مَا لِى وَمَا لِلدُّنْيَا
كتبه/ سعيد السواح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فيا أيها الحبيب:
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر
| ولابد من زادٍ لكل مسافر
|
ولابد للإنسان من حمل عُدة
| ولا سيما إن خاف صولة قاهر
|
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (أَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِى
الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا
أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ
لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) رواه البخاري.
وهذا
الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ
الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح
سفر، ولذلك كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا لِى وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِى الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وكانت
الصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون مع الدنيا كقدوتهم في ذلك، النبي -صلى
الله عليه وسلم-، فكان على بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: إن الدنيا قد
ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من
أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً
حساب ولا عمل.
فالدنيا
ليست بدار قرار ولا دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون في الدنيا
على أحد هذين الحالين التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله
بن عمر -رضي الله عنهما-.
إما
أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة
فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه.
وإما
أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر
في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره وهو الموت.
قال
داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى
ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تُقدم في كل مرحلة زاداً لما
بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك،
فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.
وقال
بعضهم في نصيحة لأخيه: يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير تساق
مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت متوجه إليك، والدنيا تطوي من ورائك، وما مضى من
عمرك فليس بكارٍّ عليك حتى يكر عليك يوم التغابن.
وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره، تقول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)؟،
فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف
فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعدَّ للسؤال جواباً. فقال الرجل:
فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى،
فإن إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي.
ولذلك
كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يذكر هذه الوصية، وهي مأخوذة من الحديث، فإن
الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن
أجله يدركه قبل ذلك.
وكان يقول: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)،
أي: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم، وفي
الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم-
يقول: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) رواه البخاري.
فالواجب
على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه
وبينها، إما بمرض، أو موت، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق إلا الحسرة
والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه
الأمنية.
(حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون:99-100)