وتصدَّقتْ بقـُرْطِها الوحيد
وتصدَّقتْ بقـُرْطِها الوحيد
كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فتتنازع
الإنسانَ أحوالٌ مختلفة، بين رقيٍّ يفوق هامَ السُّحُبِ، ودنوٍّ يداني
ثَرى الأرض، وبين هذا وذاك نجد أحواله -وأحوالنا- تختلف صعوداً وهبوطاً،
رُقياً وتفلتاً.
فتارة يرقى في
مراقي الخير فيتعبد لربه، وتراه ذاكراً شاكراً، قائماً صائماً، يحسن
للآخرين، ويقوم على شأنهم، وأخرى ترى منه فتوراً وقصوراً، وربما إهمالاً،
حتى إن الإنسان ليشك في إيمانه وتقواه إن راقب نفسه في ساعة صفاء، وواجهها
بحقيقة بُخْلِه أو كسله أو تهاونه في طاعة ربه.
ربما
هذا -مع اختلاف الهمم بيننا- نفس ما رواه حنظلة -رضي الله عنه- من الحيرة،
حين نظر لنفسه، وقارن بين حاله عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو
يستمع إلى أنوار الوحي، ويسترشد بخير مرشد، وكأنه يلامس السحاب، أو يصافح
الملائكة، ويرى الجنة والنار رأي العين، وبين حاله من بعدُ حينَ يخالط
الدنيا، ويعافس الأزواج والأولاد، فيظن في نفسه النفاق؛ ويورد حاله على
طبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم- فيخبره بثقة الحكيم، وبرحمة المعلم، بأن
هذا ليس نفاقا؛ لكنها طبيعة بشرية لها إقبالٌ وإدبارٌ، وأن الأمر لن يعدو
أن يكون ساعة وساعة، أي ساعة إقبال واجتهاد، وساعة راحة وممارسة لما لا بد
منه من شؤون الدنيا، فكان هذا تيسيراً على الناس، وتنبيهاً لهم على طبائع
البشر.
ولمثل هذا -أيضاً- يشير
نصحه -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-؛ ليرده عن
رغبته في التبتل والانقطاع للعبادة، بما أضر برعايته لأهله، وتفقده
لشؤونهم.
وكذلك إقرار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنصيحة سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما- فيما هو يشبه ذلك حيث قال سلمان: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) فأعادها أبو الدرداء على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (صَدَق سلمان). رواه البخاري
فهي
إذن مسؤوليات متنوعة، وأحوال مختلفة، وأوقات للأعمال: وقت يمضيه الإنسان
في العبادات والأذكار، وآخر يكون في حاجة عياله ومهنة أسرته، وحينا يختلي
بالمباحات لتكون دافعاً للطاعات، وكل تلك الأعمال تصلح قربات، إن استحضر
نيته فيها لله -تعالى-.
والمهم في
كل تلك الأحوال أن ينتبه الحصيف لظروف إقبال قلبه في تلك الأعمال؛ فينتهز
فرصته، وينهل من الخير، وكذلك يحسن سياسته في حال الإدبار؛ فيحصل من نفسه
على أقصى درجات الخير في إقبالها، ويحافظ على مستوى من أداء الفرائض
والنوافل غير منفلت، ولا متمرد حال الإدبار.
فليس
الأمر كما يحاول البعضُ أن يبرر انحرافه وتركه للواجبات بهذا الحديث -ساعة
وساعة-، فيتوهم بذلك جواز الانحراف، بينما هو لا عذر له؛ لأن الذي أخبر
بهذه الأحوال الإنسانية -صلى الله عليه وسلم- هو نفسه الذي جاء بالشرع
الذي فيه الأوامر الشرعية الواجبة الأداء، والذي قال الله -تعالى- فيه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر 99). فلا يُضرَب دينُ الله بعضه ببعض.
لقد
تذكرت هذا الرُقيَّ حين سمعت ما حدث من هذه المرأة الطيبة التي كان لي
اطلاع على بعض ظروفها، إنها مثال حي لأولئك الذين يعانون، وهم بيننا، ولا
نشعر بهم مع كثرة مشاغلنا، وقلة انتباهنا لغيرنا، بالإضافة لحرصهم على
إخفاء معاناتهم وحاجتهم، لقد أخبر القرآن الكريم عن طائفة من المتعففين: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)(البقرة:273).
لقد
كان حالها مثل أولئك: فهي امرأة متعففة، تعيش وحيدةً بلا زوج بعد أن طلقها
زوجها؛ لعدم قدرتها على إنجاب أطفال -سوى طفلها منه-، ولأنه فقير لا
يستطيع الجمع بين زوجتين؛ ولأنها تحتاج إلى الاطمئنان على ابنها الوحيد؛
فإنها ترسل له بعض ما يكفل له عيشة كريمة؛ فهي تعمل في الدوحة هنا عملا
عاديا، تقتسم منه ما ترسله إلى وليدها عند أبيه، وتعيش بالباقي.
تسأل عن أهلها؟
وهنا
تكتمل الصورة؛ فهي ابنة لرجل ليس يُعرَف له أقارب، وقد تزوج زوجته -أمها-،
وعاشا في بلد آخر غير بلده، وأنجب ثلاث إناث، هي إحداهن، وتُوفِّي الرجل
وتزوجت الفتيات كل واحدة في بلد، وماتت الأم بعد ذلك.
فحصل من هذا أن المرأة لا تعرف لها أهلاً إلا الأختين اللتين تعيشان في بلدين مختلفتين.
اعتبِرْها وحيدةً إذن من كل علائق الدنيا؛ فليس يسيرا عليها أيُ تواصل مع أختيها المشتركتين في ظروف متشابهة!
ومن كان هذا حاله فلا يُلام إن انكفأ على ذاته؛ حيث غاية مناه ألا يضطر لطلب المساعدة من الناس.
وبالرغم
من كل هذا البؤس، وضيق ذات اليد، وغياب السند من البشر؛ فإن هذه المرأة
سَمَت بنفسها فوق ذاتها، وارتفعت بهمتها على ظروفها، ولامست بقامتها
السحاب.
لمَّا حدث ما نعلمه
لإخواننا في غزة تفاعلت المرأة مع الحدث، وأرسلت مع أخرى -انتبه
لانشغالها- بقرطها الوحيد الذي لا تملك زينة غيره؛ ليُباع في مزاد خيري
لصالح غزة مع غيره من حُلِّي النساء الكريمات المتشبهات بفاطمة وعائشة في
الجود وحب الخير.
وكان من الممكن أن
يمر الأمرُ دون أن ينتبه لذلك أحدٌ، لكن الطريف أن الأخوات -وبذكاء فطري-
استفدن من الموقف، فعرضن القُرْط مع بيان ظروف صاحبته، فتفاعلت الحاضرات،
وزايدنَ عليه، حتى بلغ عشرات أضعاف سعره الحقيقي، ثم أخيراً أهدته مَن
اشترته -وبعد دفع المال- إلى صاحبته مرة أخرى!
فسبحان الله، انظر كيف تتحرك النفوس، وتسمو، وتعلو في لحظات الشدة والضيق!!
إنه
موقف واحد يمثل في الحقيقة عشرات المواقف المشابهة، وآلافَ النفوس الراقية
التي تفاعلت مع هذه الأحداث ومع غيرها، سمعنا عن رجال تخلوا عن ملابسهم
-في هذا البرد- التي لا يملكون غيرها، ونقل لنا ما تصدَّقَ به أطفال
بألعابهم وحلواهم!!
لن تضيع أمة فيها هذا التكافل، وتسودها تلك المشاعر.
إنها
من دروس تلك المحن، أن يستخرج الله -تعالى- من النفوس نفائسَها، ومن
الأخلاق عاليَها، ومن الانكسار لله أعلاه، ومن البر بالخلق أعظمَه.
فاللهَ -تعالى- نسأل أن يحفظ علينا وعلى إخواننا أجرَ الأعمال، وأن يُديم علينا حالَ الإيمان، ويبعدَ عنا العجزَ والكسلَ... آمين.