صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن محمد المختار الشنقيطي
صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
[i][size=21]الحمد الله[b]حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه ، كم يحب ربنا تعالى ويرضى ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له جل في جلاله وعلا ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداًعبده ورسوله المصطفى والمجتبى صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه أولي الرضا وعلى جميعمن سار على نهجه فاستقام واهتدى ، أما بعد :الحج إلى بيت الله الحرام ركن منأركان الإسلام وهو شعيرة من شعائره الجليلة العظام فضله الله وشرفه وأجزل المثوبةفيه حتى صح عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( من حج هذا البيت فلميرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) ، فبين-صلوات الله وسلامه عليه- أنالعبد إذا حج بيت الله الحرام فأدى لهذه العبادة حقها وحقوقها وابتعد عن الرفثوالفسوق والآثام فإن الله-عز وجل- جعل جزاءه الجنة قال-صلى الله عليه وسلم- : ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) فقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( الحجالمبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) فيه دليل على فضل هذه العبادة العظيمة ، وجزيلوجميل وجليل ما أعد الله من الثواب وحسن العاقبة والمآب لمن عرف حقها وحقوقها ،ولذلك خشعت قلوب السلف الصالح-رحمهم الله برحمته الواسعة- فكانوا أصدق الناس براًفي حجهم وإخلاصاً في عبادتهم وتأسياً برسولهم-صلوات الله وسلامه عليه- حجوا إلى بيتالله الحرام فضربوا في حجهم المثل الأعلى فيمن بر حجه ، وكان الواحد منهم إذا لبىَّتغير وجهه تعظيماً لله-جل جلاله- وتعظيماً لشعائره ، ولا يزال الصالحون يحجون بيتالله الحرام فما حج عبد منهم إلا تغيرت أحواله ورجع بقلب غير القلب الذي كان معهقبل حجه من عظيم ما وضع الله من البركة والخير في هذا الركن العظيم من أركان دينه ،ولا يمكن للمسلم أن يكون حجه مبروراً وسيعه مشكوراً وذنبه مغفوراً وأجره عظيماًموفوراً إلا إذا تأس برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، وحرص في هذه العبادة على أنتكون أقواله وأعماله وأن يكون ظاهره وباطنه موافقاً لهذه السنة متبعاً فيه رسولالأمة-صلوات الله وسلامه عليه- ، وقد جاء عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه لماكان في آخر حياته نادى مناديه أنه يريد الحج وكانت حجة الوداع ؛ لأنها كانت في آخرعمره ؛ ولأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ودع فيها الأمة فوقف يوم عرفةوقال-صلوات الله وسلامه عليه- : (( أيها الناس اسمعوا قولي وخذوا عني مناسككم فإنيلا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ولذلك تأثر أصحاب النبي-صلى الله عليهوسلم- وعلموا أن رسول الأمة-صلى الله عليه وسلم- ودعهم بهذه الكلمات وأنه على وشكالرحيل من هذه الدنيا فوعت قلوبهم ، وخشعت افئدتهم وأخذوا عن رسول الله-صلى اللهعليه وسلم- هديه وسنته في حجة الوداع على أتم الوجوه وأكملها حتى حفظوا الزمان ،وحفظوا المكان ، وحفظوا الحركات ، وحفظوا الكلمات ، - فجزاهم الله عن أمة محمد-صلىالله عليه وسلم- خير الجزاء وأوفاه - .خرج-عليه الصلاة والسلام- إلى ميقاتالمدينة ذي الحليفة وخرج معه الصحابة فقد امتلأت المدينة حينما علموا أن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- سيحج ، وجاء عن جابر أن الناس أقبلوا من كل حدبٍ وصوبكلهم يسأل ماذا سيفعل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ؟! ولم ينتظروا أن يجتمعوا بهفي مكة ولكن تكلف بعضهم وأتى إلى المدينة وتحملوا مشقة الإحرام من أبعد المواقيت عنمكة كل ذلك لكي يصحبوه من أول هذه العبادة ولا يفوتهم شيء من شرف الرؤيا وشرف العلم .
وهنا وقفة يتبين بها كل مسلم أن صحبة العلماء والحرص على السير معهم والتأدببآدابهم والتعلم منهم والاستفادة منهم أنه هدي أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-مع رسول الأمة ، وبذلك ضربوا المثل لكل من يتعلم ويحرص على العلم أن يكون أسبقالناس إليه وأن يأخذ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها .ولما خرج-عليه الصلاةوالسلام- إلى ميقات ذو الحليفة وكان أبعد المواقيت عن مكة-شرفها الله- ، ولذلك قالبعض العلماء : عجبت من اختيار الله لنبيه-عليه الصلاة والسلام- فيمقات ذو الحليفةعند آخر حدود حرم المدينة فهو يخرج من حرم المدينة إلى حرمة العبادة حتى يأتي حرممكة وهذا فضل عظيم فهو من حرم إلى حرمة فيصبح في عبادة واستشعار لحرمة ينبغي أنيصونها وأن يحافظ عليها ، فأَهَلَّ-عليه الصلاة والسلام- من ميقات ذو الحليفة وذلكبعد أن اغتسل-صلوات الله وسلامه عليه- ، وثبت في الحديث عن زيد بن ثابت-رضي اللهعنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- تجرد لإحرامه ثم اغتسل ففي الميقات من السنة أنيتجرد المحرم من ثيابه المخيطة لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( انزع عنك جبتكواغسل عنك أثر الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )) ولقوله-عليه الصلاةوالسلام- : (( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ))فبين-عليه الصلاة والسلام- أن المحرم يتجرد من المخيط .ومن السنة أن يلقيالتفث عن نفسه وأن يتطيب بأحسن ما يجد قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- طيبترسول الله-صلى الله عليه وسلم- : لحله قبل حرمه ، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت ، وهذاالطيب يقع قبل الدخول في النسك ، فلو اغتسال ثم تطيب ثم أحرم فلا بأس ، ولو تطيب ثماغتسل ثم أحرم فلا بأس ، ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كان من سنته أنه صلىبذي الحليفة ثم أوجب ومن هديه أنه أوجب في مصلاه فأهل بالتوحيد : (( لبيك اللهملبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك )) فالسنة فيالتليبة أن تكون في نفس المصلى ، ثم ركب-عليه الصلاة والسلام- ناقته القصواء وأهل -أيضاً - بالتوحيد كما ثبت في الصحيح من حديث جابر-رضي الله عنه- ثم رقى البيداءفأهل بالتوحيد ، فهنا أخذ العلماء-رحمهم الله- مسائل :المسألة الأولى :مشروعية التليبة في الحج وهي سنة من سنن الحج التي نص بعض العلماء على وجوبها فمنحج أو اعتمر ولم يلبْ أثناء حجه وعمرته حتى أتم النسك فعليه دم ؛ لأنها واجبة لازمهولو مرة واحدة .المسألة الثانية : أن السنة أن تكون بعد الصلاة وقبل أن يتحولمن مكانه .المسألة الثالثة : أن السنة تجديد هذه التليبة ؛ لأن النبي-صلى اللهعليه وسلم- لبى حينما ركب دابته ، ولبى حينما علا على النشز - وهو البيداء - فأخذجمهور العلماء من هذا دليلاً على أن السنة في هذه التليبة أن تكون عند تغير الأحوال .
كذلك كان من هديه-عليه الصلاة والسلام- أنه أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهمبالتلبية قال أنس-رضي الله عنه وأرضاه- فما بلغنا فَجِّ الرَّوْحاء حتى بحت أصواتنا ، وفَجَّ الرَّوْحاء يبعد عن المدينة بما يقرب من سبعين كيلو متر وهذا مسيرة اليومالواحد فمن أول يوم بحت أصواتهم لكثرة ما لبوا استجابة لأمر النبي-صلى الله عليهوسلم- فقد قال لهم-عليه الصلاة والسلام- : (( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أنيرفعوا أصواتهم بالتليبة )) .المسألة الرابعة : السنة في هذه التليبة للمعتمرأن يقطعها عند استلام الحجر فإذا ابتدأ الطواف في العمرة قطع التليبة فلا يشرع لهأن يلبي وهو يطوف ، ولا يشرع له أن يلبي بعد الطواف ، ولا يشرع له أن يلبي أثناءسعيه فإنها تنقطع عند استلام الحجر لحديث عبدالله بن عمرو-رضي الله عنه وعن أبيه-في عمرة الجعرانة أنه كان مع النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : " فلم يزل يُلَبِّحتى استلم الحَجَر " .ثم إن النبي-صلى الله عليه وسلم- انطلق إلى مكة ومربفَجِّ الرَّوْحاء فلقى قوماً فقال : من أنتم ؟ قالوا : المسلمون . قالوا : منهذا؟! قالوا : رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، فرفعت له امرأة صبيها فقالت : - يارسول الله - ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ولك أجر)) .ففيه دليل :أولاً : علىحرص الصحابيات على العلم والسؤال .وثانياً : الحرص على السؤال عن المسائلالنازلة المحتاج إليها .ثالثاً : الحرص على الخير للذرية وهذا يدل على فضلالصحابيات حتى كانت الواحدة منهم لا تنتظر بلوغ صيبها بل تريد الخير له حتى قبلبلوغه .رابعاً : مشروعية الحج من الصبي وهو ينقسم إلى قسمين :القسم الأول : مميز .القسم الثاني : غير مميز .فالمميز من له سبع سنوات يفهم الخطابويحسن الجواب فهذا يُعَلِّمه والده ويُعَلِّمه قريبه الإحرام ويعلمه المناسكويطبقها بنفسه ما دام مستطيعاً إلا إذا كان فيه خطر ومشقة عليه وغلب على ظنه أنه لودخل في زحام الرمي أنه يهلك فيجوز أن يرمي عنه ، ولذلك بين أنس-رضي الله عنه- أنهمرموا عن الصبيان فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( نعم ولك أجر )) فيه دليل على صحةحج الصبي خلافاً للحنيفة الذين لا يقولون بذلك .سادساً : أن هذه الحجة أجرهاوثوابها لمن حجج الصبي سواءً كان من الوالدين ، أو كان من إخوانه .فيه دليلهذه الحجة إذا وقعت من الصبي فهي حجة نافلة لا تجزيء عن الفريضة فإذا بلغ وجب عليهأن يعيد الحج .ثم انطلق-عليه الصلاة والسلام- حتى إذا أتى سرف وهو وادي قبلمكة والذي يسمى اليوم بـ ( النوارية ) حاضت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنهاوأرضاها- ، وكانت عائشة-رضي الله عنها- قد أحرمت بالعمرة متمتعه فكان إحرامهابالتمتع فلما حاضت انسلت من الفراش وبكت-رضي الله عنها- فقال لها النبي-صلى اللهعليه وسلم- : (( مالكِ أنفستي - أي هل حضتي - ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدماصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوافي بالبيت )) ففيه مسائل :المسألة الأولى :صحة إحرام الحائض والنفساء وطريان الحيض والنفاس على الحاجه والمعتمرة لا يوجب فسادحجها وعمرتها ، ولذلك ثبت في الصحيح أن أسماء بنت عميس-رضي الله عنها- زوج أبي بكرالصديق-رضي الله عنه- نفست بمحمد بن أبي بكر الصديق بـ ( البيداء ) فلما ولدتهأرسلت إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- تستفتيه هل تحرم بالحج أو لا تحرم ؟فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( مرها فلتغتسل ثم لتهل )) فأخذ العلماء منه دليلاًعلى صحة إحرام الحائض والنفساء وأنها تغتسل عند نية الدخول في النسك أي إحرامها .وإذا كانت المرأة محرمه في حجها فلا تخلوا :إما أن تكون محرمة بالحجافراداً ، أو محرمه بالعمرة متمتعة بها ، أو تكون قارنه .إذا كانت مفردة للحج ، أو قارنة فليس هناك إشكال ، وأما الإشكال إذا كانت متمتعه بالعمرة ؛ لأن المتمتعهبالعمرة لابد أن تأتي بالعمرة قبل الحج فحينئذٍ لو جاءها الحيض قبل الحج لا ندري هلتتمكن من أداء عمرتها أو لا ؟ فلما قال-عليه الصلاة والسلام- لعائشة-رضي الله عنها- : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) دل على أن المرأة إذا حاضت لاتؤدي عمرتها حتى تطهر من حيضها لأنه قال : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفيبالبيت )) والطواف بالبيت ركن العمرة فإذا كان لا تطوف بالبيت فمعنى ذلك أنها تنتظرحتى تطهر ، فلو قلنا لها انتظري فإنه قد يفوتها الحج وحينئذٍ يُفَصَّل في المرأةإذا حاضت وهي متمتعه فنقول :إن كان أيام حيضها تنتهي قبل يوم عرفة أو تدركالوقوف بعرفة حتى ولو قبل فجر العيد بما تؤدي به العمرة فحينئذٍ تنتظر حتى تطهرتبقى على عمرتها ثم تطوف وتسعى وتتحلل ثم تدرك حجها ؛ لأن الله يقول : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ .وأما إذا كان حيضها يستمر معهاجاءت في اليوم الخامس وحيضها ثمانية أيام فقطعاً لن تطهر إلا بعد مضي يوم عرفةفحينئذٍ تنقلب إلى قارنة وتصبح قارنة لحجها مع العمرة وفي هذه الحالة القارنوالمفرد لا إشكال فيه ؛ لأن المرأة إذا جاءها الحيض وهي حاجه لا تطوف طواف القدوموتذهب إلى عرفة وتؤدي المناسك حتى تطهر فتنـزل وتطوف بالبيت ثم تسعى سعي الحجوالعمرة ؛ لأن القران تدخل فيه العمرة تحت الحج فحاضت-رضي الله عنها- فقال لهاالنبي-صلى الله عليه وسلم- هذا القول ، فانطلقت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- صلتبمنى مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في اليوم الثامن ثم انطلقت إلى عرفات حتىطهرت فنـزلت وطافت طواف الافاضة وسعت عن حجها فأدت ما يؤدي المفرد ، ثم لما انتهىالحج قالت : - يا رسول الله - أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟! كانت تظن أنهامفرده فدل على أن الحائض المفرد لا إشكال فيها فقالت : أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجعبحج ؟! قال : (( طوافك بالبيت )) أي بعد أن طهرت ، (( وسعيك بين الصفا والمروة ))لأنها طافت طوافاً واحداً وسعت سعياً واحداً وهذا يدل على أن القارن ليس عليه سعيانوإنما عليه سعي واحد وهو مذهب الجمهور (( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروةكافيك لحجك وعمرتك )) فدل على أن الحائض تنتظر حتى تطهر وأنها تنقلب قارنة إذا عجزتعن اداء العمرة قبل يوم عرفة .ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- دخل إلىمكة وكان أول ما ابتدأ به طوافه بالبيت وهذه هي سنته-عليه الصلاة والسلام- فكان إذاحج أو اعتمر لم يبدأ بشيء قبل أن يطوف بالبيت فيُحي مكة ويحُي البيت بالطواف به ،ولذلك نص العلماء على أن السنة فيمن قدم للحج والعمرة أن يبدأ أول ما يبدأ بالطواففطاف-عليه الصلاة والسلام- السبعة الأشواط وكان من هديه-عليه الصلاة والسلام- فيطوافه أن ابتدأ فاستلم الحَجَر ثم اضطبع-عليه الصلاة والسلام- ورمل الأشوط الثلاثةالأول كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وحديث جابر في صفة حجة الوداع ، ومشىالأربعة الباقية وهنا مسائل :المسألة الأولى : الطواف بالبيت من أركان الحجفالطواف يكون ركناً ويكون واجباً ويكون سنة ، فالطواف الركن مثل طواف العمرة ،وطواف الإفاضة في الحج هذان الطوافان أركان ويبقى في ذمة الإنسان ولو إلى آخر عمره ، فلو أحرم بالعمرة ولم يطف لزمه أن يأتي إلى البيت ويطوف ولو بقي عشر سنوات ما لميكن محصراً فحكمه معروف يتحلل تحلل المحصر ، لكن لو أنه قال : ما أريد أن أتمالعمرة يلزمه أن يتم هذا الركن وأن يأتي به ؛ لأن الله يقول : وَأَتِمُّواالْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فالطواف يكون ركناً إذا كان في العمرة أو كان فيالحج طواف افاضة وطواف الإفاضة وهو الذي يكون في النحر وعناه الله-عز وجل- بقوله :ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوابِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع بالنسبة للحاج ولا يجبعلى المعتمر في أصح قولي العلماء لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمر به في الحج ولميأمر به في العمرة ولأن الحج يطول عهده في داخل النسك بخلاف المعتمر فإنه لا فراقله في البيت في نسكه لأنه ليس له بعد السعي أعمال إلا أن يتحلل ؛ ولأن قياس الحجعلى العمرة قياس مع الفارق في هذه المسألة لأنهم استندوا فيه إلى قوله : (( واصنعفي عمرتك ما أنت صانع في حجك )) وهذا الحديث يراد به التروكات ولا يراد به الأفعالوهذه المسألة فصلنا فيها غير مرة وبينا فيها الأدلة ؛ ولأن من قال بوجوب طوافالوداع على المعتمر لم يستطيع أن يحدد متى يجب عليه فمنهم من يقول : إذا صلى صلاةًواحدة ، ومنهم من يقول : إذا صلى ثلاثة فروض ، ومنهم من يقول : إذا صلى يوماًكاملاً وهذا الاضطراب يدل على أنه ليس هناك أصل شرعي يبنى عليه بالنسبة لإيجابه علىالمعتمر ، وقد بينت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- الحكمة في طواف الوداع فقالت : كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً .فطواف الوداع واجب من واجبات الحج على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور ؛ لأنالنبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً )) وهذا أمر .المسألة الثانية : إذا عرفنا أنواع الطوفات ويكون الطواف سنة كطواف القدوم علىأصح قولي العلماء-رحمهم الله- ما لم يكن في عمرة التمتع أنه أصلاً في العمرة ركن ،إذا عرفنا أنواع الطواف .فإن السؤال عن الأمور اللازمة في الطواف :أولاً : يشترط لصحته الطهارة فلا يصح الطواف بدون طهارة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال : (( الطواف بالبيت صلاة )) ولأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال للمرأة الحائض : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فدل على أن انتقاض الطهارة يمنعمن الطواف .ثانياً : يشترط في صحة الطواف الاستقبال أن يجعل البيت عن يسارهوهي قبلة الطائف ولذلك قال : (( الطواف بالبيت صلاة )) فتشترط الطهارة لصحته ويشترطالاستقبال فلا يصح أن يطوف والبيت عن يمينه فلو عكس الطواف وجعل البيت عن يمنيه لميصح طوافه ، ولو طاف وجعل البيت وراء ظهره مثل ما يحدث لما يأتي ويحاول في أثناءطوافه أن يمسك كبيراً في السن أو نحو ذلك بعضهم يطوف ويجعل البيت وراء ظهره ولايصحالطواف إلا إذا جعل البيت عن يساره عبادة توقيفية جاءت عن النبي-صلى الله عليهوسلم- بهذه الصفة لا تصح بدونها ، ولذلك الاستقبال فيها شرط ونص عليه جمهورالعلماء-رحمهم الله- .ثالثاً : لا يصح الطواف إلا داخل المسجد الحرامقال-تعالى- : وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ فلو طاف من خارج المسجد الحراملميصح ، ويصح أن يطوف في الدور الثاني ويصح أن يطوف في الدور الثالث في السطح ؛لأن الأصل أن سطح المسجد آخذ حكم أسفله ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فجعل أسفل الأرض آخذاًحكم أعلاها ، وأعلاها آخذاً حكم أسفلها ، ولذلك إذا صلى المصلي على جبل فإنه يستقبلسمت البيت ولا يستقبل البيت وهذا في الصلاة والطواف صلاة فيصح أن يطوف في هذهالمواضع ؛ لكن من جهة الصفا أن قيل إن ما بين الصفا والمروة خارج عن البيت يكونسمتاً خارجاً فيحرص على أن يكون طوافه داخل حدود المسجد .رابعاً : يشترط أنتكون الأشواط سبعة من الحَجَر إلى الحَجَر يبتدؤها من الحَجَر ، فلو انتقص منها ولوقدماً واحداً لم يتم طوافه لابد وأن يطوف سبعة أشواط بكامل جسمه وجرمه من الحَجَرإلى الحجر .خامساً : أن تكون هناك موالاه فيقع الشوط الثاني بعد الأول دونفاصل مؤثر ، والثالث بعد الثاني ، والرابع بعد الثالث وهكذا .سادساً : يشترطأن يكون ساتراً لعورته فلا يصح طواف العريان ولا من مكشوف العورة ؛ لأن النبي-صلىالله عليه وسلم- قال حينما أمر أبا بكر-رضي الله عنه- أن ينادي مناديه في الحج التيسبقت حجة الوداع : (( ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان )) . هذهالأمور لابد من توفرها لصحة الطواف .يسن الإضطباع وهو : أن يكشف عن منكبهالأيمن ثم يأخذ بطرفي الرداء ويرمي بهما على كتفه الأيسر تأسياً برسول الله-صلىالله عليه وسلم- ، إن تيسر له الرمل رمل ، وإن كان الزحام فمن أهل العلم من قال :يسقط عنه الهروالة ويبقى الهز للمنكب على القول بأن الرمل هز للمناكب ، بالنسبةللطواف يشرع فيه الذكر لله-عز وجل- مطلق الذكر ؛ لكن ورد الدعاء المأثور : (( ربناآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) بين الركنين وفي حديثالحاكم أن النبي-صلى الله عليه وسلم- استفتح طوافه بالتكبير حينما استلم الحَجَر ثمقال : (( اللهم ايماناً بك ووفاءً بعهدك وتصديقاً لكتابك )) هذا الحديث اختلف فيصحته بعض العلماء يقول : إنه لا بأس بذكره في بداية الطواف لكن الصحيح الثابت ماذكرناه أولاً .أجمع العلماء على أنه لو طاف بالبيت يذكر الله-عز وجل- ويهللهويعظمه أنه يجزيه ، ولذلك طاف ابن عمر-رضي الله عنه- وهو يقول : لا إله إلا أنتسبحانك إني كنت من الظالمين ، لا يزيد عليها-رضي الله عنه وأرضاه- ، ولو طاف يقرأالقرآن أجزأه لأنه من ذكر الله-عز وجل- ، ولذلك قال-صلى الله عليه وسلم- : ((الطواف بالبيت صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام فلا يتكلم فيه إلا بخير )) ثم إن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- حرص على تقبيل الحَجَر وهذه سنة إن تيسرت فالحمد الله ،وإن لم تتيسر فإنه لا يشرع له أن يؤذي غيره ، أما لو أنه انتظر وصبر حتى يقبل فلهفي ذلك أصل ولا ينكر عليه إذا تحمل المشقة وكان ابن عمر-رضي الله عنه- كما ثبت عنهوصح ربما أخذ في الشوط الواحد قدر خمسمائة آية من طول انتظاره-رضي الله عنه- لفراغالحَجَر تأسياً وحرصاً على سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- ، ولا يقال إنه أخطأ إنماأخطأ إذا آذى غيره فينبغي أن يفرق بين الأذيه وبين الحرص على السنة فإذا هو يريد أنيحرص على سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- وتطبيقها وهذا في كل الأعمال لا ينبغي أنيزهد الناس ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول : (( عليهن جهاد لا قتال فيه الحجوالعمرة )) فالحج جهاد فشخص يحرص على السنة لا ينكر عليه ؛ لكن إذا آذى غيره هوالذي ينكر لا مانع أن الشخص ينتظر حتى يفرغ من الزحام ويتحمل المشاق في اتباع سنةالنبي-صلى الله عليه وسلم- فللسنة حلاوة ولذة يعرفها من يعرفها !! ولا شك أن مرضاةالله لا تنال بالتشهي والتمني ؛ ولكنها تنال بفضل الله ثم بالعمل والتطبيق والحرصعليها فإذا تيسر له ذلك فالحمد لله وإن كان فيه ضرر أو غلب على ظنه أن يؤذي فلا .أما النساء فمزاحمتهن عند الحَجَر منكر وهن فاتنات لأنفسهن فاتنات لغيرهن فلايشرع للمرأة أن تأتي مع وجود الرجال حتى ولو كان للنساء نصيب بل عليها أن تعصمنفسها عن الفتنة وكانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- إذا أرادت أن تطوف فينسكها أمرت أن تطفأ المصابيح فتطوف بالليل وتطوف من وراء الرجال حتى إنها ربما دخلتفي أروقة المسجد بعيدة عن البيت حتىلا تفتن نفسها ولا تفتن غيرها فحري بالمؤمنة أنتعلم أن السنة للمرأة أن تحرص عن البعد عن الفتن ولو كانت هي واثقة من نفسها فإنهالا تثق في غيرها .ثم إنه من هديه-عليه الصلاة والسلام- بعد أن فرغ من طوافهبالبيت صلى ركعتي الطواف وهي سنة لكل طواف فكل طواف يشرع أن يصلى بعده ، فصلى-عليهالصلاة والسلام- ركعتي الطواف وأتى إلى المقام وجعله بينه وبين الكعبة ثم تلا الآية : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ثم كبر فصلى-عليه الصلاةوالسلام- وقرأ فيهما بسورتي الإخلاص-صلوات الله وسلامه عليه- .ثم قام وأتىزمزم فشرب منها ثم رجع وقبل الحجر ثم انطلق-عليه الصلاة والسلام- إلى الصفا فتلاالآيات قبل أن يرقى جبل الصفا إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِاللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْيَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ثمقال : (( أبدا بما بدأ الله به )) فالسنة في هذه الآية أن تقرأ قبل البدأة بالطوافولا يشرع تكرارها عند كل مرة يريد أن يصعد إلى الصفا لأنها قُرِأتْ لسبب وهو سببالتعليم والتوجيه ، حتى إن بعض العلماء يقول : قصد منها النبي-صلى الله عليه وسلم-تعليم الأمة ، ولذلك قال بعدها : (( أبدا بما بدأ الله به )) وفي لفظ النسائي فيالسنن : (( أبدؤا )) .أما بالنسبة للسعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركانالحج وركن من أركان العمرة ، ولذلك بينت أم المؤمنين عائشة أن الله لا يتم حج من حجوعمرة من اعتمر إذا لم يسع بين الصفا والمروة ، الأصل في هذا والسنة عن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- في سعيه أنه رقى الصفا حتى رأى البيت فاستقبله فكبرالله-عز وجل- ثلاث تكبيرات ثم قال : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملكوله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأنجز وعده وهزمالأحزاب وحده )) ثم دعا-عليه الصلاة والسلام- ثم رجع مرة ثانية وكبر ثلاث مرات ثمهلل المرتين ثم دعا ، ثم رجع مرة ثالثة فكبر ثلاثاً وهلل مرتين ودعا ، فأصبحت السنةأن يكبر تسع تكبيرات ، وأن يهلل ست تهليلات ، وأن يدعو ثلاث مرات ، والسنة أن يرقىحتى يرى الكعبة ، وبالنسبة للنساء فالسنة ألاَّ يرقين الجبل كما لا يرقى النساءالجبل وهذا نص عليه جمهرة العلماء ؛ لأن الواجب أن يَطَّوّفَ الإنسان بين الصفاوالمروة فلو جاءت لأقل مكان ترقى به طرف الصفا أجزأها ، وهكذا بالنسبة للمروة لايشرع لها أن تصعد وتزحام الرجال وتقع في الفتنة والغالب فيهن الضعف وقد تسقطالواحدة ونحو ذلك فهذا الأصل ، وعلى ذلك كان عمل النساء المؤمنات أنهن قال : (( ليسعلى النساء الرمل وليس عليهن الرقي إلى الصفا والمروة )) ثم إن النبي-صلى الله عليهوسلم- بعد أن فرغ من دعائه نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي خبَّ-عليه الصلاةوالسلام- وسعى واشتد سعيه كما في حديث بنت أبي تجرات-رضي الله عنها وأرضاها- أنهاكانت في دار بني شيبة ورأته-عليه الصلاة والسلام- يسعى والرداء يدور على ركبته منشدة سعيه وقال وهو يسعى : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا )) وهذاأمر (( كتب )) للفريضه ، ومنه أخذ العلماء ركنية السعي في الحج والعمرة . وهذاالرمل سنة في حق الرجال دون النساء والأصل فيه أن هاجر لما جعل الله-عز وجل- تفريجكربها سعت بين الصفا والمروة في القصة المشهورة سبع مرات ، وكان بعض العلماء يقول :كأن الله-عز وجل- يُذَكِّر كل مكروب ومنكوب وذي حاجة وملهوف أن الله يجيب دعاءالمضطر ؛ لأن هذه الأماكن يقصد منها التذكير بالتوحيد وتعليم الناس أن الدعاء للهوأن الحوائج تُسئل من الله وأن الله وحده هو الذي يقضي الحاجات ويفرج الكربات-جلجلاله- ، ولذلك تجدها مواطن مشتملة على الدعاء وتجد فيها مواطن لا ترد فيها الدعوة ، الدعوة فيها مستجابة كل هذا من أجل التوحيد وما جُعِلَ الحج والعمرة إلا لتوحيدالله-عز وجل- فسعى-عليه الصلاة والسلام- وخبَّ ثم إنه رقى المروة وصنع عليها مثل ماصنع على الصفا واحتسب سبعة أشواط ذهابه شوط وإيابه شوط-صلوات الله وسلامه عليه-فابتدأ بالصفا وانتهى بالمروة ، والسعي قلنا إنه ركن من أركان الحج والعمرة .ثانياً : لا تشترط له الطهارة فيجوز أن يسعى بدون طهارة ؛ لأن النبي-صلى اللهعليه وسلم- قال لأم المؤمنين عائشة : (( اصنعي مايصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فدل على أن السعي لا تشترط له الطهارة ، فلو أنه جاء في العمرة وتوضأ ثم طافوصلى ركعتي الإحرام ثم أحدث منه خرج مثلاً الريح يجوز له أن يسعى أو امرأة جاءتفطافت وصلت الركعتين وانتهت منها ثم جاءها الحيض فإنها تكمل عمرتها لأن السعي لاتشترط له الطهارة .ثالثاً : السعي سبعة أشواط ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-سعى سبعة أشواط الذهاب شوط والإياب شوط .رابعاً : أن هذا السعي يشترط له السترمن العورة فلا يسعى منكشف العورة ؛ لأنه عبادة ويكون بالصفة الواردة في الترتيببدأته بالصفا ونهايته بالمروة فلو ابتدأ بالمروة ثم مضى إلى الصفا ألغي شوط المروةواحتسب بشوط الصفا ولا يصح أن يبتدأ بسعيه من المروة فيلغى ذلك الشوط ، ويجوز فيالطواف والسعي أن يؤدي هذا الركن على قدميه ويؤديه راكباً إذا وجدت الحاجة ؛ لأنالنبي-صلى الله عليه وسلم- طاف على بعيره وإذا كان عاجزاً لا يستطيع أن يسعى يجوزأن يسعى بالعربية ونحوها ولو كان معه صبي ويريد أن يؤدي العمرة فإنه يحمله من أجلأن يسعى إذا كان لا يستطيع السعي ، وإذا حمله فإن الطواف والسعي للمحمول لا للحاملفلا يجزيء عن اثنين لابد وأن يكون عن واحد فيسعى أولاً عن نفسه ثم يسعى عن غيره كماهو مذهب جمهور العلماء لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( حج عن نفسك ثم حج عنشبرمة )) وهذا عام شامل للعبادة كلها ولأجزائها .فإذا فرغ الحاج من الطوافوالسعي إن كان متمتعاً بالعمرة تحلل من عمرته ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمرمن لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة فيتحلل يقصر يأخذ من شعره ثم بعد ذلكيبقى إلى اليوم الثامن يوم التروية فيحرم بالحج تأسياً بالنبي-صلى الله عليه وسلم-حين كان معه الصحابة فإنهم أحرموا من مكة ، والسنة أن يقع إحرامه من مكة لا من مني؛ لأن أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- أحرموا من مكة وهذه هي السنة أن يقع الإحراممن مكة قبل خروجهم إلى منى ؛ لأنهم غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى منىوهم محرمون ، ولا يجب عليه أن يخرج إلى حدود الحرم فهو يحرم من موضعه بمكة ولايشترط أن يأتي إلى المسجد نفسه ، ثم إن كان قارناً أو مفرداً فإن هذا السعي يقع عنحجه وحينئذٍ لا يجب عليه السعي يوم النحر ، ولذلك سعى النبي-صلى الله عليه وسلم-سعياً واحداً وجعله لحجه وعمرته والقارن كالمفرد فيكون سعيه هذا الذي ابتدأه قبليوم عرفة سعي الحج وحينئذٍ يجزئه عن سعي الحج والعمرة إن كان قارناً وعن سعي حجه إنكان مفرداً .ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- خرج إلى منى في اليوم الثامنيوم التروية وسمي يوم التروية من الرَّيء لأنهم كانوا يحملون الماء فيه إلى عرفاتمن أجل سقي الحجاج فخرج-عليه الصلاة والسلام- فصلى بمنى الظهر والعصر والمغربوالعشاء والفجر فبات بمنىٍ ، ومن هنا يسن للحاج أن يغدوا إلى منىٍ فيصلي فيها الظهرتأسياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، والذهاب لمنى يوم التروية سنة وليس بواجبإن تيسر فالحمد الله ، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه .والدليل على ذلك : أنالنبي-صلى الله عليه وسلم- قال في حديث عروة بن مضرس-رضي الله عنه- لما قال : أقبلتمن جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه فقال-عليه الصلاةوالسلام- : (( من صلى صلاتنا هذه )) يعني يوم النحر في الفجر بمزدلفة (( ووقفموقفنا هذا - بالمشعر - وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه ))فدل على أنه ليس بواجب ولا لازم ولا بركن في الحج يوم التروية .ثم إنالصحابة-رضوان الله عليهم- غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى عرفاتفخرج-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات من طريق ضب وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبةوخرج بعد صلاة للفجر بمنىٍ وكان من هديهم -رضي الله عنهم- مع رسول الله-صلى اللهعليه وسلم- أنهم خرجوا ذاكرين لله قال أنس-رضي الله عنه- : غدونا مع رسول الله-صلىالله عليه وسلم- إلى عرفات فمنا الملبي ومنا المهلل ومنا المكبر فلم يعب أحدٌ مناعلى الآخر ، فلما أتى-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات نزل بنمرة ، ونمرة هو :المنْبَسط الفسيح الذي بين حدود الحرم ووادي عرنة وهو يقرب من خمسائه متر نزلفيه-عليه الصلاة والسلام- فلم يدخل إلى عرفات قبل زوال الشمس ولا قبل صلاة الظهر ؛وإنما نزل قبلها فضربت له القبه-صلوات الله وسلامه عليه- في هذا الموضع فنـزل فيه ،ثم إنه-عليه الصلاة والسلام- لما زالت الشمس حرك ناقته القصواء-صلوات الله وسلامهعليه- وأتى وادي عرنة وخطب الناس خطبته المشهورة التي تعرف بخطبة حجة الوداع وقدجمع فيها-صلوات الله وسلامه عليه- مقاصد الإسلام وكانت من أعظم المشاهد وأجلها لأنالله أقر فيها عين رسوله-صلى الله عليه وسلم- فقد اجتمع في هذا اليوم قال بعضالعلماء : إنهم كانوا - أي الصحابة - قرابة مائة وعشرين ألف صحابي على القول بأنهمبلغوا هذا المبلغ ، وكان يوماً عظيماً لأن الناس كان كثير منهم حديث العهد بالإسلاموحديث العهد بشرائع الإسلام وهو بالأمس يُكَذَّب في مكة ويُؤْذَى أصحابه -صلواتالله وسلامه عليه- ، وإذ برب العزة والجلال الذي لا يُضَيِّع الحق وأهله والذي يعزجنده وينجز وعده ويصدق عبده إذا به يقر عينه بذلك المشهد العظيم فتصغي له الناسصغاراً وكباراً شباباً وشيباً وأطفالاً كلهم ينظرون إلى رسول الله-صلى الله عليهوسلم- وفتح الله له قلوبهم وفتح الله له أسماعهم وكانت خطبة جامعة نافعة أحل فيهاالحلال وحرم فيها الحرام ، وقف فيها-عليه الصلاة والسلام- شاهداً ومبشراً ونذيراًوداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وبين فيها المقاصد العظيمة ونبه المسلمينعلى أمور من الركائز التي ينبغي العناية بها وينبغي على كل داعية وكل معلم أن يعتنيبها فأحياء ما اندرس من معالم الحنيفية وطمس معالم الشرك والوثنية والجاهلية ،وأذهب النعرات والعصيبة ، وبين الحلال والحرام فأحل حلال الله وحرم حرام الله ،وكان مما ذَكرَ الناس به مسألة الأُخوة واستشعار المسلم بحق أخيه المسلم ، وكان هذامن أجمع ما اعتنى به-عليه الصلاة والسلام- في ذلك اليوم لأنه سألهم أي يوم هذا ،وسألهم عن الزمان وسألهم عن المكان فلما أقروا بحرمته له-عليه الصلاة والسلام- قال : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، فيبلدكم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد )) وكان يرفع أصبعه-عليه الصلاة والسلام- ثمينكتها على الصحابة (( اللهم فأشهد )) أي اللهم فاشهد أني بلغت الرسالة وأديتالأمانة وأني ذَكَّرْت كل مسلم بحق أخيه المسلم ، وذكرت كل مسلم أن لا يستهين بعرضأخيه المسلم ، وألا يستهين بدمه وألا يستهين بماله ، ومن نظر إلى مظالم المسلمين معبعضهم يجدها لا تخرج عن هذه الثلاثة ، إما اعتداء على دمه ، أو اعتداء على ماله ،أو اعتداء على عرضه ، ومن سلم من حقوق الناس في هذه الثلاثة فقد سلم من شر عظيموبلاء وخيم ولقي الله خفيف الحمل من مظالم خلقه فَذكّر -صلوات الله وسلامه عليه-بحق المسلم على أخيه المسلم وأين الناس من استشعار هذا ؟! يقف في هذا الموقف الذيكان الموقف الوحيد الفريد في عمره-عليه الصلاة والسلام- الذي ما اجتمعت له الأمةويركز على الإخوة ، ويركز على المعاني الإسلامية الهادفة التي هي سر عظمة هذه الأمةوقوتها وهيبتها وعزتها فكل من يشتت المسلمين فشتت الله شمله وفرق جمعه ؛ لأنه يناقضهذا الأصل وهذا المنهج ، ولذلك كل داعية وكل عالم يحرص على غرس المحبة بين المسلمينوتأليف قلوبهم وجمعها على كتاب الله وسنة النبي-صلى الله عليه وسلم- فإنه يأتسيبرسول الأمة ويحرص على ما حرص عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم (( أيهاالناس )) خاطبهم كلهم وأعذر إلى الله وكان يقول : (( إلا هل بلغت )) أي إني بلغتكمحتى إنه-عليه الصلاة والسلام- كان يرفع أصبعه إلى السماء ويقول : (( اللهم )) يناديربه (( اللهم فاشهد )) أي يا الله أشهد عليهم أني بلغتهم أن دمائهم وأموالهموأعراضهم عليهم حرام ثم قال-عليه الصلاة والسلام- : (( ألا فليبلغ الشاهد الغائب ))وبين-عليه الصلاة والسلام- عظيم الحرمات وكان مما بين حرمته حرمة الربا وقال : ((إن الربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبدالمطلب )) فرسم المنهجللداعية والمعلم والموجه أن يبدأ بنفسه قبل أن يبدأ بالناس وأن يبدأ بقرابته بشرطأن يكون القرابة مستجيبين له فلا عتب على الداعية إذا نصح القريب ولم ينتصح وأمرهفلم يأتمر ونهاه فلم ينـزجر .ثم إن رسول الأمة-صلى الله عليه وسلم- أمر بلالاًفأذن ثم أمره فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم صلى بعدها العصر جمع تقديم .هنا وقفة : وهي أن المقصود من هذا اليوم التفرغ للدعاء وهو يوم عرفة .ثانياً : أن فضلهذا اليوم وأفضل ما فيه آخره لأن الموقف يبدأ من بعد الصلاة لأن النبي-صلى اللهعليه وسلم- ما دخل عرفة إلا بعد صلاة الظهر والعصر ، ولذلك يحرص المسلم على أنهيهيء نفسه قبل الصلاة بحيث لا يأتي بعد الصلاة إلا وهو متفرغ تماماً للذكر والدعاء ، وخليق بكل مسلم يأتسي برسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن ينظر في هديه حرك دابتهالقصواء-صلوات الله وسلامه عليه- ودخل إلى عرفات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاةبين يديه ثم رفع يديه وما زال يتضرع ويدعو حتى غابت عليه الشمس-صلوات الله وسلامهعليه- صلى وفريضة تقدم على وقتها من أجل أن يتفرغ للدعاء ؛ لأن شرف هذا اليوم فيالدعاء (( خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة )) الإنسان لما يأتي إلى هذا اليوميستشعر أولاً ما هي منـزلة هذا اليوم ، وماهي مكانته وما الذي ورد من النصوص فيفضله وشرفه ، ولو لما يكن فيها إلا قول النبي-صلى الله عليه وسلم- : (( خير يومطلعت عليه الشمس )) فما طلعت الشمس على يوم خيرٍ عند الله من ذلك اليوم (( وما منيومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من يوم عرفة )) فلربما دخل فيه المسيؤنوالظالمون وخرجوا منه كيوم ولدتهم أمهاتهم ؟! ولربما دخل العبد وهو خاشع القلبمتخشع لربه متذلل متبذل يرجو رحمة الله ويخشى عذاب الله مؤمناً صادقاً دعا ربه منكل قلبه فأوجب الله له الجنة وحرمه على النار (( ما من يوم أكثر من أن يعتق اللهفيه الرقاب من النار من يوم عرفة )) فهو يوم العتق من النار وكأن الإنسان يأتي إلىيوم عرفة كأن لسان حاله يقول : اللهم لا تحُلْ بيني وبين رحمتك بذنبي ، فيأتي وهومنكسر القلب وثق ثقةً تامة أن أسعد لحظة في كل وقت وفي كل حين هي اللحظة التي تخلوفيها بربك ، وأن الله أعز من أن تضيع هذه الساعات مع زيد وعمرو ، وأعز من أن تشتغلبالرفع والوضع ضعوا هذا وارفعوا وافعلوا كذا وأعز من أن تشتغل بأشياء تلهيك عنتجارة لن تبور فيها وعن سعادة ساعات اختارها الله من العام كله ولربما تكون هيساعات العمر كلها بحيث أن الشخص ما يحج إلا مرة واحدة فما بال الإنسان يضيعه مع زيدوعمرو ؟! تأتي وأنت تحس أن كل ثانية فضلاً عن دقيقة فضل عن ساعة ينبغي أن تستنفذ فيذكر الله وشكره ، وأفضل ما يقال في ذلك اليوم أفضل ما يلهج به لسانك أن تكثر من قول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير ، كان بعضالعلماء يوصي ويقول : عجبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( خير يوم طلعتعليه الشمس يوم عرفة )) ثم قال بعده : (( وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إلهإلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )) وأعرف من بعضمشايخنا-رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَمَع وصلى تضرع ولايزيد عن هذه الكلمة !! مايزيد عن قوله لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، من عظمها وفضلها فهي أثقل كلمة ولا يثقل مع اسم الله شيء ولقي الله عبد له تسعوتسعون سجل كل سجل منها مد البصر من الذنوب والخطايا وجاء ببطاقة فيها لا إله إلاالله فطاشت بتلك السجلات كلها ولا يثقل مع اسم الله شيء ، فيحرص الإنسان على أنهبعد الصلاة لا يشتغل بشيء إلا ذكر الله-عز وجل- يرتب أموره ويرتب أحواله ويوصي منحوله ألاَّ يشغله عن ذكر الله والأفضل أن يأخذ بالسنن في الدعاء من أن يكون على أتمالأحوال وأكملها متطهراً مستقبل القبلة حاضر القلب خاشعاً يبكي على ذنبه .كيفالدعاء ؟أولاً : الدعاء بحضور قلب واستشعار لعظمة الله-جل جلاله- وما يدريكفلعلك أن تدعو بدعوة تصيب بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً ! وما يدريك في هذا اليوملعلك أن تقول كلمة تكون سبباً في نجاتك من الفتن ما ظهر منها وما بطن فهذا يومالسؤال ويوم الحاجة والتضرع .كيف تدعوا ؟أولاً : تختار الأحاديث الواردةعن النبي-صلى الله عليه وسلم- في جوامع دعائه مثل قوله : (( ربنا أتنا في الدنياحسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) يستكثر منها الإنسان .ثانياً :قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح ليدنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي فيكل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر )) إذا دعوت تبدأ بنفسك ، ثم بقرابتك وأهلكوذويك ومن لهم حق عليك من القرابه وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، ثم بعد ذلكبعلماء المسلمين ومن له حق عليك ، ثم بعد ذلك تدعو للمسلمين عموماً .كيف تدعولنفسك تبدأ أول شيء بالدعاء في دنياك تسأل الله أن يعفو عما سلف ، وأن يحسن لكالخاتمة فيما بقي من عمرك وأجلك تركز على هذين الجانبين بكل اختصار كيف تدعوا تسألالله أن يعفوا عما مضى وأن يحسن لك العاقبة فيما بقي .ثانياً : تسأله أن يخرجكمن هذه الدنيا وهو راضٍ عنك تسأله حسن الخاتمة والثبات على الحق إلى الممات وألايزيغ قلبك بعد إذ هدك ، فإذا رزقت صلاح الدنيا ، بعد ذلك تسأله حسن الخاتمة فيها ثمتسأله أن يعيذك من عذاب القبر المرحلة الثانية بعد الدنيا القبر وأن يعيذك مما فيه[b]من فتنه وأهواله