آداب زيارة المريض
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
تحدثنا في الحلقات السابقة عن أن المرض منحة في ظاهرها المحنة، وعما يجوز التداوي به وما لا يجوز، وتحدثنا عن الدواء المشروع
الاستشفاء بالمعنويات القرآن والدعاء :
لاستشفاء بالماديات الحجامة التلبينة وأما عن العسل شفاء وغذاء، فقد سبق في الحديث عنه الأستاذ الدكتور أحمد شاهين حفظه الله ونفع به في العدد السابع من السنة الثالثة والعشرين، وكذلك ألبان الإبل وأبوالها سبق الحديث عنها في مقال شيخنا المبارك زكريا حسيني حفظه الله ورعاه ونفع به في العدد من السنة الخامسة والثلاثين، وفي هذه الحلقة نشير إلى آداب عيادة المريض
أولاً حكم عيادة المريض:
الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وهكذا نجد المريض ينظر إلى الأصحاء نظرة فاقد النعمة إلى المتمتع بها، وينظر إلى معارفه ومحبيه نظرة أمل في مساعدته أو مواساته، أو تخفيف آلامه، ولو بكلمة عن صحته تشعره بنوع من المشاركة في ابتلائه .
ومن هنا شرع الإسلام عيادة المريض، وجعلها حقًّا على المسلم للمسلم، إن المريض كثيرًا ما يشعر أنه لم يعد له حول ولا قوة، وأنه لم يعد يخافه من كان يخافه، ولم يعد يأمل نفعه من كان يحرص على الانتفاع منه، وقد يكون ذلك حقيقة، وتكون زيارته وعيادته استجابة لأوامر الله ورسوله لا رغبة في خير دنيوي، ولا رهبة من أذى بشري، ولكنها الرغبة في ثواب الله، والعمل على طاعة أوامر الله، فيكون أجره عظيمًا، تُحسب له خطواته من حين يخرج من بيته إلى أن يصل حسناتٍ، وتحيطه في ذهابه وإيابه ملائكة الرحمة، تستغفر له، وتدعو له، أما لحظات جلوسه مع المريض؛ فستكون في كنف الله ومرضاته، فتدخر له الدقائق والثواني ثمارًا من ثمار الجنة، يجنيها يوم القيامة
إن المريض في حاجة إلى المواساة والنصيحة، والدعوة الصالحة، والوعظ والتذكير، وليعلم الزائر أنه يومًا سيرقد رقدة المريض، ويحتاج مثل ما يحتاج، والجزاء من جنس العمل، فمن عاد المريض هيَّأ الله له عند مرضه من يعوده ويواسيه، ويساعده، وينصح له، ويدعو له، فإن الله مع المريض، وليس جزاء الإحسان إلا الإحسان
ولذا قال الإمام النووي اتفق العلماء على فضل عيادة المريض، وجزم بعضهم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة، فيما رواه البخاري «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني»، وفيما رواه البخاري ومسلم «حق المسلم على المسلم خمس » فذكر منها «وعيادة المريض»، ووقع في بعض روايات مسلم
«خمس تجب للمسلم على المسلم» فذكرها منها :
قال ابن بطال يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع، وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب؛ للحث على التواصل والألفة، وجزم الراوي بالأول، فقال هو فرض يحمله بعض الناس عن بعض
وقال الجمهور هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض، وعن الطبري تتأكد في حق من تُرجى بركته، وتُسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.
ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، أي عدم الوجوب العيني :
وقال الحافظ ابن حجر واستدل بقوله «عودوا المريض» على مشروعية العيادة في كل مريض، واستثنى بعضهم الأرمد، لكون عائده قد يرى من الأذى ما لا يراه هو، واستدل بحديث أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعًا «ثلاثة ليس لهم عيادة العين أي مرض العين والرمد، والضرس»، لكن البيهقي صحح أنه موقوف
ويلتحق بعيادة المريض تعهُّده، وتفقُّد أحواله، والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه، وانتعاش قوته
والعيادة للمريض ولو من مرض بسيط؛ لأن ذلك يؤثر في نفسه أبلغ الأثر، ويقوّي المحبة، ويشعره باهتمام أخيه به، فعن زيد رضي الله عنه قال عادني رسول الله من وجع كان بعيني أبو داود وحسنه الألباني
وعيادة المريض حتى ولو كان فاقد الوعي، أو في حالة سيئة؛ فإنه تُشرع زيارته، ولا ينبغي التقاعس عنها بحجة عدم إدراكه لمن يعوده، فإن النبي قد عاد جابرًا من مرض ألمَّ به، فعاده هو وأبو بكر، قال جابر «فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي ثم صب وضوءه عليَّ» متفق عليه
فعيادة المريض من آكد الحقوق للمسلم على أخيه المسلم؛ لحديث مسلم «حق المسلم على المسلم ست وإذا مرض فعُدْه» ولا ينبغي التأخر عن الذهاب لعيادته، وخصوصًا إذا طال مرضه، فلا يتأخر عنه، فإن ذلك مما يحزنه ويؤثر فيه، لكن ينبغي أن يعجل في الذهاب إليه، ولا ينشغل عنه حتى يشفى
حكم عيادة المريض الصغير :
ينبغي الحرص على عيادة المريض حتى ولو كان صغيرًا، فإن النبي قد بعثت إليه ابنته ليشهد ولدها وقد حُضِر، فقام النبي وذهب إليها، فرُفع إليه الصبي فوضعه في حجره ونفسه تقعقع، ففاضت عينا النبي ، فقال له سعد ما هذا يا رسول الله؟ قال «هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» متفق عليه وبوِّب عليه البخاري فقال باب عيادة الصبيان
حكم عيادة الرجال للنساء :
يجوز للرجل أن يعود المرأة المريضة بشرط التستر والأمن من الفتنة، روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله دَخَلَ على أُم السَّائب أو أم المُسيب، فقال «ما لك يا أُمَّ السائب» أو «يا أُمُّ المسيب تُزَفرفين؟» قالت الحُمى لا بارك الله فيها فقال «لا تسبّي الحُمَّى فإنها تُذهبُ خطايا بني آدم كما يُذهب الكيرُ خبث الحديد»
وبوّب أبو داود في سننه باب عيادة النساء، وساق حديث سهل بن بكار عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن أم العلاء، قالت عادني رسول الله وأنا مريضة، فقال «أبشري يا أم العلاء؛ فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تُذهب النار خبث الذهب والفضة» أبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
كما أنه يجوز للرجل أن يزور النساء كذلك إذا أُمنت الفتنة، روى مسلم عن أنس قال قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها ما يبكيك؟ فقالت ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله ، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها
حكم عيادة النساء للرجال :
يجوز للنساء أن يعدن الرجال عند التستر وعدم الفتنة، كما ذكره غير واحد من أهل العلم، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما قدم رسول الله المدينة؛ وُعكَ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما أي أصابتهما الحمى ، قالت عائشة فدخلتُ عليهما، قلت يا أبتِ كيف تجدُك؟ كيف تجد نفسك وجسمك ويا بلال كيف تجدك؟ قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول
كل امرئ مُصبَّح في أهله
والموتُ أدنى من شراك نعله
وكان بلالٌ إذا أقلعت عنه يقول
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً
بوادٍ وحَولي إذخر وجليلُ
وهل أرَدِنْ يومًا مِياهَ مِجنَّة
وهل تبدُون لي شامةٌ وطفيلُ
قالت عائشة فجئت إلى رسول الله فأخبرتُه فقال «اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدَّ، اللهم وصحِّحها، وبارك لنا في مُدَّها وصاعها، وانقلْ حُماها فاجعلها بالجُحْفَةِ» متفق عليه
وقد بوب البخاري في صحيحه، باب عيادة النساء الرجال، أي ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر، ثم قال وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار
وعند البخاري في الأدب المفرد وضعفه الألباني من طريق الحارث بن عبيد الله الأنصاري قال رأيت أم الدرداء على رحالها أعواد ليس عليها غشاء، عائدة لرجل أهل المسجد من الأنصار، قال الحافظ ابن حجر في حديث عائشة رضي الله عنها وقد اعتُرض عليه بأن ذلك قبل الحجاب قطعًا وأجيب بأن ذلك لا يضره فيما ترجم له أي البخاري من عيادة المرأة الرجل، فإنه يجوز بشرط التستر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده الأمن من الفتنة راجع الفتح، ط الريان
حكم عيادة المشرك :
يجوز للمسلم أن يعود المريض غير المسلم، وخاصة إذا كانت هناك مصلحة تُرجى من ذلك، كأن يُرجى إسلامه، أو يكافأ على معروف قدَّمه، أو يكون جارًا إلخ، فإن النبي عاد غلامًا من اليهود كان يخدمه، روى البخاري من حديث أنس رضي الله عنه «أن غلامًا ليهودَ كان يخدُم النبي ، فمرض، فأتاهُ النبي يعودُه، فقال أسلم فأسلم»
وقال سعيد بن المسيب عن أبيه «لما حُضِر أبو طالب جاءه النبي » وقال ابن بطال إنما تُشرع عيادته إذا رُجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يُطمع في ذلك؛ فلا، قال الحافظ ابن حجر في الفتح والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى
قال الماوردي عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة راجع الفتح
وينبغي أن تكون عيادة المريض في وقت لا يشق عليه فمثلاً لا يذهب للعيادة في وقت مبكر جدًّا، أو متأخر جدًّا، فإن المريض قد يكون نائمًا أو نحو ذلك، فالأفضل الذهاب في الأوقات التي اعتاد الناس عيادة المريض فيها، ويكون المريض فيها متهيئًا لاستقبال زوّراه، وعليه تكون العيادة في الأوقات التي يتعارف الناس على أنها أوقات مناسبة لعيادة المريض وزيارته
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
منقول
منقول