أنظارهم إليه ، فعن أبي هريرة ـ
رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( أتدرون من
المفلس؟ ، قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس
من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ،
وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيُعْطى هذا من حسناته ، وهذا من
حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه
، ثم طرح في النار )(مسلم).
وأحيانا يسأل فيُحْسِن أحَدُ الصحابة الإجابة ، فيثني عليه ويمدحه ، تشجيعا
له وتحفيزا لغيره ، كما فعل مع أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ حين سأله -
صلى الله عليه وسلم - : ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك
أعظم ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : يا أبا المنذر ، أتدري أي
آية في كتاب الله معك أعظم ؟ ، قال : قلت : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }(البقرة : من الآية 255) ، قال : فضرب في صدري
وقال : لِيَهْنِكَ العلم ( هنيئا )أبا المنذر )(مسلم) .
فهذا الاستحسان والتشجيع من المعلم يبعث المتعلم على الشعور بالارتياح
والثقة بالنفس ، ويدعوه هو وغيره إلى طلب وحفظ المزيد من العلم وتحصيله .
إلقاء المعاني المثيرة للاهتمام والاستفسار :
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- مر بالسوق ، داخلا من بعض العالية ، والناس كَنَفَتَهُ (عن جانبيه) ،
فمر بجدي أسك (مقطوع الأذنين) ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، ثم قال : (
أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟، فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به ؟ ،
قال : أتحبون أنه لكم ؟ ، قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك
، فكيف وهو ميت ؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فوالله للدنيا أهون على
الله من هذا عليكم )(مسلم).
وكان - صلى الله عليه وسلم ـ يستخدم بعض الوسائل العملية خلال تعليمه
للصحابة ، لتقرير وتأكيد المعنى في نفوسهم وعقولهم ، مما يساعد على تمام
وعيه وحسن حفظه ، وهو ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية .. ومن هذه الوسائل
: التعبير بحركة اليد وبالرسم ، ورفع وإظهار الشيء ، والتعليم العملي
للشيء بفعله أمام الناس..
التعبير بحركة اليد والرسم :
مثل تشبيكه - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين
المؤمن وأخيه ، فعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ـ وشبك بين
أصابعه ـ )(البخاري) .
أما التعبير بالرسم ، فقد خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأرض
خطوطا توضيحية ليلفت نظر وتركيز الصحابة ، ثم أخذ في شرح مفردات تلك الخطوط
، وبيان المقصود منها ، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (
خَطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ، ثم قال : هذا سبيل الله
مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ، ليس
منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
}(الأنعام : 153) )(ابن حبان) .
التعبير برفع وإظهار المُتَحَدَّث عنه :
كما فعل - صلى الله عليه وسلم - عند الحديث عن حكم لبس الحرير والذهب ، فعن
علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : ( إن نبي الله - صلى الله عليه
وسلم - أخذ حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجلعه في شماله ، ثم قال : إن
هذين حرام على ذكور أمتي )(أبو داود) ، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بين القول وبين رفع الذهب والحرير وإظهارهما ، حتى يجمع لها السماع
والمشاهدة ، فيكون ذلك أوضح وأعون على الحفظ .
التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس :
وصف سهل الساعدي ـ رضي الله عنه ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول
جلوس له على المنبر فقال : ( .. فجلس عليه أول يوم وضع فكبر هو عليه ، ثم
ركع ، ثم نزل القهقري (الخلف) فسجد وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما
انصرف قال : يا أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي
)(أحمد)..
هذه بعض وسائل نبوية في تعليمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة دينها ، وما
يستقيم به أمرها في الدنيا والآخرة ، وقد ترك لنا رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ثروة هائلة ومنهجا عظيما من وسائل التربية والتعليم ، التي
تعين على سهولة الحفظ وحسن التعلم وسمو التربية ، ولنا في رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ أسوة وقدوة حسنة كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21)
موقع مقالات اسلام ويب