الإحسان بالوالدين
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وأحسنوا ان الله يحب المحسنين.
معشر المسلمين: لقد أمر الله تعالى بالإحسان بالوالدين فقال تعالى بعد الأمر بعبادته وحده: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [سورة الإسراء:22-24].
والإحسان بالوالدين – أيها المسلمون – يتضمن كل عمل من أعمال البر نحو الوالدين مع البعد عن كل ما يؤذيهما، وذلك من الشكر لهما، قال تعالى: أن اشكر لي ولوالديك [سورة الإسراء:24]. فلتكن أيها المسلم شاكرا لله ولوالديك بأن تطيعهما وتخدمهما، لأنهما بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، فعليكم بالإحسان بهما لتكون من البارين.
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يعتبر من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي – -: أي العمل أحب إلى الله، وفي رواية: أي العمل افضل، قال: ((الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). رواه البخاري ومسلم – عليهما رحمة الله -.
فبر الوالدين مقدم حتى على الجهاد في سبيل الله، مما يدل على عظيم حق الوالدين، ليعرف المسلمون فضل والديهم وقدرهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي – - يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحي والدك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد)).
وفي رواية لمسلم: ((أقبل رجل إلى النبي – - فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله – عز وجل – قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله – عز وجل –؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
أيها المسلم: إن من الجهاد في الوالدين القيام بخدمتهما والإنفاق عليهما، خاصة إذا كنت قادرا وهما لا يستطيعان، وطاعتهما بحيث تكون رهن إشارتهما فيما يأمرانك به أو ينهيانك عنه، فإنهما أنصح لك من نفسك، فضلا عن رفاقك وجلسائك فلتستمع إلى توجيهات أبويك، ولتطعهما في المعروف وإذا أمرك أحدهما، فقل كما قال إسماعيل لأبيه إبراهيم – عليهما السلام -: يا أبت افعل ما تؤمر [سورة الصافات:102]. وعليك أن تخاطب والديك بلطف وأدب وأن تشاورهما في أعمالك وأمورك، وأن تكثر من الدعاء والاستغفار لهما، وأن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما بغضب أو احتقار، ولا ترفع يدك عليهما عند تكليمهما، ولا تقاطع حديثهما، ولا تجادلهما، ولا تكذب عليهما، ولا تسافر إلا بإذنهما ورضاهما، فإن ذلك من البر والإحسان بهما.
أيها المسلم: ومن البر بوالديك أن تقول لهما قولا كريما، أي حسنا طيبا مصحوبا بالتقدير والاحترام، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة في كل قول أو عمل تقوم به نحوهما، سواء أحببته أم كرهته، من غير ضجر ولا جدل ذلك أن كثيرا من الأولاد يظنون أن البر والإحسان بوالديهم هو فيما يوافق رغباتهم وما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقها فقط لما سمي برا، فإذا علم أبوك أو أمك أيها الولد بسفرك مثلا إلى بلد ما أو مصاحبة رفقة ما، ونهياك عن ذلك أو نهياك عن السهر على اللهو واللعب، وكرهت نهيهما لأنه يخالف هواك، وسافرت واتبعت هواك وخالفت نهيهما، فقد اسأت إليهما ولم تحسن إليهما وعققتهما ولم تبر بهما، وإذا أمرك أبوك أو أمك أو جدك أو جدتك بمعروف أو بفعل خير وكرهت ذلك ولم تنفذه، فقد عصيتهم ولم تحسن إليهم وليس أصعب على الوالدين من أن يرفض الولد لهما طلبا أو يعصي لهما أمراً، إن والديك أيها المسلم هما أرحم الناس بك ومن اعذر الناس لك، فكم تخطئ على والديك وهما يصفحان عنك! يشقيان في هذه الحياة لتسعد، ويتعبان لتستريح يعطيانك من غير منٍّ ولا أذى، وهما يرجوان حياتك، وأنت إن أطعتهما وخدمتهما، فإنك تمن عليهما بذلك وترجوا موتهما.
أيها الشاب المسلم: يا من اشترى له أبوه أو أمه سيارة ولم يشكر الله ولا لوالديه، ألا تخشى عقوبة الله العاجلة؟! لقد تعاون والدك على شراء السيارة لك من أجل راحتك وتحقيق رغبتك، أفيكون الجزاء هو الكفر بالنعمة وعصيان أمر الوالدين وعدم الإلتفات عما ينهيانك عنه من مجالس السوء ومصاحبة الأشرار والسهر بالليل خارج الدار؟! فاتق الله واحذر من التعرض لغضب والديك، ومن ثم يدعوان عليك فينزل الله بك غضبه ويحل عليك نقمته، وأنت أيها الولد يا من تلح على أبويك بشراء سيارة، وأبواك يرفضان طلبك كن سامعا لأبويك فإنهما أدرى بالأحوال منك، ولا يرجوان لك إلا الخير، ولا يسعيان إلا لمصلحتك، فإنهما يخافان عليك ما دمت في هذه السن المبكرة، فاصبر وكن مطيعا لوالديك مجتهدا في أرضائهما ولا تسمع من الأصدقاء حثهم لك على المطالبة.
وأنت أيها الصديق اتق الله في أولاد المسلمين فلا تزجهم في المهالك بل كن ناصحا أمينا وخلاً تقياً، أيها الولد كن سامعا لوالديك، ممتثلا لأمرهما، ومجتنبا لنهيهما، فإذا نهاك أبوك عن الزيادة في الاهتمام بملابسك ومظهرك خوفا عليك فانتهِ، وقل سمعاً وطاعة ولتكن معتدلا في شأنك كله، وقد قيل:
وأطع أباك بكل ما أوصى به إن المطيع أباه لا يتضعضع[1]
بقي أنت أيتها الأم الحنون، احذري من الإلحاح على الأب من أجل شراء السيارة للولد، فكم حصل بسبب تلبية رغبة الولد من المصائب والمعائب ما الله به عليم .
أيها الشاب المسلم: احذر من عقوق أمك والإساءة إليها، فلقد أوصى النبي – - بالأم أكثر مما أوصى بالأب، وذلك لعظم حقها على أولادها، جاء رجل إلى النبي – - فقال من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))[2].
إن أمك أيها المسلم لها حق عليك عظيم، فعليك أن تحسن صحبتها وأن تبرها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإن ذلك سبب لسعادتك في الدنيا والآخرة، فبادر قبل فوات الأوان، إن كانت أمك موجودة قبل أن تضيع عليك الفرصة، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ((إني لا اعلم عملا أقرب إلى الله من بر الوالدة))، وعن رفاعة بن أياس قال: ((رأيت الحارس والعكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي! قال: ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة))[3].
وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوعا[4].
أيها المسلمون: إن بعض الناس يسمع لزوجته، ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها، وهذا من أعظم العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس، عليك أيها المسلم أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وألا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على إحترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى البر بوالدينا والإحسان بهم، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لوالدينا وأن يرحمهم يعفو عنهم، إنه هو البر الرحيم.
[1] لا يتضعضع أي لا يذل ولا يفتقر .
[2] رواه البخاري.
[3] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
[4] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حكم بالخسران على العاقين بوالديهم وهم لا يظلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن البر والعقوق دين ووفاء، فإذا أطعت أيها المسلم والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك وداً ولا يقيم لك وزناً ولا يعرف لك حق أبوة ولا واجب بنوة جاء في الحديث: ((بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم)).
أيها المسلم: احذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي – -: ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات))[1].
وقال النبي – -: ((رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة)).
وقال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: (لا تصحب عاقا لوالديه، فإنه لن يبرك وقد عق والديه). فاحذر أيها المسلم من العقوق وتضييع الحقوق، قال عمر – -: ((إبكاء الوالدين من العقوق)) وقال مجاهد – رحمه الله -: ((لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما))، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: ((إذا أمرك والدك بشيء فلم تطعمهما، فقد عققتهما العقوق كله))[2].
أيها المسلمون: وإليكم هذه النماذج من أحوال البررة بوالديهم لعلها تكون لنا عظة وأسوة، قال النبي – -: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة))، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال النبي – -: ((كذلك البر وكان برا بأمه))[3]. رحمه الله، قوله كذلك البر: أي مثل تلك الدرجة تنال بسبب البر، وذكر عنه أيضا أنه كان لا يستفهم أمه كلاماً تأمره به، حتى أنه ليسأل من عندها بعد أن يخرج، يقول ماذا أرادت أمي؟.
وكان الفضل بن يحي بارا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعه السجان حينما كان في السجن من الوقود في ليلة باردة فلما أخذ الأب مضجعه من النوم، قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، وروي أن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه والصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء. وكان ابن سيرين – رحمه الله – لا يكلم أمه بكل لسانه إجلالا لها. وقيل لعمر بن ذر – رحمه الله -: كيف كان بر إبنك، قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا وأنا تحته.
وروى البخاري – رحمه الله – في صحيحه قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار وأنطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم، ثم فرج عنهم، ومنهم الذي قال: ((اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت، بدأت بوالدي أسقيهم قبل ولدي وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رأسيهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن ابدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر))[4]. وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان – - ألف درهم، قال: فعمد أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – إلى نخلة فعرقها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، والجمار لا يساوي درهمين، قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها[5].
أيها المسلم: يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان بهما مفتوح وبإمكانك أن تدرك شيئا ولو قليلا من البر بعد موتها لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضى عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة والصدقة عنهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام أصدقائهما وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يفرح به الوالدان بعد موتهما لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((إن العبد ليموت والده أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارا))[6].
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً .
اللهم وفقنا لصلة الرحم وبر الوالدين، وأرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم .
[2] البر بالوالدين لابن الجوزي.
[3] رواه النسائي.
[4] رواه البخاري :7/70.
[5] صفة الصفوة :1/522.
[6] رواه البيهقي في شعب الايمان.