الموضوع:{أصحاب الجنة}
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الموضوع:{أصحاب الجنة}
اسم السورة : القلم | رقم الآية : 17
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني.
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون ويجحدون، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة!
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن؛ وفيه مفاجآت مشوقة، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده. وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع ـ أو القارئ ـ يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى. فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني:
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة ـ جنة الدنيا لا جنة الآخرة ـ وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة ـ كما تقول الروايات ـ على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم.. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن!
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة. إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون}.
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين. وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه.. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين المعلوم.. إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام:
{فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون. فأصبحت كالصريم}..
فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتاً لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون.
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا، وينادي بعضهم بعضاً لينفذوا ما اعتزموا:
{فتنادوا مصبحين: أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين}..
يذكر بعضهم بعضاً ويوصي بعضهم بعضاً، ويحمس بعضهم بعضاً!
ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجزوا الثمر كله لهم، ويحرموا منه المساكين!
{فانطلقوا وهم يتخافتون: أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين}!!!
وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها.. أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام، فتذهب بثمرها كله. ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب! فلنمسك أنفاسنا إذن، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.
إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين:
{وغدوا على حرد قادرين}!
أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان.. حرمان أنفسهم على أقل تقدير!!
وها هم أولاء يفاجأون. فلننطلق مع السياق ساخرين. ونحن نشهدهم مفجوئين:
{فلما رأوها قالوا: إنا لضالون}..
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار. فقد ضللنا إليها الطريق!.. ولكنهم يعودون فيتأكدون:
{بل نحن محرومون}..
وهذا هو الخبر اليقين!
والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت، وعاقبة البطر والمنع، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم ـ ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم. ولكنه تابعهم عندما خالفوه وهو فريد في رأيه، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم. ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه:
{قال أوسطهم: ألم أقل لكم: لولا تسبحون}؟!
والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان:
{قالوا: سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين}..
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة، ويتوجه باللوم إلى الآخرين.. ها هم أولاء يصنعون:
{فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون}!
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة. عسى أن يغفر الله لهم، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير:
{قالوا: يا ويلنا! إنا كنا طاغين. عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون}..
وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب:
{كذلك العذاب. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}..
في ظلال القرآن/ سيد قطب
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]