الابداع في العزلة
يقرأ الكثيرون فكرة العزلة على أنها انعزال عن الناس لخوف أو ترقب أو زهد أو وسوسة!
وكأن العزلة حالة تدعو إلى الاستكانة والهروب من الواقع والتخفف من
المسؤولية. قد يكون بعض هذا صحيحًا لمن أراد أن تكون العزلة له ملجأ أو
سجنًا، ولكن العزلة يمكن أن تكون مصنعًا للإنتاج ومعملًا للأفكار ومدرسة
لتنظيم الحياة والانفتاح على المستقبل!
وطالما توفرت في حياة العزلة شروط السكون النفسي، ووسائل التحصيل المعرفي،
ومولدات الإلهام، فثمة مجال للإبداع الإنساني ابتداءً، وصولًا إلى الثورة
العارمة انتهاء!
فهذا (نيوتن) مدشن النظام المعرفي الثاني، يوصي أصحابه: «لا تذكروا اسمي
أمام أحد، لا أريد أن اشتهر بين الناس، فتكثر معارفي»، وذلك حتى لا تُفسد
عليه كثرة المعارف ذلك التجرد الذي يحصنه من تشتت الأفكار، والوصول
للقوانين الكبرى في الحياة.
أما الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) صاحب كتاب «نقد العقل الخالص» الذي
يعتبره الغربيون أفضل كتاب في الفلسفة منذ عهد أفلاطون وأرسطو، فإنه وبعد
أن ألَّف أكثر من عشرين كتابًا فكَّر بحذفها وإلقائها، غاب عن مجتمعه
العلمي حوالي عشر سنوات، حتى أنَّبه بعض أصدقائه متسائلين عن جديده ليدركوا
فيما بعد أنه كان يعاني مخاضات وإرهاصات وتأملات تسببت في صمته الطويل،
وانتهت إلى لحظة ولادة كتابه حول «نقد العقل الخالص»، ولقد عاش (ديكارت)
قبله هذه الحالة عندما كان يختفي كلما ذهب إلى السوق مضطرًا مرة في
الأسبوع، إلى أن أصدر بعد مخاض عسير كتابه «مقال في المنهج»، والذي يراه
علماء الفكر والفلسفة في الغرب أنه الكتاب الذي به تغيَّر التصور القديم
للعالم، وعلى أساسه قامت العقلانية الغربية.
وفي كتب التاريخ والتراث أخبار عن الإبداع في العزلة، كانت فيها العزلة
سببًا لاختراق الفكر، وانسجام النفس، وإطلاق نظريات ورؤى تجديدية عبر
بوابات التأمل والمراجعة والهدوء.
ففي الجزائر لا تزال مغارة ابن خلدون الواقعة في مدينة فرندة غرب العاصمة
الجزائرية شاهدة على مخاضات ولادة (المقدمة الخلدونية) حيث فيها كان يجد
السكينة ويعيش الإلهام. وفي دمشق وبقرب من الجامع الأموي الأسوار التي قضى
بين جنباتها الإمام ابن تيمية، وأرسل منها رسائله للدنيا.
وفي الكهف الذي وصل إليه أستاذ الروح سعيد النورسي بعد رحلة شتوية، كتب
(رسائل النور) التي سرت في دماء وعروق أجيال لم تزحزحهم عواصف التغيير لا
بالقوة ولا بالسلم.
وفي البئر أنتج الإمام ابن الجزري (درته) التي لا يرفع رجل القرآن والقراءات رأسه إلا باستظهارها!.
وفي مصر انفتحت شهية الفيلسوف (عبدالوهاب المسيري) للأدب العربي ورواده،
واستنطق أفكارهم من حروفها، بعد عزلة شهرين كاملين في تعلم الإنجليزية.
وطارد صدام حسين أستاذ فقه الدعوة (محمد أحمد الراشد)، حتى لجأ إلى جبال
سويسرا على الحدود الفرنسية، وأنجز مشروعه الدعوي الحديث (حركة الحياة) في
أكثر من ثلاثين رسالة. ووجد المفكر السوري الأصل المصري النشأة (محمد سليم
العوّا) نفسه مطاردًا من السادات، فهاجر خارج بلده عشرين عامًا، وكان على
موعد مع تأليف كتابه الذي دُرِّس في أكثر من ستة عشر جامعة عريقة (النظام
السياسي في الإسلام)، وقل مثل ذلك عن عشرات الجهابذة الكبار.
إن الخيارات أمامنا اليوم تاريخية يوم نحسن التفرغ لزرع قيم وأفكار جديدة، وصناعة مشاريع ممتدة.
ومن عاش (العزلة الإبداعية) لفترة فهو المحظوظ حقًا، يوم يجد وقتًا
باختياره، أو بغير اختياره، ليكون أحد ثلاثة: من يرمم الفجوات، أو يتمم
المشروعات، أو يتنبأ لنفسه في المستقبل.. ولكل واحدة من هذه الحالات
أدواتها، وأماكن وجودها، وظروف معيشتها.
وبعد الإنجاز يمكن لسادة العزلة أن يعلِّموا الدنيا فنون الإبداع، وصناعة الحياة، وصياغة التاريخ!
مما قراته لـ
د. علي حمزة العمري