رمضان... المجاهدة أو الاستبدال
ها قد
جاءت تلك الأيام التي ينتظرها المشتاقون إلى مغفرة الله تعالى ورحمته
والعتق من النار، أتى رمضان، أتى موسم المغفرة الذي طالما فَرَّطَ المؤمنون
فيه وتكاسلوا وانشغلوا عن الله تعالى.
فبعد هذه الأيام والليالي الطويلة في البُعد والانتكاس والتقهقر عن باب
الله تعالى، بعد هذه الليالي الطويلة والأيام الطويلة في الغفلة والشهوة
ونسيان الآخرة، بعد هذه الأيام الطويلة في ترك الاستعداد للرحيل إلى الله
تبارك وتعالى، وتأخير التوبة وطول الأمل في هذه الحياة الدنيا الزائلة،
وعدم الاعتبار بما كان، وأنه يمكن أن يكون من أهل الآخرة، فيستفتح يوماً لا
يُكمِلُه، أو يستفتح ليلة لا يُتِمَّها، فيكون في غَدِهِ عند الله تعالى،
كما قال تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ} [سورة الحشر – الآية 18]، بعد هذا كله أتى موسم المغفرة الذي بشر
به النبي صلى الله عليه وسلم أهل الإيمان فقال: "من صام رمضان إيماناً
واحتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدمَ مِن ذنبه" مُتفقٌ عليه: البخاري (38) ومسلم
(760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام
رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدمَ مِن ذنبه" مُتفقٌ عليه:
البخاري (2009) ومسلم (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صلى الله
عليه وسلم: "وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر" قال المنذري في الترغيب: رواه
ابن ماجة (1644) وإسناده حسن. وزاد: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً
غُفِرَ لَهُ ما تقدمَ مِن ذنبه" مُتفقٌ عليه: البخاري (2014) ومسلم (760)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فلما كانت هذه الأيام على هذا القدر من الأهمية كان ينبغي على أهل الإيمان
أن يستعدوا لها الاستعداد اللائق بقدرها وأن يخرجوا من حالة التبلد وعدم
التأثر بالموعظة وعدم المسارعة إلى العمل الصالح وعدم الشعور بعِظَمِ
المسؤلية الملقاة على عاتقهم لأن دخول أهل الإيمان هذه الأيام على حال
التقاعس والتكاسل والغفلة يُنذر بالحِرمان والاستبدال.
فبعد أن اجتباك الله تعالى واصطفاك لتكون أهلاً للفضل، فإذا بك تَتَفَلَّت
منه، وتَتَحَجَّج بالحجج لكي لا تقوم بهذه الطاعات وتلك القربات، لكي لا
تكون أهلاً لهذا الشرف العظيم الذي يوليك إياه!! فإذا به يقول: {وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ} [سورة محمد – الآية 38].
فعاقبة هذا التبلد وعدم التأثر بالموعظة، عاقبة هذا الضِيق والتململ وعدم
الانشراح لأوامر الله، والإقبال عليه ومحبته، وأن يبذُل له وقته وجهده
وماله، وأن يبذُل كل شيء له، عاقبة ذلك أن يستبدل به غيره، كما مل هو من
ربه، الله تعالى يمَل منه، وكما ترك ربه، الله تعالى يتركه، ويأتي بغيره
أفضل وأحب إلى الله، أكثر محبة وإقبالاً، أكثر بذلاً وإنفاقاً، ليكون محلاً
لهذه الرحمات والبركات من الله تعالى، ليكون أهلاً لهذه المغفرة من الله
تعالى، والنعم من الله تعالى، والرزق من الله تعالى، والفتح من الله تعالى.
فليعلم إذاً أهل الإيمان أنه ليس هناك طريق أمامهم في هذه الأيام إلا طريق
المجاهدة وأن يعزموا العزم الأكيد على أن تكون هذه الأيام فاصلاً بين عهد
الضعف والتكاسل الذي هم فيه وبين ما ينبغي أن يكونوا عليه من المجاهدة وطلب
الآخرة، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ} [سورة الحج – الآية 78]، وأن يعلموا أن هذه المجاهدة هي
الطريق الموصلة للمغفرة والعتق من النار، هي الطريق الموصلة للجنة، هي
الطريق الموصلة لنصرة الدين ورفعة رايته.
فكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "حُفَّتِ الجنةِ بالمكارهِ و
حُفَّتِ النارُ بالشهوات" رواه البخاري (6487) كتاب الرقاق، باب حجبت
النار بالشهوات، ورواه مسلم (2823) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. ولا
تنقطع هذه الشهوات وهذه المكاره إلا بالمجاهدة على تحمل المكاره ليصل إلى
الجنة، وبالمجاهدة على منع الشهوات حتى يحتجب عن النار، كما ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم.
كتبه: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي
من كتاب "حال المؤمنين في رمضان".