أسباب الغفله
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
أسباب الغفلة
اعداد الشيخ محمد رزق ساطور
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فقد قلنا إن للغفلة أسبابًا منها أولاً الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وثانيًا الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها ونكمل بقية أسباب الغفلة؛ فنقول وبالله تعالى التوفيق ثالثًا صحبة السوء
فالمرء على دين خليله كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله «المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل» صحيح الجامع
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ» صحيح الجامع
قال سبحانه فى وصف خليل السوء وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً الفرقان ، نزلت في عقبة بن أبي معيط، وذلك أن عقبة كان لا يَقْدَمُ من سفر إلا صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي ، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعامًا فدعا الناس ودعا رسول الله ، فلما قرب الطعام قال رسول الله «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه، وكان عقبة صديقًا لأبَيِّ بن خلف، فلما أخبر أبي بن خلف قال له يا عقبة صبأت؟ قال لا والله ما صبأت، ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، فقال ما أنا بالذي أرضى عنك أبدًا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة، فقال عليه السلام «لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوتُ رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبرًا وأما أبي بن خلف فقتله النبي يوم أحد بيده
وقال الضحاك لما بزق عقبة في وجه رسول الله عاد بزاقه في وجهه، فاحترق خداه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت» أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند صحيح، وانظر الدر المنثور، وأسباب النزول للواحدي، وتفسير البغوي
وعن أبي موسى عن النبي قال «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» البخاري ، ومسلم
قال النووي رحمه الله «فيه تمثيله الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير، وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثر فُجْرُه وبَطَالَتُه ونحو ذلك من الأنواع المذمومة»
وانظر إلى أبي طالب حين حضرته الوفاة قال له النبي «يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله»، وفي رواية «أي عم إنك أعظمهم عليَّ حقًا، وأحسنهم عندي يدًا، ولأنت أعظم حقًا علي من والدي، فقل كلمة تجب لك عليَّ بها الشفاعة يوم القيامة، قل لا إله إلا الله» فأراد أن يتلفظ بها، وأراد أن ينجو من النار، وأن يدخل في رحمة الواحد الغفار، وكاد أن يفعل، لكن صحبة السوء أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة تضرّ وتُعمي وتُصم، فقد قال له أبو جهل كيف ترغب عن ملة آبائك وأجدادك؟ ورسول الله يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فهذا من شؤم الصحبة السيئة الخبيثة، فقال رسول الله «أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فأنزل الله عز وجل مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ التوبة » البخاري ، ومسلم
وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله قال كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء » الحديث مسلم
لقد انتفع الرجل بابتعاده عن الصحبة السيئة، والحرص على الصحبة الطيبة، وختم الله تعالى له بالخير على اقترابه من الصحبة الطيبة، فصُحبة السوء تمنع من الهداية والاستقامة، والالتزام والتمسّك بشرع الله، وتودي بصاحبها إلى الغفلة والبعد عن دين الله تعالى
وقد أوصى رجل ابنه فقال يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك أي كفاك واصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن رأى سيئة سدَّها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدَّق قولك، وإن حاولت أمرًا آمرك أي أعانك وإن تنازعتما آثرك ويقول الله تعالى الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ الزخرف رابعًا الانصراف عن ذكر الله
من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغفلة البعد عن ذكر الله تعالى، قال جل وعلا وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ الزخرف ، فذكر الله تعالى تطمئن به القلوب الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرعد ، وتنفرج به الكروب، وينال العبد به محبة علام الغيوب، وبذكر الله يحصل النصر والتمكين، ويثبِّت الله القلب في مواطن الضعف قال تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ الأنفال
وأما ترك الذكر فيؤدي إلى ضنك العيش في الدنيا، والعمى في الآخرة، ويورث الوبال والحسرة، والضلال والغفلة، قال سبحانه اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ المجادلة ، وقال تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ المنافقون
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها» أخرجه الطبراني والبيهقي بأسانيد أحدها جيد كما قال المنذري وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة
وبقدر الإعراض عن ذكر الله تعالى تكون الغفلة والإعراض الكلي؛ مما يسبب الشقاوة الكلية، فالذين يعرضون عن ذكر الله يلجأون إلى ذكر من يتوهمون فيهم أنهم شركاء وأنداد لله، فيعبدونهم أي يعظمونهم ويخضعون لهم، ويدعونهم ويستمدون منهم المدد والبركات، ويرفعون إليهم الحاجات، ويرجون عند ذكر أسمائهم الخير والنعمة، ويتوقعون من سخطهم الشر والنقمة، وقد قال الله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى طـه ، بل إنهم يأنسون بغير ذكر الله، ولا يسعدون بذكره سبحانه، قال جل شأنه وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الزمر
وهذا الانصراف عن ذكر الله تعالى سوَّل لبعض الناس أن يبتدعوا ذكرًا يتراقصون به ويتمايلون، ويلهجون بكلمات يزعمونها ذكرًا، ولم يعرفوا من ذكر الله إلا هذا النوع الذي لا أصل له في كتاب الله ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» خامسًا الإعراض عن النصيحة
الإنسان في طريقه تنتابه عوارض تُباعد بينه وبين الله تعالى، وتوقعه في المعصية والمخالفة فتورثه الذل والمهانة، ويكون في أَمَسّ الحاجة إلى من ينصحه ليبصِّره بعيبه، وينقذه مما هو فيه من غيّ وتيه، والدين في كلمة واحدة النصيحة، كما قال رسول الله «الدين النصيحة ثلاث مرار، قالوا يا رسول الله لمن؟ قال لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» مسلم
فجعل الدين محصورًا في النصيحة؛ لأن حقيقة النُصْح إخلاص القول والعمل لله جل وعلا، وهو يتضمن أن يخلص المتابعة، ويخلص اتباع الكتاب، ويكون دائمًا بالطاعة، ودائمًا بمحبة الخير للأمة، فتقدم النصيحة لطالب العلم بحسب مقامه بأدب واحترام، وبيان للحق بدليله، من غير عُنف ولا تعالٍ، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، وبدلاً من أن يحرص على النصيحة تراه يُعرض عنها، وينفر منها فلا يحب الناصحين، ولا يتذكر مع المتذكرين، بل إن كثيرًا منهم تخوفه بالله فلا يخاف، وتذكِّره بعقاب الله فلا يلقي لك بالاً، تذكره بالآخرة والجنة والنار فلا يجد في نفسه إقبالاً عليك، ولا يجد لهذه المواعظ تأثيرًا في نفسه أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ الأعراف ، أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يوسف ، ولكنهم مع ذلك لا يلقون للمواعظ بالاً، بل إن كثيرًا منهم كما قال الله تعالى وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ يونس ، فلا يمكن أن يقبل النصيحة من أي أحد، كائنًا من كان، فأصبحوا في غفلة وغمرة عن هذه المعاني العظيمة بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ المؤمنون ، وهذا الإعراض يورث الغفلة، بل هو من أعظم أسبابها، نعوذ بالله من الخذلان سادسًا التسويف والتمني
التسويف التأخير، وإذا قال سوف أفعل، والتمني حديث النفس بما يكون مستقبلاً وما لا يكون، وقيل إرادة تتعلق بالمستقبل، فهو بدلاً من أن يسرع بالعودة إلى الله تعالى يسوفها ويؤخرها، والمسوِّف هو الذي كلما همَّت نفسه بفعل الخير يعوقها بـ سوف ، فلا يزال على ذلك حتى يأتيه الموت فيقول كما قال الله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ فيأتيه قول الحق كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المؤمنون
ويتمنى على الله الأماني، فالتسويف والتمني داءان خطيران، يفسدان القلب والوقت، ويَعْرُجَانِ بالمرء إلى عالم الخيال، وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلَّما همَّت نفسه بخير، إما يعوقها بسوف حتى يفجأه الموت، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم
قيل لبعض الحكماء من أسوأ الناس حالاً؟ قال من بَعُدت همته، واتسعت أمنيته، وقصرت آلته، وقلت مقدرته
فَلْيَدَع المسوِّف الأماني الكاذبة، والخيالات الكاسدة وأحلام اليقظة التي تضيّع الوقت وتطيش في الميزان، فالله تعالى يقول وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ آل عمران ، وقال تبارك وتعالى سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الحديد وقال وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ المطففين
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «أخذ رسول الله ببعض جسدي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور»، فقال لي ابن عمر «إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك؛ فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا» صحيح الترمذي للألباني ، وأصل الحديث رواه البخاري
والتسويف آفة لا تنتهي، ورجاء المعدوم وانتظاره سَفَه، وإن مَثَل المسوِّف كمثل رجل أراد أن يخلع شجرة فعمد إليها، وكاد أن يخلعها، ولكنه لم يصبر وتركها، وقال آتيها غدًا، وهو لا يدري أنها كلما كبرت كلما اشتدت، وهو كلما كبر كلما ضعف، فكيف له بعد ما قويت واشتدت وضعف هو؟
فالتسويف والتمني يؤديان حتمًا للغفلة التي تطبق على العبد، ولا تنفك عنه؛ لاجتماع المعاصي عليه، وعدم التحول عنها أو التوبة منها، فتحول بينه وبين ربه، وتجتمع عليه فتقتله وتبيده؛ فيصيبه الهلاك والدمار سابعًا الانغماس في الشهوات وفي الشبهات
الانغماس في الشهوات والشبهات يجعل على العينين غشاوة، وفي السمع وقر، وعلى القلب أقفال، وكما قال سبحانه وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف ، وقال سبحانه زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ آل عمران ، يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الدنيا من أنواع الملاذ والشهوات مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ، فبدأ بالنِّسَاء؛ لأن الفتنة بهن أشدّ، ثم بالبنين، ثم بالمال مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، وَالأَنْعَامِ من الإبل والبقر والغنم، وَالْحَرْثِ أي الأرض للغرس وللزراعة، ثم يخبر أن ذلك كله مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وزينتها الفانية الزائلة
وكما قال سبحانه فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا مريم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب، ثم نظر إليها، ثم جاء فقال أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار، قال يا جبريل فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب، فنظر إليها فقال أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها» صحيح الجامع
فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، وقال يحيى بن معاذ الرازي جاهد نفسك بأسياف الرياضة، والرياضة على أربعة أوجه القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام؛ فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات، وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء، والصبر على الأذى، وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام، وتصفيها من ظلمة شهواتها؛ فتنجو من غوائل آفاتها
وقال بعض الحكماء من استولت عليه النفس صار أسيرًا في حب شهواتها محصورًا في سجن هواها، مقهورًا مغلولاً زمامه في يدها تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد
وقال جعفر بن حميد أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يُدرك إلا بترك النعيم وقال أبو يحيى الوراق من أرضى الجوارح بالشهوات؛ فقد غرس في قلبه شجر الندامات
وقال وهيب بن الورد ما زاد على الخبز فهو شهوة وقال أيضًا من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل
وقال قتادة «إذا كان الرجل كلما هوى شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى؛ فقد اتخذ إلهه هواه»
فإذا أوغلوا في الشهوات، وفي اللهو، وفي اللعب، صاروا إلى الغفلة ولم يفيقوا منها ولم ينفكوا عنها، فالتوسع في الملذات والاستكثار من الشهوات، يؤدي إلى التكاسل عن العبادة والطاعات، والتكبر على الناس مع فعل الموبقات والشبهات قال الله تعالى عنها هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ آل عمران ؛ فتدخل عليه شبهات في العلم وفي الفهم، تورث الابتداع وعدم وضوح المنهج، والغفلة عن الحق المبين، ويتعلق بالمتشابه ابتغاء الفتنة؛ لما في قلبه من الزيغ، فلا بد من ردّ المتشابه إلى المحكم
قال عبد الرحمن بن مهدي «أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم»، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت تلا رسول الله هذه الآية هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ آل عمران ، قالت فقال رسول الله «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم» البخاري
أسأل الله تعالى أن يهدينا إلى الحق المبين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن ينجينا وإياكم من الغفلة، إنه علي كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله أجمعين وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]