سنن الله تعالى في التدافع
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس:
سنن الله تعالى في عباده لا تتبدل ولا تتغير، ولا يمكن لأي قوة مهما بلغت أن تعطل لله تعالى أمرا، أو ترد له قدرا، أو تبطل سنة من سننه {﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ﴾ [الأحزاب: 38]، ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [القمر: 50].
ومن سنته تبارك وتعالى أنْ قدَّر التدافع بين الإيمان والكفر، وبين العدل والظلم، وبين الحق والباطل ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾[البقرة: 251]، ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ﴾ [الحج: 40] ومن سنته سبحانه أن شرع للمؤمنين مدافعة الكفر وأهله، ومقارعتهم بالحجة والبرهان، ومقاتلتهم باليد والسلاح.
لقد كانت سنة الله تعالى في الأمم الغابرة إهلاك المكذبين بعذاب من عنده؛ كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة . فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام، وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وشرع فيها قتال الكفار، وكان ذلك أولَ أمر الجهاد في الشرائع الربانية، واستمر في بقية الشرائع بعده على ذلك، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى ﴾ [القصص: 43].
وسيظل الجهاد قائما إلى آخر الزمان إلى أن يجاهد المسيح ابن مريم عليه السلام والمؤمنون معه الدجال وأتباعه من اليهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)؛ رواه أحمد. وبين أن الجهاد باق إلى يوم القيامة في قوله صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم)؛ رواه البخاري.
وكان من سنة الله تعالى لما شرع الجهاد، وكلف العباد به:
أنْ جعل الأيام دولا بين الحق والباطل، فتكون الغلبة لأهل الحق تارة، وتارة أخرى تكون لأهل الباطل؛ وذلك ابتلاء وامتحانا للعباد، وتمحيصا للقلوب، وتمييزا للثابت على الحق من الناكص على عقبيه، المبدل لدين الله تعالى، والحكمة من هذه السنة الثابتة منصوص عليها في القرآن أيضًا: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 140- 142]، وفي الآية الأخرى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وفي براءة ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 19]، وفي العنكبوت ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [ العنكبوت: 1 -2]، وفي القتال: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4] وفي آخر السورة: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
ثم كان من سنة الله تعالى أن كتب الغلبة لأهل الحق والإيمان والعدل على أهل الباطل والكفر والظلم، ولكن بشرط أن يكونوا قائمين بأمر الله تعالى، ناصرين لدينه، مستمسكين بشريعته، فإن غلبهم أعداؤهم فبسبب تقصيرهم في دينهم، ومعصيتهم لربهم وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، بل أقسم عليها الرب جل جلاله في قوله سبحانه: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40] وفي آيات أخرى كثيرة ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ [النور: 55]، ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171-173]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾[المجادلة: 21].
ولكن إن أخلَّ أهل الحق بهذا الشرط المتمثل في نصر الله تعالى بالاستمساك بدينه، وتعظيم شريعته، والعمل بها، فقدوا سبب النصر، وعوقبوا بالذل والهوان، وتسلط الأعداء؛ تذكيرا لهم وتأديبا، لعلهم إلى ربهم يرجعون، وبدينهم يستمسكون، وعن المعاصي ينتهون، وهذا التأديب والتذكير ذاق شدته ومرارته أفاضل هذه الأمة حين عصى الرماة في أحد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فانقلب ميزان المعركة لصالح المشركين، وكف الملائكة عن القتال إلا حماية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصاب المسلمين كرب شديد، وألمت بهم محنة عظيمة، وأحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم في نفر قليل من الصحابة رضي الله عنهم، وشُجَّ رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيته، وهُشِمت البيضة على رأسه، وأشاع المشركون قتله، وقُتل سبعون من خيار الصحابة رضي الله عنهم، ومَثَّل المشركون ببعضهم، وأُصيب أهل المدينة في آبائهم وأزواجهم وإخوانهم وأولادهم، وأنزل الله تعالى آيات كريمات تبين أن معصيتهم هي سبب مصابهم ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152]، إلى أن قال سبحانه: ﴿ وَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
إنها حقائق من رب العالمين، وإخبار العليم الخبير، وليست تكهنات كهان، أو استنتاجات خبراء، أو تحليلات سياسيين، أو تخبطات صحفيين، لا يرى أكثرهم أبعد من أنوفهم، ولا يدركون سنن الله تعالى في خلقه، ولا يحسنون التلقي عن كتابه الكريم.
إن الذل والهوان قد أصاب المسلمين في هذا الزمان على أيدي كفرة أهل الكتاب من بني إسرائيل من عباد العجل وعباد الصليب، الملعونين في كتاب الله تعالى على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم عليهم السلام؛ فاستباحوا الديار، واحتلوا البلدان، ونهبوا الثروات والتفوا على القرارات،وصاروا يلعبون بالمسلمين ذات اليمين وذات الشمال في مجالس ومنظمات أسست على الباطل، وكانت قائمة على الظلم وراعية له منذ نشأتها إلى يومنا هذا.
لقد أقضت هذه الحال المزرية مضجع كل غيور على أمته، وراح الكتاب والباحثون يشخصون المشكلة، ويبحثون أسبابها، ويقترحون الحلول لعلاجها؛ فرأى أقوام منهم أن سببها تمسك المسلمين بموروثهم من دين وكتاب وسنة، وأن العلاج في اطراح ذلك، وأخذ دين الذين كفروا المتمثل في الديمقراطية والليبرالية، والحرية المزعومة، وهو ما تصيح به أكثر الإذاعات والفضائيات، ويُسَوَّدُ في الصحف والمجلات مع كل نازلة تنزل وأزمة تتجدد، يريدون إخراج الناس من دينهم، وتجريدهم من مصدر عزهم وقوتهم، وتالله إن هذا لهو البلاء الماحق، والداء القاتل.
ورأى آخرون أن ما أصاب الأمة المسلمة ما هو إلا بسبب الركون إلى الدعة والكسل، والتقاعس عن العمل في المجالات الدنيوية، ويكثر حديث هؤلاء عن البناء الحضاري، والتقدم التقني، ويتكرر في خطابهم استخدام المصطلحات الانهزامية، كمصطلحات السلام والتعايش والإنسانية ونحوها، وتجد استدلالهم بأقوال حكماء الكفار وفلاسفتهم أكثر من استدلالهم بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، حتى في مجالات الأخلاق والسلوك؛ مما ينم عن انهزام أمام المناهج المنحرفة، وانبهار بمنجزات الحضارة المعاصرة، وافتتان بالدنيا. ويرى هؤلاء أنه لا مخرج للأمة إلا بتغيير العقلية القديمة المألوفة إلى عقلية جديدة واسعة الآفاق، متفتحة على الآخرين، ونهاية مقولاتهم تلتقي مع مقولات الطائفة الأولى، ولولا سابقة بعضهم في العلم والدعوة لربما نحو نحوها.
والحق الذي لا مرية فيه إن شاء الله تعالى أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ما هو إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وهي التي أورثت التنازع والاختلاف، وهي سبب تسلط الظالمين والكافرين، وكل ما يذكر من أسباب التخلف والضعف فمرده إلى المعصية؛ لأن المسلمين لا يصلحون إلا بطاعة الله تعالى، ولا يهزمون إلا بمعصيته، وإذا كانت معصية واحدة في غزوة أحد أورثت ذلا بعد عز، وقلبت المعركة من نصر إلى هزيمة، فكيف بمئات المعاصي التي تمتلئ بها بيوتنا وأسواقنا وأعمالنا، كم في المسلمين من معاص سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، كم فيهم من ظلم وعدوان، وبخس للحقوق، وتضييع للأمانات، وترك للواجبات، ومسارعة إلى المحرمات، يستوي في ذلك كبار القوم وأراذلهم. إن الواحد من المسلمين لو أحصى ذنوبه في يومه وليلته، سواء فيما يتعلق بحق ربه عز وجل، أو حق نفسه، أو حقوق الآخرين من والد ووالدة وزوج وولد، وذي رحم وجوار، وحقوق وظيفته وعمله، وحقوق رعيته ودولته وأمته، لو أحصى ذلك كله لعلم أن ذنوب يوم واحد كفيلة بحجب نصر الله تعالى، وتنزل عقوبته، وتسلط أعدائه، فكيف إذا عدها في عام كامل، ثم جمع معها ذنوب إخوانه المسلمين.
إنها الذنوب التي تورث الذل، وتسبب التنازع والفشل، وتؤدي إلى الضعف والعجز، وتدفع إلى حب الدنيا وضعف الهمة للآخرة، وليس بعد كلام الله تعالى في هذا الأمر كلام، واقرؤوا إن شئتم سياق الآيات من سورة آل عمران في مصاب المسلمين في أحد وأسبابه تعرفوا أثر المعصية على الأفراد والجماعة والأمة، كيف وهذا المعنى قد قرر في غير الحديث عن أحد في عدد من الآيات: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير ﴾ [الشورى: 30]، وقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 80].
هذا هو الداء، والعلاج في التوبة من هذا الداء، والعودة إلى الله تعالى، أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، وإلا كان المزيد من الذل والهوان، والظلم والاستضعاف نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يعفو عن ذنوبنا، وألا يؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا إنه سميع قريب.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ كتب الذل والهوان على الكافرين، وجعل العاقبة للمتقين، أحمده حمدا يليق بجلاله وسلطانه، وأشكره على جزيل نعمه وإحسانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، واحذروا المعاصي فإنها سبب الذل والهوان، والجوع والخوف (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
أيها المسلمون:
ربنا جل جلاله هو خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، وبيده مقاليد كل شيء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير.
بيده سبحانه وتعالى الذل والعز، والنصر والهزيمة، وهو الذي يعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، ويرفع ويضع ﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]، ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1].
من ابتغى العزة فليطلبها منه وحده لا شريك له، ولا عزة إلا في دينه الذي ارتضاه لعباده ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ [فاطر: 10] أي من أرادها فليطلبها بطاعته بدليل قوله سبحانه بعد ذلك ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10] ولا يضر المؤمن قدح الكفار والمنافقين في دينه، أو انتقاصهم له، فإن العزة فيه مهما قالوا (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) ولما قال المنافق: ﴿ َيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8] كان الجواب: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8] وبين سبحانه أن من والى الكفار يطلب العزة منهم فقد طلبها في غير محلها ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾ [النساء: 139].
وبيده سبحانه النصر والتأييد، ويطلب ذلك منه لا من أحد غيره مهما علا قدره، ومهما بلغت قوته ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]، ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126]، ﴿ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 5].
أفبعد هذه الآيات المحكمات الواضحات يسوع لمؤمن بالله تعالى أن يطلب العز والنصر من غير الله تعالى، أو يبتغيه في غير دينه، وقد قضى سبحانه بأن من نصره بالتمسك بدينه فسوف ينصره على أعدائه؟
أيسوغ لمسلم أن يقنط من رحمة الله تعالى وهو يقرأ كتابه؟ أو ييأس من عودة القوة والعزة والكرامة للأمة المسلمة؛ لتحكم في الأرض بالعدل وقد امتلأت جورا وظلما، وهو يعلم أن العاقبة للتقوى، وأن المستقبل لهذه الأمة، وأن دين الله تعالى عزيز رغم ضعف المسلمين؟
نحتاج فقط إلى التوبة النصوح التي يتخلص بها كل واحد منا من ذنوبه، ويستشعر مسؤوليته، ويحاسب نفسه، ويراقب الله تعالى في كل شؤونه، ويسعى في نصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان بكل ما يستطيع من أنواع النصرة، مع ثقته بربه عز وجل، والإكثار من الدعاء والتضرع بين يديه سبحانه؛ فإن الدعاء سلاح لا يخطئ، وقوة لا تغلب، وما تسلح الفاتحون من أسلافكم بسلاح أمضى منه، سأل سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير عليهم رحمة الله تعالى: (ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟ قال: الدعاء والصبر) ولما صافَّ قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى للترك، وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى، فقيل: هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء، قال: تلك الأصبع أحب إليَّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير) وكان صلاح الدين رحمه الله تعالى إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خر ساجداً لله قائلاً: إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل.
فثقوا بربكم - أيها المسلمون - وتعلقوا به، وتوبوا إليه، واسألوه فإنه سميع قريب مجيب
وصلوا وسلموا على نبيكم ..