لما مات ابن تيميَّة نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة: "الصلاة على ترجمان القرآن"
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (1
/ 322) :"قال شيخنا أبو عبد اللّه ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ
الإسلام ابن تيميَّة قدس الله روحه ، ونور ضريحه يقول: إن في الدنيا جنة من
لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي?! أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا
حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة
ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما نسبوا فيه من
الخير - ونحو هذا.وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره
هواه.ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه وقال:
"فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب"
"الحديد: 13".قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منة قط،
مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً،
وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه
وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما
هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة
ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها
في دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها،
والمسابقة إليها"أهـ . قال ابن رجب ـ عليه رحمة الله ـ في المصدر السابق (1/
325 ) : مكث الشيخ في القلعة من شعبان سنة لمست وعشرين إلي ذي
القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يوماً، ولم يعلم اكثر الناس
بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته.وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة
ثمان وعشرين وسبعمائة.وذكر مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على
الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس،
واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً،
ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار. وفتح باب
القلعة.وكان نائب السلطنة غائباً عن البلد،
فجاء الصاحب إلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشيخ في
القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد
الرحمن: أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية
والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق
عند مليك مقتدر" "القمر: 54. 55".فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب
الصالحي، والزرعي الضرير- وكان الشيخ يحب قراءتهما- فابتدء ا من سورة
الرحمن حتى ختما القرآن . وخرج الرجال ودخل النساء من أقارب الشيخ، فشاهدوه ثم خرجوا،
واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين
وأهل العلم، كالمزي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتى امتلأت القلعة بالرجال
وما حولها إلى الجامع، فصلَى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن
تمام. وضج الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم. "وكان قد رأى (
يقصد ابن القيم) قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الله في النوم، وسأله
عن منزلته? فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر. ثم قال له:وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن
في طبقة ابن خزيمة رحمه اللّه".
وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو
نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات
إلى الميادين والفوارة. وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشيخ في موضع
الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس
على غير صفوف. بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلا بكلفة. وكثر
الناس كثرة لا توصف.
فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة،
بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثم صلوا على الشيخ، وكان الإِمام نائب الخطابة
علاء الدين بن الخراط لغيبة الفزويني بالديار المصرية. ثم ساروا به، والناس
في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى
المقبرة يدعين ويبكين أيضاً. وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد بدمشق مثله، ولم
يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات وصرخ صارخ:
هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكا الناس بكاء كثيراً عند ذلك.
وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على
نعشه مناديل وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى.
وخرج الناس أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة. ثم من أبواب المدينة كلها، لكن
كان المعظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر،
وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل.
وتقدم في الصلاة عليه هناك: أخوه زين الدين عبد
الرحمن.
ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف
الدين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزر الرجال: بستين ألفٍ وأكثر، إلى مائتي
ألف، والنساء بخمسة عشر ألف، وظهر بذلك قول الإِمام أحمد" بيننا وبين أهل
البدع يوم الجنائز".
وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس
إلى زيارة قبره أياماً كثيرة، ليلاً ونهاراً، ورئيت له منامات كثيرة
صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقص كثيرة من بلدان شتى، وأقطار
متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده. رضي اللّه عنه ورحمه وغفر له.
وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة
والبعيدة، حتى في اليمن والصين.
وأخبر المسافرون: أنه نودي
بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة "الصلاة على ترجمان القرآن".