تحديد ليلة القدر
تحديد ليلة القدر
الحمد لله
رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فإن الله
قد اختص هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص عديدة، وفضائل
كثيرة، ومن هذه الخصائص والفضائل أنه - سبحانه - لما قدَّر أعمار أبناء هذه
الأمة بسنين قليلة؛ عوضهم عن ذلك بأوقات ثمينة، ومن هذه الأوقات رمضان،
فإن الحسنات فيه تضاعف، بل إنه من كرمه على هذه الأمة أن جعل لها ليلة
جليلة القدر سمِّيت بـ"ليلة القدر"، وجعل العبادة فيها خير من عبادة ألف
شهر أي ما يقرب من ثلاث وثمانون سنة وبضعة أشهر.
ومن بركة
هذه الليلة العظيمة أن من وفِّقَ لقيامها غفر له ما تقدم من ذنبه - نسأل
الله أن يجعلنا منهم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))1، ومعنى قوله: (إيماناً واحتساباً)
يعني إيماناً بالله، وما أعده من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر،
وطلباً للثواب، وهذا - أي الأجر والثواب - حاصل لمن علم بها، ومن لم يعلم
بها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط العلم بها في حصول هذا
الأجر"2.
ولذلك
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في تحريها، بل كان يكون في
حالة استنفار في بيت النبوة خلال العشر الأواخر من رمضان طمعاً في الفوز
بها، فهذه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تقول: "كان إذا دخل العشر
أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر"3.
وأما
المسلمون اليوم - هدانا الله وإياهم - فإن المشاهَدَ أنه إذا دخلت العشر دب
إلى قلوب بعضهم الضعف، وقلَّ نشاطهم، وفترت همتهم، بل تجد البعض ينفرون
بنسائهم وأطفالهم إلى الأسواق لشراء متطلبات العيد.
وهذه
الليلة - أيها الأحبة - هي ليلة واحدة فقط خلال العام، ولا تكون إلا في
رمضان قطعاً؛ وهي الليلة التي أنزل الله - تعالى - فيها القرآن، وأخبر -
سبحانه - أن إنزاله القرآن كان في شهر رمضان فقال - تعالى -: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}4، وقال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}5،
وهي في العشر الأواخر آكد، وخاصة أوتارها، وأرجى ليلة وآكدها ليلة سبع
وعشرين؛ وهذا الصحابي الجليل أبي بن كعب - رضي الله عنه - يحلف بالله أنها
ليلة سبع وعشرين؛ كما جاء عنه أنه قيل له: إن عبد الله بن مسعود - رضي
الله عنه - يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبي: "والله الذي لا
إله إلا هو إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني -، ووالله إني لأعلم أي ليلة
هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها،
هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء
لا شعاع لها"6، وهذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان آكد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تحرُّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان))7.
وهي في أوتار العشر الأواخر أقرب من الأشفاع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تحرُّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))8.
وفي
السبع الأواخر أرجى وأقرب لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجالاً من
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع
الأواخر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أرى رؤياكم قد تواطأت - أي اتفقت - في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر))9.
وأقرب
أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -
أنه قال: "والله لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين"10.
ولا تختص
ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع
وعشرين مثلاً، وفي عام آخر ليلة خمس وعشرين تبعاً لمشيئة الله وحكمته،
ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى))11 يقول ابن حجر - رحمه الله -: "أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل"12.
وقد أخفى
الله - سبحانه - علمها على العباد رحمة بهم ليكثر عملهم في طلبها في تلك
الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء، فيزدادوا قربة من الله وثواباً،
وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها، حريصاً
عليها؛ ممن كان كسلان متهاوناً، فإن من حرص على شيء جدَّ في طلبه، وهان
عليه التعب في سبيل الوصول إليه، والظفر به.
نسأل
الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يجعلنا ممن وفق لقيام ليلة
القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 رواه البخاري (36)، ومسلم (1266).
2 مجالس شهر رمضان (ص105-106) بتصرف.
3 رواه مسلم (2008).
4 سورة القدر (1).
5 سورة البقرة (185).
6 رواه مسلم (1272).
7 رواه البخاري (1878)، ومسلم (1998).
8 رواه البخاري (1878).
9 رواه البخاري (1876)، ومسلم (1895).
10 رواه مسلم (1273).
11 رواه البخاري (1881).
12 فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/266).