{الفتنة-فتنة الإيذاء}
[center]
الموضوع:{الفتنة-فتنة الإيذاء}
من موقع:
ALTAFSIR" Altafsir@itgsolutions.com
اسم السورة : التوبة | رقم الآية : 47
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ }
الخبال مرض عقلي ينشأ معه اختلال موازين الفكر، فتقول: فلان مخبول، أي: أنه يحكم في القضايا بدون عقل، إذن فقوله تعالى: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: أنهم لن يكونوا إلا مصدراً لبلبلة الأفكار لو خرجوا معكم للقتال، فلا تستطيعون اتخاذ القرار السليم. فكأنهم عين عليكم، وضدكم وليسوا معكم، وقد يكونون من عوامل الهزيمة التي لم يُرِدْهَا الله لكم، وليسوا من عوامل النصر، فكأن عدم خروجهم هو دفع لشَر، كان سيقع لو أنهم خرجوا معكم. وشاء الحق عدم خروجهم حفاظاً على قوة المؤمنين وقدرتهم على الجهاد.
وقوله تعالى: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} أي: أنهم كانوا سيُحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين ويُفرِّقونهم، وسيتغلغلون بينهم للإفسَاد؛ لأن الخلال هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد، وآخر يفسد فريقاً آخر، وهكذا يمشون خلال المؤمنين ليفرقوا بينهم.
ولكن التساؤل: هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم؟ هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم. ونقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وعندما تسمع كلمة "فيكُم" اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر من القرآن ما يوضح لنا الظرف والمظروف، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 113].
أي: أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة، إذن: فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح من الأعمال لم نكن في المغفرة، وعندما نسارع نصل إليها.
ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]
ولم يقل: يسارعون إلى الخيرات؛ لأن عملهم الآن خير، وهم سيسارعون فيه؛ أي سيزيدونه؛ إذن: إنْ سارعتَ إلى شيء كأنه لم يكن في بالك، ولكنك ستسرع إليه، ولكن سارعتَ في الخير، فكأنك في الخير أولاً ثم تزيد في فعل الخير.
وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} نجد أن "أوضع" تعنى: أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة، فيقال: "أوضعت الدابة" أي مشتْ بخُطىً غير بطيئة وغير سريعة في نفس الوقت، ولو نظرتَ إلى حالة هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال، لرأيتهم وهو يزينون لهم الفساد، ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل، ولوجدتَ أن هذا الأمر يتطلب آخر البطء وأول السرعة في الحركة، كانوا يحتاجون إلى البطء؛ لأنهم كانوا سيهمسون في آذان المؤمنين بتزيين الباطل وهذا يقتضى بُطئاً، ثم ينتقل الواحد منهم إلى مؤمن ثان ليقوم معه بنفس العملية، ولا بد أن يسرع إلى التواجد بجانب المؤمن الآخر. إذن: فالحركة هنا تحتاج إلى البطء في الوسوسة؛ وسرعة في الانتقال من مؤمن لآخر. وهذا أدقُّ وصف ينطبق على ما كان سيحدث.
ولكن ما هدف هؤلاء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين؟ ويُفرِّقوهم جماعات؟ الهدف: أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ} أي: يطلبون لكم الفتنة؛ لأن الإنسان الشرير حين يرى خيراً يقوم به غيره، يجد الملكات الإيمانية في أعماقه تصيبه بنوع من احتقار النفس، فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو أن يستهزئ به، تجد الكذاب يحاول دفع الناس إلى الكذب، والسارق يغري الناس بالسرقة، والمرتشي يحاول نشر الرشوة بين جميع زملائه، فإذا وُجِدَ إنسان نزيه وسط هؤلاء الذين يرتكبون هذه الألوان من السلوك السيء؛ فهم يضطهدونه ويسخرون منه.
والمثال: حين يقوم إنسان للصلاة بين عدد من تاركي الصلاة، تجدهم يحاولون السخرية منه، فهذا يقول له: خذني على جناحك، وهذا يقول له مستهزئاً: يجعلنا الله من بركاتك. ويُبيِّن لنا القرآن الكريم هذه القضية ليعطينا المناعة الإيمانية فيقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29-36]
وهذه الآيات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعمُّ الفساد في الأرض، فالذين سخروا من المؤمنين يضحكون ضحكات ستزول حَتْماً طال الوقت أو قَصُر يتبعها عذاب في الآخرة، أما أهل الإيمان فهم يخشون الله في الدنيا؛ فيثيبهم الله في الآخرة، ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة.
إذن: فقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ} أي: إنهم من فَرْط حقدهم عليكم وعلى أيمانكم، يحاولون أن يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم، تماماً كأنماط السلوك التي بيَّناها من قبل.
ثم يبيِّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف الإيماني لن يكون في مَنَعة مما كان سيفعله هؤلاء المنافقون، فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين، ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم، ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ} وسمعتُ لفلان، أي: سمعتْ أذني ما قاله، وسمعت من فلان، أي: لصالح شخص آخر، أي: من يستمع منهم أو من يستمع أخباركم فهو ينقلها إليهم.
إذن: فاللام تأتي بالمعنيين، فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلاء المنافقين إليهم أخبار المؤمنين ويعملون لحسابهم، وهناك من المؤمنين مَنْ سيسمع لهم أولاً، فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل أخبار المؤمنين إليهم، وهكذا جاءت "اللام" فاصلة بين "سمعت له" أو "سمعت من غيره لصالحه" ويزيد الله سبحانه هذا الأمر إيضاحاً في قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}[النساء105]
فنجد السطحي التفكير يقول: إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين؛ خوفاً من ألاَّ يقدر عليهم، أو أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة. ونقول: إنك لم تفهم المعنى، فالمعنى الواضح هو: لا تكُنْ لصالح الخائنين خصيماً، أي: لا تترافع عن الخائنين أو تدافععنهم.
وقوله تعالى {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ} لأن الذي كان سيسمع، والذين سيسمع لصالحهم؛ كلاهماظالمواللهعليمبهم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ..}
خواطر محمد متولي الشعراوي [/left]