رمضان وتربية النفس.........
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، وقال: «فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر»
[رواه البخاري]، فأذن أن يواصل إلى السحر، ويأكل كل يوم أكلة واحدة في
السحور. والحقيقة أن الوسطية هي الأمر المطلوب، أما أن يكون الإنسان يأكل
كلما جاع ويشرب كلما عطش ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه طول السنة فهذا أمر
مذموم، ولاشك أنه سوف تغلبه نفسه.
وقد شرع لنا القيام لترك فضول المنام، لم يكن من عادته -صلى
الله عليه وسلم- أن يحيي الليل كله دون أن ينام جزءاً منه طول السنة إلا
في العشر الأواخر من رمضان، وذلك السهر خير وأوسط أنواع السهر الذي لا يغلب
على الإنسان فلا ينام بالكلية فيحصل له الخلل في فكره وشعوره، ولذا قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» [رواه البخاري].
ولم يحرم الجماع بالكلية، ولكن حدد له وقتًا معينًا وجعل
الإنسان هو الذي يتحكم فيه، وفرض كفارة غليظة مشددة على من جامع عمدًا في
نهار رمضان، بأن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً،
فهذا التشديد حتى يستطيع التحكم في نفسه.
وشرع لنا من ترك فضول الكلام ما لا حاجة إليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب» لا يصخب: لا يصيح، لا يرفث: لا يقول الرفث وهو الفاحش من القول، «فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم» [رواه البخاري]. وشرع لنا مزيد التحفظ من الغيبة والنميمة والزور، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [رواه البخاري]، ولذا فارتكاب الكبائر أثناء نهار رمضان يذهب بأجر الصيام، ويجعل الصوم غير مقبول، لأن الصوم شرع لتحقيق التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[سورة البقرة: 185]، فإذا ارتكب الكبائر أثناء صومه كان ذلك دلالة على أن
صومه ليس هو الصوم المشروع، ولذا كان بلا ثواب وكان غير مقبول، ولم يكن لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، لذا نقول: إن من يترك الصلاة مثلا أو من
تخرج متبرجة في نهار رمضان، أو من يسب ويلعن... فهذا مفطر بقلبه وإن لم يكن
مفطرًا بفمه وبطنه، ولا ثواب له، وصومه غير مقبول، وإن كان يسقط عنه
الفريضة ولا يؤمر الإعادة إلا أنه لا ثواب فيه، وإن جاع وعطش، «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر»
[الراوي: عبد الله بن عمر - خلاصة الدرجة: [فيه] معاوية الأطرابلسي في بعض
رواياته ما لا يتابع عليه - المحدث: ابن عدي - المصدر: الكامل في
الضعفاء]. فعليك أن تكون منتبهاً لصومك، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الصيام من الأكل و الشرب، إنما الصيام من اللغو و الرفث»
[الراوي: أبو هريرة - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر:
صحيح الجامع]، فإذا كنت تحفظ لسانك في سائر الأوقات فليكن حفظك له في رمضان
أشد.
وكذلك ترك فضول المخالطة، فالغرض
من خلطة الناس تحصيل ما ينفع الخلق، فالخلطة مع أصحاب اللعب واللهو من أعظم
الضرر، فهؤلاء يجر بعضهم بعضاً إلى المنكرات والفواحش من الإدمان والسرقة
والزنى والتدخين. وخلطة الصالحين خير خلطة وهي تقلل من الاختلاط بأهل
الفساد، وقد أصبح الاختلاط في زماننا له مفهوم أوسع منه في الزمن الماضي،
فقد صارت الخلطة من خلال وسائل الإعلام ولو كان في حجرة مغلقة: من المذياع
والتلفزيون وغيرها. فحاول أن تكون على مقاطعة تامة لوسائل الإفساد في
رمضان، لتكون مهتمًا بشغل نفسك بطاعة الله وبصحبة الصالحين، فهم القوم لا
يشقى بهم جليسهم كما قال ربنا في العبد الخطاء الذي جلس مع الصالحين لحاجة
وهو ليس منهم، قال الله -تعالى-: «وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»
[رواه مسلم]، فمجرد التواجد في المساجد مع أهل البر والتقوى والصلاح من
أسباب السعادة والمغفرة، وحذار أن تجعل المساجد سبيلاً إلى الخلطة المحرمة
من الرياء والسمعة وطلب الوجاهة والمنزلة بين الناس فهذا هو الخطر على
إخواننا، وإنما تخالط من يذكرك بالله وتذكره بالله.
والاعتكاف فرصة للخلوة ومحاسبة النفس، ولذلك نقول: ساعة
يراجع الإنسان فيها نفسه كل يوم: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها
قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [سورة الحاقة: 18]، وكما قال -تعالى-: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما فضول الأموال، فقد شرع الله لنا في رمضان قدراً واجباً
وقدراً مستحباً، فشرع لنا من الواجب زكاة الفطر وهي طهرة للصائم من اللغو
والرفث وطعمة للمساكين، وشرع لنا الصدقة في رمضان، وأفضل الصدقة في رمضان
كما في الحديث: «أفضل الصدقة صدقة في رمضان»
[الراوي: أنس بن مالك - خلاصة الدرجة: ضعيف - المحدث: الألباني - المصدر:
ضعيف الجامع]، وإن كان فيه ضعف، لكن يشهد له ما في الصحيح أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان أجود ما يكون في رمضان، وحديثَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» [رواه الترمذي]، فعليكم بكثرة الإنفاق خصوصاً في سبيل الله -عز وجل-.
ومن النفقة المشروعة في رمضان النفقة في العمرة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة»
[الراوي: أنس بن مالك - خلاصة الدرجة: [فيه] هلال بن زيد عنده مناكير -
المحدث: البخاري - المصدر: التاريخ الكبير] ، وهذه العمرة في رمضان تجمع كل
أنواع تربية النفس وتزكيتها، فلا تعبأ كثيراً بالمستوى الفاخر، وإنما فكر
كيف ستكسر عادة النفس، لأن العمرة فيه فيها نفقة وفيها تحكم في كل الرغبات
والشهوات. نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لما يحب ويرضى.