وصية الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه
منتدى الشريعة
وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت -رضي الله عنه- إلى تلميذه يوسف بن خالد السمتي البصري - رحمه الله
راجعها وعلق عليها الأستاذ/ إبراهيم المختار أحمد الجبرتي (أحد علماء الأزهر الشريف)
ترجمة الموصى إليه:
هو يوسف بن خالد السمتي من شيوخ الشافعي، وقد ذكره ابن حجر في عداد شيوخه في مناقب الشافعي، وخرَّج عنه ابن ماجه، وترجم له البدر العيني في رجال معاني الآثار، وقد روى الطحاوي عن المزني عن الشافعي أنه قال في حق يوسف بن خالد: هذا كان رجلاً من الخيار. وقد فند البدر العيني ما ينسب إليه من التجهم، وتوفي بالبصرة سنة 189هـ.
قال الزرنوجي في كتابه "تعليم المتعلم": وينبغي لطالب العلم أن يحصل كتاب الوصية التي كتبها أبو حنيفة - رحمه الله - ليوسف بن خالد السمتي البصري عند رجوعه إلى أهله.
الدين النصيحة (حديث شريف)
بعد أن أخذ يوسف بن خالد السمتي العلم عن أبي حنيفة وأراد الرجوع إلى بلدته (البصرة) أستأذن أبا حنيفة في ذلك، فقال له أبو حنيفة: حتى أزوِّدك بوصية فيما تحتاج إليه من معاشرة الناس، ومراتب أهل العلم وتأديب النفس، وسياسة الرعية، ورياضة الخاصة والعامة، وتفقد أمر العامة، حتى إذا خرجت بعلمك كان[1] معك آلة تصلح[2] له، وتزينه ولا تشينه.
واعلم أنك متى أسأت معاشرة الناس صاروا لك أعداء، وإن كانوا لك آباء وأمهات، ومتى أحسنت معاشرة قوم ليسوا لك بأقرباء صاروا لك أمهات وآباء.
ثم قال لي: اصبر حتى أفرغ لك نفسي، وأجمع لك همي، وأعرفك من الأمر ما تحمدني في نفسك عليه، وما توفيقي إلا بالله. فلما مضى الميعاد أخلى لي نفسه، فقال: أنا أكشف لك عما تعرضت له: كأني بك وقد دخلت البصرة وأقبلت على مَن يخالفوننا بها، ورفعت نفسك عليهم، وتطاولت بعلمك لديهم، وانقبضت عن معاشرتهم ومخالطتهم، وخالفتهم وخالفوك، وهجرتهم وهجروك، وشتمتهم شتموك، وضللتهم وضللوك وبدَّعُوك، واتصل الشَّيْن[3] بنا وبك، فاحتجت إلى الانتقال عنهم والهرب منهم، وهذا ليس من رأي؛ لأنه ليس بعاقل مَن لم يدارِ مَن ليس له مِن مداراته بُدٌّ حتى يجعل الله له مخرجًا.
إذا دخلت البصرة استقبلك الناس وزاروك وعرفوا حقك، فأنزل كل رجل منهم منزلته، وأكرم أهل الشرف وعظِّم أهل العلم، ووقِّر الشيوخ، ولاطف الأحداث[4]، وتقرب من العامة[5]، ودَارِ الفجار، واصحب الأخيار، ولا تتهاون بالسلطان، ولا تحقرن أحدًا، ولا تقصرن في إقامة مروءتك، ولا تخرجن سرَّك إلى أحد، ولا تثقن بصحبة أحد حتى تمتحنه، ولا تصادق خسيسًا ولا وضيعً[6]، ولا تألفن ما يُنْكر عليك في ظاهرك، وإياك والانبساط إلى السفهاء[7]، ولا تجيبن دعوة[8]، ولا تقبلن هدية.
وعليك بالمداراة[9] والصبر والاحتمال وحسن الخلق وسعة الصدر، واستجد ثيابك[10]، واستفره[11] دابتك، وأكثر استعمال الطيب، واجعل لنفسك خلوة ترم بها حوائجك، وابحث عن أخبار حشمك، وتقدم في تأديبهم وتقويمهم، واستعمل في ذلك الرفق، ولا تكثر العتاب فيهون العذل، ولا تألُ تأديبهم بنفسك، فإنه أبقى لحالك.
وحافظ على صلواتك، وابذل طعامك، فإنه ما ساد بخيل قط، ولتكن لك بطانة[12] تعرفك أخبار الناس، فمتى عرفت بفساد بادرت إلى إصلاحه، ومتى عرفت بصلاح ازددت رغبة وعناية.
وزُرْ مَن يزورك ومن لا يزورك، وأحسن إلى مَن يحسن إليك أو يسيء، وخذ العفو، وأمر بالمعروف، وتغافل عما لا يعنيك، واترك كل مَن يؤذيك، وبادر في إقامة الحقوق، ومن مرض من إخوانك فعُدْهُ بنفسك وتعاهده برسلك، ومَن غاب منهم افتقدت أحواله، ومَن قعد منهم عنك فلا تقعد أنت عنه، وصِل مَن جفاك، وأكرم مَن أتاك، وأعف عمن أساء إليك، ومَن تكلم فيك بالقبيح فتكلم فيه بالحسن والجميل، ومَن مات منهم قضيت حقه، ومَن كانت له فرحة هنأته بها، ومَن كانت له مصيبة عزيته عنها، ومَن أصابته جائحة[13] توجعت بها، ومَن استنهضك[14] بأمر من أموره نهضت له، ومَن استغاثك فأغثه، ومَن استنصرك نصرته، وأظهر توددًا إلى الناس ما استطعت، وأفشِ السلام ولو على قوم لئام.
ومتى جمع بينك وبين غيرك مجلس أو ضمك وإياهم مسجد، وجرت المسائل وخاضو[15] فيها بخلاف ما عندك لا تُبدِ لهم منك خلاف، فإن سئلت عنها أخبرت بما يعرفه القوم، ثم تقول: فيها قول آخر، وهو كذا وكذا، والحجة له كذا، فإن سمعوه منك عرفوا منزلتك ومقدارك، وأعطِ كل مَن يختلف إليك نوعًا من العلم ينظر فيه، وخذهم بجلي العلم دون دقيقه، وآنسهم ومازحهم أحيانًا وحادثهم؛ فإنها تجلب لك المودة وتستديم مواظبة العلم، وأطعمهم أحيانًا، وتغافل عن زلاتهم، وأقضِ حوائجهم، وارفق بهم وسامحهم، ولا تبدِ لأحد منهم ضيق صدر أو ضجر، وكن كواحد منهم، وعامل الناس معاملتك لنفسك، وارضَ منهم ما ترضاه لنفسك، واستعن على نفسك بالصيانة لها والمراقبة لأحوالها، ودَعِ الشغب[16]، ولا تضجر لمن يضجر عليك، واسمع مَن يستمع منك، ولا تكلف الناس ما لا يكلفونك، وارضَ لهم ما رضوا لأنفسهم، وقدم إليهم حسن النية، واستعمل الصدق، واطرح الكبر جانبًا، وإياك والغدر[17] وإن غدروا بك، وأدِّ الأمانة وإن خانوك، وتمسك بالوفاء، واعتصم بالتقوى[18]، وعاشر أهل الأديان حسب معاشرتهم؛ فإنك إن تمسكت بوصيتي هذه رجوت لك أن تسلم.
ثم قال له: إنه يحزنني مفارقتك، وتؤنسني معرفتك فواصلني بكتبك، وعرفني حوائجك، وكن لي كابن فإني لك كأب.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت -رضي الله عنه.
[1] كان فعل تام، وآلة فاعله.
[2] أي: تصلح تلك الآلة للعلم، وفي نسخة: تصلح لك وتزينك ولا تشينك.
[3] الشين: خلاف الزين، وفي الحديث: ما شانه الله بشيب، كما في المصباح.
[4] الأحداث: جمع حَدَث (بفتحتين)، أي: الشباب.
[5] العامة: خلاف الخاصة. قال ثعلب: سميت بذلك لأنها تعم بالشر، كما في لسان العرب.
[6] الوضيع: الدنيء من الناس، وهو والخسيس متقاربان.
[7] لأن الانبساط مع السفهاء مجلبة لقرناء السوء. قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه: الانبساط إلي الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط.
[8] لعل المراد به دعوة السفهاء وهديتهم؛ لأنها لا تكون غالبًا إلا بفساد، ويحتمل أن يكون ذلك عامًّا؛ ليظهر الاستغناء عن الناس قطعًا لما رسخ في نفوسهم من أن أهل العلم عالة عليهم حيث لا صنعة لهم سواه، فيكون ذلك داعيًا في تعميم نفع علمه، وإلا فإجابة الدعوة وقبول الهدية مطلوبان في الشرع إلا للولاة، فلا يجوز لهم حضور الدعوة الخاصة، وقبول الهدية من غير قريبه المحرم، أو ممن جرت عادته بالهدية له قبل الولاية كما هو مفصل في محله.
[9] المداراة: هي لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، وهي من صفات المؤمنين، والفرق بينها وبين المداهنة المحرمة أن المداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، والفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه باللطف حتى يرد عما هو مرتكبه، والمداهنة هي معاشرة المعلن بالفسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان ولا بالقلب، روى البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء: إنا لنَكْشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم. وروى أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شر الناس منزلة عند الله مَن تركه الناس اتقاء فحشه". نكشر: (بفتح النون وسكون الكاف وكسر الشين بعدها راء) أي: نضحك ونبتسم.
[10] واستجد ثيابك: أي اطلب جيد الثياب لكسوتك؛ لأن جمال الثياب يزيد في الهيبة، ومما ينسب للإمام مالك:
حسن ثيابك ما استطعت فإنهــا زين الرجال بها تعز وتكــرم
ودعِ التخشن في الثياب تواضعًـا فالله أعلم ما تكِنُّ وتكتــــم
فرثيث ثوبك لا يزيدك رفعة عند الإله وأنت عبد مجـــرم
وجديد ثوبك لا يضرك بعد أن تخشى الإله وتتقى ما يحــرم
[11] واستفره دابتك: أي اطلب دابة جيدة السير. وفي الصحاح: الفاره من الناس: المليح الحسن، ومن الدواب: الجيد السير.
[12] بطانة الرجل: صاحب سره، وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله.
[13] الجائحة: الآفة، والجمع جوائح، اهـ. المصباح.
[14] ومَن استنهضك: أي ومَن طلب منك القيام بأمر فقم له.
[15] قوله وخاضوا فيها. ومما يناسب هذا المقام وصية الإمام مالك بن أنس ليحيى بن يحيى الليثي، قال أوصيك بثلاث؛ الأولى أجمع لك فيها علم العلماء، والثانية أجمع لك فيها حكمة الحكماء، والثالثة أجمع لك فيها طب الأطباء. أما التي أجمع لك فيها علم العلماء: فإذا سئلت عن شيء لا تدريه فقل: لا أدري، وأما التي أجمع لك فيها حكمة الحكماء: فإذا جلست مع قوم فكن أصمتهم، فإن سلِمُوا سلِمت معهم، وإن أخطئوا سلمت من خطئهم، وأما التي أجمع لك فيها طب الأطباء: فارفع يديك من الطعام وأنت تشتهيه.
[16] الشغب (بفتح الشين المعجمة وسكون الغين وتحريكه): تهييج الشرور وتحريكها.
[17] الغدر: نقض العهد.
[18] فإن التمسك بها الفوز بسعادة الدارين؛ ولذلك ذكرها الله تعالى في أكثر من مئة وخمسين موضعًا ضمنًا وصراحة، وقال - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر: أوصيك بتقوى الله؛ فإنها رأس الأمر كله. أخرجه ابن حبان البستي في صحيحه مطولاً، وخطب سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه– فقال: أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهل له، وأن تخلطوا الرهبة بالرغبة؛ فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورَهَبًا وكانوا لنا خاشعين).
ثم اعلموا أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا ينطفئ نوره، ولا تنقضي عجائبه؛ فاستضيئوا بنوره واستنصحوا كتابه واستضيئوا منه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم لعبادته، ووَكَّلَ بكم (كرامًا كاتبين . يعلمون ما تفعلون)، ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردكم إلى سوء أعمالكم، فإن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، فالوحا الوحا، ثم النجا النجا، فإن من وراءكم طالب حثيث أمره سريع. أخرجه الحاكم في المستدرك في تفسير سورة الأنبياء عن عبد الله بن عكيم وصححه.