موسى،عيسى،محمد ونموذج الاقتداء
موسى،عيسى،محمد ونموذج الاقتداء
د. جمال الحسيني أبوفرحة
إن
وجود أنموذج أمثل للبشرية لا شك يعد من أهم عوامل تنشئتها الأخلاقية؛ فهو
يكشف لنا إلى أي حد يمكن للإنسان أن يرقى وأن يكون فاضلاً.
ومن ثمة فهو حجة على كل من حاد عن طريق فضيلة وزعم العجز عن التحلي بها،
أو زعم أن التحلي بفضائل قد يغني عن التحلي بأخرى، زاعمًا أن النقص طبع
للإنسان، لا يمكنه منه الفرار، وليس له إلا الاستسلام.
ولقد كان الأنبياء عليهم السلام جميعًا نماذج مثلى لأقوامهم، ولكني آثرت
في حديثي هنا عن الأنبياء والاقتداء الاقتصار على من بقى له منهم أتباع
ذوو شأن في عصرنا الراهن، وذلك يجعل حديثنا ينحصر في ثلاثة أنبياء هم:
موسى وعيسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهو حديث يكشف لنا أيضًا أيًا من هؤلاء الأنبياء الثلاثة عليهم السلام
يمكن للبشرية اليوم أن تحذو حذوه حتى تصل إلى الغاية المثلى في الارتقاء
الروحي والأخلاقي، وأيهم لم يؤهل إلا لرسم أنموذج خاص لقومه وفي عصره فقط
دون غيرهم، ومن ثمة فلم يعد لأتباعه في اتباعه اليوم معنى، ولم يعد يسعهم
إلا اتباع المثال الأسمى والقدوة الحسنة الذي يمكن للبشرية كلها اليوم أن
تقتفي أثره.
فإذا نظرنا إلى أول هؤلاء الأنبياء: موسى عليه السلام، فسنجد أن التاريخ
لم يحتفظ لنا بدقائق تفاصيل حياته، كي تكون نبراسًا يهتدي به الأجيال من
بعده، ولكن التاريخ طوى دقائق تلك التفاصيل، بل طوى بعضًا من أهم الأحداث
في تاريخ حياته عليه السلام.
حتى إن نص التوراة الذي يذكر خبر وفاة موسى عليه السلام: "فمات هناك موسى
عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت
فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" . . هذا النص يكشف لنا بوضوح
أن موسى عليه السلام كان قد مات قبل كتابته بزمن طويل اجتاحته كثير من
الأحداث كانت كافية بلا شك لضياع الشريعة بكل ما تحويه من مبادئ وقيم
ومثل، كما كانت كافية لأن لا يعرف أحد مكان قبر صاحب الشريعة عليه السلام
عند كتابة ذلك النص من التوراة، رغم محاولة النص تحديد المكان بدقة.
وليت الأمر وقف عند حد جهل البشرية بمكان قبره عليه السلام مع ما يدل عليه
ذلك من معان ودلالات، بل وصل الأمر ببعض العلماء إلى حد الشك في حقيقته
عليه السلام.
فذهب عالم النفس الشهير "سيجموند فرويد" إلى القول بأن موسى كان مصريًا،
وخلط آخرون بينه وبين (باخوس): البطل اليوناني، بل وشك آخرون في حقيقة
وجوده عليه السلام التاريخي أصلا.
ومهما يكن من شيء فإن مجرد ترديد مثل هذه الافتراضات على بساط البحث يثبت
ما قدمناه من الغموض الشديد الذي يحيط بالأبعاد التاريخية الحقيقية لسيدنا
موسى عليه السلام ودعوته، مما يشكل في النهاية عائقًا للبشرية عن كمال
الاقتداء به عليه السلام.
أما عيسى عليه السلام، فبرغم شغف أمته بالعلم، ورغم إفراطها في حبه الذي
بلغ حد التقديس والتأليه، إلا أنها لم تستطع أن تعرض على العالم إلا نتفًا
من أخباره وأقواله عليه السلام التي لا تكوّن هيكلا لحياة بشرية كاملة
يمكن أن يقلده الإنسان في حياته الفردية أو يسير في ضوئه مجتمع فاضل.
فإذا استبعدنا الأربعين يومًا التي تروي الأناجيل أن المسيح عليه السلام
قضاها في البرية- والتي لم تخبرنا الأناجيل عنها بشيء يذكر- سنجد أن كل ما
نقل أن المسيح قاله أو عمله في كل الأناجيل الأربعة يملأ فقط فراغ حوالي
ثلاث أسابيع من العمر، وهذا يترك الجزء الأكبر من حياة المسيح وأعماله غير
مسجل.
وحتى هذا الجزء البسيط الذي سجلته الأناجيل الأربعة يؤكد عدم صلاحية
المسيح عليه السلام لأن يكون مثالا يحتذى به في كل شيء، فالمسيح لم يتزوج
أبدًا، ولم يعاشر امرأة قط؛ فكيف يحتذي به الأزواج؟! والمسيح لم يكن قط
أبًا؛ فكيف يحتذي به الآباء؟! والمسيح عليه السلام لم ينتصر قط على أعدائه
في حرب ليري كيف يجب أن يتصرف المنتصر تجاه أعدائه المنهزمين، والمسيح
لم يكن قط حاكمًا، أو قاضيًا؛ ليكون نموذجًا مثاليًا لكل قاض، ولكل حاكم
من بعده.
بل إن هذا القليل الذي يروى عن المسيح أنه قاله لم يمهله الوقت ولم تمكنه
الظروف من تطبيقه، بل ربما روي أنه طبق عكسه، فالمسيح الذي قال: "من غضب
على أخيه استوجب حكم القضاء، ومن قال لأخيه: يا أحمق، استوجب حكم المجلس،
ومن قال له: يا جاهل، استوجب نار جهنم"، والمسيح الذي قال: "أحبوا
أعداءكم، وصلوا من أجل مضطهديهم... فإن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم" هو
المسيح الذي لم يحب يومًا فريسيا، وهو الذي كثيرًا ما قال للفريسيين: "يا
أغبياء"، "أيها الجهّال والعميان"، "أيها الحيات أولاد الأفاعي".
والمسيح الذي قال: "لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن فأعرض
له الآخر، ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك فاترك له رداءك أيضًا، ومن سخرك
أن تسير معه ميلا واحدًا فسر معه ميلين"، هو المسيح الذي قال: "من لم يكن
عنده سيف فليبع رداءه ويشتره".
بل إن هذا الغموض الذي أحاط بحياة المسيح عليه السلام وتعاليمه تجلى
أحيانًا في شكل تيار عارم ينكر وجوده عليه السلام التاريخي ويذهب إلى أنه
نتاج الفلسفة أو الرمزية أو الأساطير؛ مستدلا على ذلك بما بين قصة حياة
المسيح عليه السلام التي وردت في الأناجيل من تشابه يكاد يصل أحيانًا إلى
حد التطابق في أدق التفاصيل مع كثير من الأساطير القديمة.
هذا بالإضافة إلى عدم وجود شواهد تاريخية تدعم وجوده عليه السلام خلاف
العهد الجديد؛ فلم يذكر أحد من المعاصرين لبداية القرن الميلادي الأول
سواء من اليهود أو الرومان عنه شيئًا.
أما تلك الفقرة التي وردت عنه عليه السلام في كتابات يوسفوس Josephus
(المؤرخ اليهودي القديم) فإنما هي إضافة لاحقة قام بها أحد النساخ
المسيحيين، ويتبين ذلك من إقرار كاتبها واعتقاده في أن عيسى هو مسيح
اليهود المنتظر، وذلك ما لا يمكن نسبته إلى يوسفوس، ولو أن يوسفوس قد آمن
بالمسيحية لما اكتفى بالإشارة إلى المسيحية في ثلاثة سطور جاءت عرضًا بغير
تعقيب أو تفصيل.
وعليه فلم يعد هناك دليل دامغ على الوجود التاريخي لأي من موسى وعيسى عليهما السلام إلا شهادة من أثبت العقل والعلم أنه الصادق r.
أما نبي الإسلام – محمد عليه أفضل الصلاة والسلام- فهو المثال الأسمى لكل
من أراد الاقتداء شهد بذلك أتباعه وبعض ممن لم يتبعه؛ فهو أعظم الشخصيات
أثرًا في التاريخ في رأي "مايكل هارت"، وهو أعظم إنسان عاش على وجه الأرض
في رأي "لامارتين"، وهو الإنسان الوحيد الذي سجل له التاريخ كل دقائق
خَلقه، وخُلقه، وأقواله، وأفعاله، وسكناته.
إن الإنسان الذي عليه أن يعيش حياته: كزوج، كأب، كأجير، كرجل أعمال ثري،
كثائر، كمضطهد، كقائد، كقاض، كحاكم ومشرع، كرجل صاحب سلطة، كبشر: يمرض
ويوصي ويموت، إن هذا الإنسان سوف يجد أن محمدًا r هو النموذج الأوحد،
والنموذج الأمثل له في جميع سبل الحياة ومجالاتها؛ فصدق رسولنا القائل "إن
الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأعمال".
وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم:] لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا[ [الأحزاب:21].