السلفيون: دعوة لعلاقة أفضل تجمع بين الإسلاميين
الشيخ ياسر برهامي
لعل أهمية هذا الطرح
(الدعوة لعلاقة أفضل بين الجماعات الإسلامية) تكمن في شخصية مقدمه، والجهة
التي يعبر عن منهجها وثقلها في المجتمع المصري؛ إذ إن شيخ "الدعوة السلفية"
الدكتور ياسر برهامي منظر معروف بفهمه العميق لقضايا الإسلام، ويعد
تلاميذه بالآلاف من طلبة المدرسة "السلفية العلمية"، كما يحتفظ الرجل
بعلاقات طيبة وحميمة مع شخصيات بارزة في الحركة الإسلامية.. وقد تربى في
بيت إخواني؛ إذ كان أبوه عضوًا بالجماعة، بينما كان عمه أحد معتقليها إبان
أزمة "الإخوان المسلمين" مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عام
1965.
ومن خلال كتابه "فقه الخلاف" يقدم الشيخ ياسر برهامي عددًا
من القواعد للتعامل مع الخلاف والمخالف، مما "لو التزمت به كل الاتجاهات
الإسلامية، لكان في ذلك الخير العميم في وقاية أبنائها من الانزلاق إلى
هاوية العصبية.. ولكان سبيلا لحسن العلاقة بين هذه الاتجاهات"؛ إذ كانت وما
زالت قضية الاختلافات بين الجماعات الإسلامية من أعظم العوائق وأخطرها في
طريق العمل الإسلامي، بعد أن زادت نبرة الحديث بين الإسلاميين حدة، واشتعلت
حواراتهم ومجادلاتهم بعبارات نارية، مما دفع بالبعض إلى نبذ العمل
الإسلامي الجماعي جملة وتفصيلا.
وهو هنا يحاول جاهدًا حلحلة تعقيدات هذه الخلافات، في تأصيل
شرعي مبسط للخلاف في الإسلام؛ لينفذ من خلاله إلى توجيه الدعوة لعلاقة
أفضل بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة.
بدء ياسر برهامي عمله الدعوي في تيار "الجماعة الإسلامية"
بجامعة الإسكندرية مع القطب الإخواني إبراهيم الزعفراني، قبل انسحاب الأول
من الجماعة عام 1979 من أجل الدعوة للمنهج السلفي، الذي لقي قبولا واسعًا
في الإسكندرية ليمتد فيما بعد إلى كافة أنحاء القطر المصري، مما يضعه على
رأس الحركات الدعوية تأثيرًا.
الاختلاف أمر
قدري كوني
دلت الأدلة القاطعة من
الكتاب والسنة على وجود الاختلاف بين بني البشر، وتقدير الله لذلك، قال
تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}
[يونس:19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم فسيرى
اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
فبينت هذه الأدلة أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالة،
وقضاء الله نافذ، لكن الشرع الحنيف أمرنا أن نفر من قدر الله إلى قدر الله،
بالائتلاف والاجتماع، فندفع القدر بالقدر؛ لأننا مأمورون شرعًا بنبذ
الاختلاف والسعي إلى الاجتماع، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ
اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103].
وفي كتاب "فقه الخلاف" يقسم المنظر السلفي الخلاف الذي
ينشب بين المسلمين إلى نوعين:
الأول: اختلاف التنوع:
وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى، بل
كل الأقوال صحيحة، ومن هذا الباب ما وقع من الصحابة يوم غزوة بني قريظة؛
حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق
فصلاها، وقال: لم يرد منا إضاعة الوقت، وقالت طائفة: والله لا نصليها إلا
في بني قريظة، فلم يعنف النبي أيًّا من الفريقين، بل لم ينقل عنه تصويب
فريق وتخطئة الآخر.
ويرى المؤلف أن "الجماعات الإسلامية المعاصرة فيها شيء من
هذا النوع من الاختلاف، فبعض الجماعات والاتجاهات اهتمامه الأكبر طلب العلم
بأنواعه (...) وبعض الجماعات اهتمامه بالدعوة والتبليغ، وبعضها بالجهاد في
سبيل الله، ومنها ما يكون اهتمامه بالتواجد في مراكز التأثير في المجتمع،
من خلال العمل المنظم كالنقابات ونحوها والمواقع الاقتصادية، أو في العمل
السياسي عند من يرى جوازه ومشروعيته (كالإخوان)، ولا شك أن هذا التنوع
مطلوب وليس بمذموم، بل تحقيق التكامل فيه بين الاتجاهات الإسلامية هو ما
يحقق للصحوة كل خير، ولكن لابد لتحقيق أكبر الفائدة من هذا النوع من
الاختلاف من تجنب محاذير وأمراض ظهرت في العمل الإسلامي المعاصر".
منها:
أن يكون انشغال الأفراد والجماعات بما يرونه أفضل الأعمال
سببًا لتركهم الواجبات الأخرى التي تمثل الحد الأدنى من الالتزام بالإسلام.
المحذور الثاني الذي لابد من تجنبه، هو أن يربى الأفراد
داخل هذه الجماعات على تحقير الأعمال والعلوم الأخرى التي ليس لجماعته
اهتمام كبير بها، يقول الدكتور ياسر: "إن النظرة المريضة بالاستعلاء على
أصحاب العلوم والأعمال الصالحة الأخرى التي لا تهتم بها الجماعة التي ينتمي
إليها الفرد لابد أن تختفي من بيننا نحن أبناء الصحوة الإسلامية، وإذا جهل
علينا أحد بالتحقير من عملنا وجهدنا لم نقابله بتحقيره هو وعمله، بل نذكره
بفضيلة ما نعمله وفضيلة ما يعمله، وأن كلا العملين مطلوب.. وننشر روح
المحبة على الخير ومدح صاحبه".
أما المحذور الثالث، فهو عقد الولاء والبراء على هذه
الأعمال المتنوعة، وتقديمه على أصل الولاء لدين الله والمنهج الإسلامي
الصحيح منهج أهل السنة والجماعة بشموله وتوازنه، فنجد كثيرًا من الجماعات
الإسلامية توالي وتعادي على ما جعلته من أولويات عملها، ونجد أفرادها
يتخذون موقفًا ممن رأوا منه اهتمامًا بنوع آخر غير ما تعودوا.
الثاني: اختلاف التضاد:
وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم
بخطئه أو بطلانه، وهو يكون في الشيء الواحد يقول البعض بحرمته والبعض بحله
-من جهة الحكم لا من جهة الفتوى-ووقوع هذا النوع من الاختلاف في الملل
والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة.
وهذا النوع من الخلاف ينقسم إلى نوعين:
اختلاف سائغ غير مذموم:
كثير من العلماء يقيده بأنه الخلاف في الفروع، أي في الأمور
العلمية لا الاعتقادية، "والصحيح أن يقيد بأنه: ما لا يخالف نصًّا من
كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعًا قديمًا أو قياسًا جليًّا"، وهذا سواء أكان في
الأمور العملية الاعتقادية أم في الأحكام بين الفقهاء.
اختلاف غير سائغ (مذموم):
وكثير من أهل العلم يضبطه بأنه الخلاف في الأصول أي في
العقائد، "والصحيح أن يقيد بأنه ما خالف نصًّا من كتاب أو سنة أو إجماعًا
أو قياسًا جليًّا لا يختلف فيه".
قضية التعصب
للأسماء
وفي تناوله للاختلاف
"غير السائغ" يجمل ياسر برهامي أربعة أسباب له، هي:
البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها.
الجهل ونقص العلم وظهور البدع واختلاف المناهج.
ظهور رءوس الضلال.
التعصب المذموم للأسماء والأشخاص وضعف الولاء للكتاب
والسنة.
وهذا النوع من أخطرها تدميرا للعمل الإسلامي، بل هو الذي
جعل الكثيرين يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي، واعتبار الجماعات
الإسلامية العاملة على الساحة أحزابًا باطلة يجب التحذير منها وعدم
الانتساب لها، ولقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة الجاهلية،
ولما تنادى المهاجرون: يا للمهاجرين، وتنادى الأنصار: يا للأنصار، قال: "ما
بال دعوى الجاهلية! دعوها فإنها منتنة"، مع أن اسم المهاجرين والأنصار من
أشرف الأسماء وهي من الأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وسماهم بها
الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، ومع ذلك حين صارت شعارًا ينتصر الناس
له دون تبين المحق من المبطل صارت جاهلية.
يقول المؤلف: "وهذا للأسف كثير بين المسلمين اليوم،
يتعصب الناس لجماعة معينة، أو لعالم معين، أو لبلد معين، ينصر ويغضب على
ذلك، ويتغاضى عن المخالفات التي تصدر من جماعته أو طائفته، ويعظم ما يصدر
من غيرهم، ويعمل على المصلحة المحدودة لطائفته دون النظر إلى مصالح باقي
المسلمين، ويزداد الأمر سوءا إذا رأى أن جماعته هي وحدها جماعة المسلمين
التي من فارقها فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه".
ولا شك أن هذه الأمراض تفتح باب اللعب على الصراعات
الداخلية بين أبناء الصحوة لأعداء الإسلام ينفذون منه لضرب الجميع، ولابد
أن تتكاتف الاتجاهات الإسلامية لعلاج هذه الظاهرة، وليس هذا العلاج حتما
بإلغاء الجماعات وإبطالها ولا -حتى- بعدم ذكر أسمائها؛ فإن الاجتماع على
إقامة الواجبات من الفروض.
والانتساب إلى أسماء معينة -كالانتساب إلى بلد أو عالم أو
طائفة- ليس بمحرم شرعًا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لاحظ بداية
ظهور دعوى الجاهلية بين المهاجرين والأنصار لم يعالجه بتحريم الانتساب إلى
هذه الأسماء، بل بتحذيرهم من حقيقة دعوى الجاهلية، وهي الانتصار لأسماء دون
معرفة الحق؛ فهذه هي التربية الواجبة التي يجب أن يتربى عليها أبناء
الصحوة جميعًا.
ويؤكد المؤلف أهمية أن توزن مواقف الجماعات الإسلامية
بميزان الشريعة، لا بمجرد أسمائها: "فقد نجد البعض يرفض عملا معينًا لمجرد
أن الجماعة الفلانية -التي يخالفها- هي التي قامت به.. وعلى سبيل المثال من
المعروف أن جماعة (الإخوان المسلمين) تهتم بالتواجد في الهيئات والنقابات
واتحادات الطلاب ونحوها، وجماعة أخرى هي (جماعة التبليغ) تهتم بالخروج
للناس لدعوتهم، فلا يجوز أن ينكر البعض هذا التواجد أو هذا الخروج لمجرد
أنه إذا فعلنا ذلك صرنا مثلهم".
فلابد من قبول الحق والمعاونة عليه ممن جاء به وعمله كائنًا
من كان، يقول: "ولهذا كان موقفنا -كدعوة سلفية- في مثل هذه المسائل أن ما
استطعنا أن نقوم به بالضوابط الشرعية قمنا به، وطلبنا من غيرنا أن يعيننا
عليه، وأن ينضبط في عمله بالشرع، وما عجزنا عنه وقام به غيرنا -على بعض
الدخن- أيدناه على الخير، ونصحناه بترك الدخن".
وفي إشارته لقضية مسمى (الدعوة السلفية) وما قد ينشب من
خلاف حول المسميات، يقول: "وقضية (الاسم) على كل حال ليست تمثل عندنا خطرا
أو أثرًا ذا بال، فلا بأس من التنازل عنه طالما كان المضمون حقًّا، هذا إذا
كان الاسم يمثل عائقًا عن وصول الحق للناس، ولكن لابد أن نعلم ويعلم غيرنا
أن اختلاف الأسماء ليس هو السبب الأساسي في الاختلاف حتى يظن أن الواجب هو
ترك الأسماء، فإذا تركت انتهت المشكلات، فهذا وهم كبير أدى بالكثيرين لترك
التعاون الواجب إلى بعد التخلي عن الاسم، فإنه -كما بينا- لا يحرم التسمي
بالأسماء الطيبة التي تدل على الخير وتحض عليه، وليس هذا بديلا بحال عن اسم
(الإسلام)، وإنما هو لتمييز معنى معين، وتنبيه الناس إلى ما غفلوا عنه،
كما تميز أهل السنة والجماعة بهذا الاسم للتحذير من البدع والافتراق
المذموم، فكذا اسم السلفية.
أهمية إدراك
وجود الاختلاف غير السائغ
كما لم
ينتبه فريق من أبناء الصحوة إلى وجود الخلاف السائغ، فكذلك لم ينتبه فريق
آخر إلى وجود الاختلاف غير السائغ (المذموم)، فقصر تقصيرا خطيرا في غمار
حماسته نحو الوحدة، حتى صارت كل الفرق المنتسبة إلى الإسلام عنده -حتى ولو
كانت من شر أهل البدع كالروافض- مقبولة، وهنا مكمن الخطر.
بل يزداد الأمر خطورة حين يحاول البعض أن يطبق قاعدته
الذهبية مع العلمانيين.. وهذا كله من أخطر ما يهدد الصحوة الإسلامية؛ إذ
يفرغ الشعار من حقيقته، فيبقى الاسم ويختفي المضمون.
يقول المؤلف: "ولو كانت هذه الأمور تصدر من غير
الإسلاميين لما استغربت، ولكن صدورها من بعض الرموز الإسلامية هو الذي
جعلنا نؤكد على أهمية إدراك هذا النوع من الخلاف، وأن الموقف منه لا يحتمل
إلا النبذ للبدع والضلالات، والتمسك بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصحابته الكرام".
ويضيف: "إن الاحتفاظ بنقاء المنهج الإسلامي مرتبط ارتباطا
أكيدًا بالموقف من المنحرفين عن منهج الإسلام، وإلا دخل الزور والبهتان إلى
الصحوة، وبقدر ذلك تفقد نصر الله لها؛ لأنها إنما تنصر لقيامها بالدين
الذي أنزله".
الموقف الذي
تراه السلفية
وبعد استعراضه لأشكال
الخلاف وأنواعه وكيف يكون الموقف من المخالف، يوضح الشيخ ياسر برهامي موقفه
وموقف "الدعوة السلفية" من أي خلاف لها مع الجماعات الإسلامية الأخرى
الموجودة على الساحة، وكيف تحسمه؛ فيقول: "إن أنواع الخلافات بين المسلمين
اليوم ترجع بالفعل إلى أنواع الاختلاف الثلاثة المذكورة: فمنها ما يرجع إلى
اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والتعاون عليه، ولا يصح أن نسعى لإلغاء
هذا الاختلاف؛ لأنه بالتكامل فيه يتم الواجب ويتحقق المقصود بإذن الله.
ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد السائغ، وهذا يجب احتماله وأن يسعنا كما
وسع سلفنا الصالح، ولا يفسد الود والمحبة بيننا وجود هذا النوع من
الاختلاف. ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد غير السائغ، وهذا يجب علاجه
بمحاربة البدع والضلالات والأقوال الباطلة، والاجتماع على منهج أهل السنة
والجماعة والعمل على نشره".
ولا شك أن أفضل المؤهلين لتحقيق هذه المعالجة المطلوبة
-حسبما يرى- هم الجماعات الملتزمة بمنهج أهل السنة، والتي تحتاج إلى توحيد
جهودها وتقارب صفوفها وبذل الوسع في نشر منهجها.
ولعل وحدة الجماعات واجتماعها "فريضة منشودة"؛ لأن تعدد
القيادة في مكان واحد في زمن واحد من الاختلاف المذموم الذي يجرُّ إلى
الصراع على الرياسة، وما معه من مفاسد ومحن، فلابد لهذه الاتجاهات أن تضع
في أولويات عملها تحقيق التواصل فيما بينها؛ للوصول إلى هذه الغاية
المقصودة.
يتابع: "وليست هذه بأحلام وردية غير قابلة للتطبيق،
بل مع التجرد والإخلاص والعمل المستمر نرجو الله أن يمن على هذه الأمة
بوحدتها ورشدها وصلاحها. ونحن إذ أوضحنا حقيقة موقفنا وبينا ما يسعنا وما
لا يسعنا من وجوه الاختلاف، وحددنا معالم منهج أهل السنة كما تعلمناه.. نمد
أيدينا لتحقيق هذا الواجب الشرعي للسير على طريق العلاقة الأفضل بين
الاتجاهات الإسلامية، وليس هذا النداء من فرد، بل هو من دعوة قائمة بحمد
الله ينتشر أبناؤها في أماكن شتى".