بل الإنسان على نفسه بصيرة
بل الإنسان على نفسه بصيرة
صلاح الدين سلطان
إنني
بكل حب أهمس في أذن كل أخ وأخت، أن نسأل أنفسنا قبل أن يسألنا ربنا يوم أن
نلقاه كما قال - سبحانه -: (وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَومِكَ
وَسَوفَ تُسأَلُونَ)(الزخرف: (44)، وكما قال - سبحانه - أيضا: (سَتُكتَبُ
شَهَـدَتُهُُم وَيُسأَلُونَ)(الزخرف من الآية: (19).
1. من مَّنا كان يركب
حماراً أو جملاً أو فرساً ثم صار يركب السيارات الفارهة، ثم عاد بعد مدة
يركب الحمار والجمل والفرس في كل تحركاته وأسفاره؟
2. من مَّنا كان يجلس
في صيف يوليو وأغسطس بدون مروحة ولا تكييف ثم اتخذ مروحة ثم مكيفات
هوائية، ثم بسهولة يعود إلى الحياة بدون مكيفات أو حتى مراوح؟
3. من مَّنا كان يلتقط
الأخبار من الجرائد والمجلات، ثم فتحت العين على شاشات التلفزيونات
والفضائيات، ثم فجأة استغنى بالجرائد والمجلات عن هذه المستحدثات؟
4. من مِّنا كان يأكل
القديد من الخبز، والجريش من الملح، والقليل من اللحم والثريد من الطعام،
ثم تحول مطبخنا إلى موائد وفيرة وأطقم من الملاعق والأطباق كثيرة، وثلاجات
وبوتاجازات وميكروفات وخزانات، وتنوعت المطاعم إلى مقبلات وسلطات ونشويات
وبروتينات وحلويات ومشروبات، ثم عاد إلى طعامه الأول مزقة لبن، أو تمرات
أو خبزاً وملحاً ولقيمات؟
5. من مَّنا كان يغسل
أو تغسل الملابس والأواني باليدين، فتدب العافية في الأبدان، ثم صارت
غسالات الأطباق والملابس بنوعيها "الغسيل والتجفيف الجزئي والكلي" ثم عاد
أو عادت "ريمة إلى عادتها القديمة" يغسل أو تغسل بكلتا اليدين؟!
6. من مَّنا يذكر يوم
أن كانت الحمّامات ضيقة صغيرة، يحمل معه الماء للاستنجاء، وإذا جف الماء
استنجى بالحجارة، ثم صارت الحمامات فيها مقاعد وفيرة، مكسوة بالمفارش
ومحفوفة بالستائر ومدعومة بالبانيوهات والحنفيات والمنظفات، ثم عاد على
عقبيه إلى الحمام الأول؟!
7. من مَّنا كان يركب
ويضرب أكباد الإبل كي يطمئن على أخبار الأهل والإخوان والشعوب والبلدان ثم
صارت الرسائل والتليفون الأرضي، ثم صار في جيب الرجال والنساء والشباب
والفتيات المحمول والمنقول من أنواع بديعة من التليفونات أشبه
بالتلفزيونات، وتستدعي الإنترنيت من أي مكان وتحفظ المعلومات والأرقام
والرسائل وأنواع "الرنات"، ثم فجأة قال: لأطلقن هذه التلفونات الثابتة
والمتحركة ثلاثا، وسوف أعود بنفسي إلى جمع الأخبار بين النجوع والجبال
والسفوح والوديان؟!
8. من مَّنا يذكر
عندما كان عنده من كل ملبس نوعان أو ثلاث، تكفي لكل المناسبات، ويعلقها
على حبل مشدود بين مسمارين أو وتدين، ثم صارت ملابس لا تعد ولا تحصى،
وأطقم ذات ألوان متناسقة وماركات متعددة، وموضات متغايرة، ودواليب طبقات
بعضها فوق بعض، ومنها ما هو للمطويات وأخرى للمبسوطات، ثم عاد بعد هذا إلى
ملبس واحد أو اثنين، واستغنى عن هذا الكم الهائل من الملبوسات؟!.
9. من مَّنا يذكر يوم
كان يفترش الأرض ويلتحف السماء، وإن أكرم نفسه نام على جلد بعير أو غنم أو
ماعز، ثم صارت في غرف النوم سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة،
وزرابي مبثوثة، وفرش مبسوطة، فالأرض الرملية أو الترابية واراها الأسمنت
ثم البلاط والرخام ثم الموكيت وفوقه السجاد، وتسريحة للشعر وأوعية
للملابس، ودفايات ومراوح ومكيفات، و..ثم عاد إلى النوم على الأرض أو أكرم
نفسه بجلد بعير أو ماعز؟!.
10.من مَّنا كان يدون
كل شيء في كراس أو كشكول ثم تطور إلى الآلة الكاتبة، ثم الحاسب الآلي الذي
صار عقلاً صناعياً يسابق وينشط ويخدم العقل الرباني، ثم فجأة أبعد
الكمبيوتر، وأزاح الآلة الكاتبة والفاكس والإسكانر، والطابعة، وقرر أن
يعيش على الأقلام والقراطيس؟!
11. من منا كان يعيش
في خيمة أو بيت صغير فيه البساطة والفطرة، فيه النوافذ المشرفة على صفاء
السماء، وخضرة الأرض أو رمال الصحراء، ثم انتقل إلى بيت صخري، وبنيان قوي،
طبقات بعضها فوق بعض، مع غرف عديدة، ونوافذ قليلة، وستائر كثيفة، وفرش
وسجاد وورق جدران ورخام، وطاولات وإضاءات في الأرض والأسقف، ومكيفات
ومراوح ولمبات، وطفايات وزهريات ونباتات مصنوعة، ومكتبات ولوحات، ثم فجأة
قرر أن يعيش على البساطة الأولى، والأيام الخوالي؟!
مع هذه الأسئلة نحتاج أن نعود بالذاكرة إلى حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوتنا.
كيف كان يعيش النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
عاش النبي -صلى الله
عليه وسلم- في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش.. فلم يكن فيه بساط قط..
ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ.. ولا تسويه بالملاط.
ولما دخل على النبي
-صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم.. وقد
علق صليبا من الذهب في صدره.. واستضافه النبي - صلى الله عليه وسلم - في
منزله.. لم يجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يقدمه لضيفه ليجلس عليه إلا
وسادة واحدة من ليف وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- لضيفه ليجلس
عليها.. وجلس رسول الله على الأرض!.
ولم يعرف بيت النبي
–صلى الله عليه وسلم- مطبخا.. ولا كان فيه فرن.. وكان يمر شهران كاملان
ولا يوقد في بيت الرسول – صلى الله عليه وسلم - نار قط.. وكان يعيش الشهر
والشهرين على الماء والتمر فقط.
ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
روى البخاري بسنده عن
أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-: "كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال
ثلاثة أهلة في شهرين.. ولا يوقد في بيت الرسول نار! قيل: فما كان طعامكم؟
قالت: الأسودان.. " التمر" و "الماء"!.
ولم يكن يجد آل محمد -
صلى الله عليه وسلم - التمر في كل أوقاتهم.. بل كان رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- يمضي عليه اليوم واليومان وهو لا يجد من الدقل "التمر الرديء"
ما يملأ به بطنه.
روى البخاري بسنده عن
عائشة –رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آلُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من
خُبز بُرٍّ مأدومٍ ثلاثةَ أيام حتى لحقَ باللهِ" (صحيح البخاري - باب إذا
حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز وماء - حديث رقم: 6539).
روى المنذري عن سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قالَ: "مَا رَأى رَسُولُ اللّهِ النَّقِيَّ
مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللّهُ - تعالى - حَتَّى قَبَضَهُ اللّهُ،
فَقِيلَ: هَلْ كَانَ لَكُمْ في عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ مُنْخُلٌ؟ قالَ: مَا
رَأى رَسُولُ اللّهِ مُنْخُلاً مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللّهُ حَتَّى
قَبَضَهُ اللّهُ، فَقِيلَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ
غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قالَ: كنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا
طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ" (الترغيب والترهيب، المنذري، كتاب
التوبة والزهد ج4، رقم الحديث 4955).
بعض هذه التساؤلات
التي أرجو أن نصدق الله في الإجابة عليها يثور سؤال هل حرام أن نستمتع
بهذه الطيبات والزينات من الأطعمة والألبسة والمراكب والأدوات
والمخترعات؟!
أقول قطعاً: ليس هذه
حراماً، قال - تعالى -: (قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هي لِلَّذِينَ
ءَامَنُواْ في الحَيَوةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَـامَةِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَومٍ يَعلَمُونَ) (الأعراف: (32).
لكني أطرح السؤال من جانب آخر.
كيف توسعنا في ثوابت
الدنيا (الحلال) وقلّلنا ثوابت الآخرة؟!، لا مانع أن يوازن الإنسان قطعاً
بين ثوابت الدنيا والآخرة، وفي هذه نصوص عديدة منها قوله - تعالى -:
1. (وَمِنهُم مَّن
يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وَفِى الآَخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) (البقرة: ?201?).
2. (وَبتَغِ فِيمَا
ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنيا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلَا تَبغِ الفَسَادَ
في الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ لمُفسِدِينَ) (القصص: (77).
3. (لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنيَا والآخرة) (البقرة: من الآيتين 219، 220).
4. (وَلَا تُفسِدُواْ
فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلَاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَتَ
اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحسِنِينَ) (الأعراف: (56).
5. ما رواه مسلم بسنده
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان
يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها
معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير.
واجعل الموت راحة لي من كل شر)) (المسند الصحيح - الرقم 2720).
6. ورد لفظا الدنيا والآخرة 111 مرة لكلٍ، أي العدد نفسه هو هو، مما يشير إلى ضرورة التوازن الدقيق بين ثوابت الدنيا والآخرة