يجد الله غفوراً رحيماً
.. بسم الله الرحمن الرحيم ..
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
يقول الله تبارك وتعالى في سورة النساء آية ( 110 )..
( وَمَن يَعْمَلْ سُوءَاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِد الله غَفُوراً رَحِيماً )..
يقول أهل التفسير في هذه الآية ..
يخبر الله تبارك وتعالى عن كرمه وجوده وسعة رحمته وأنه إذا فعل العبد معصية
صغيرة أو كبيرة ، فإن الله يغفرها ، مادام العبد يستغفر الله ..
وقد جاء في الحديث ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من عبد أذنب
فقام فتوضأ فأحسن وضوءه ، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه ، إلا كان حقاً على
الله أن يغفر له ، لأنه يقول : ( ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر
الله يجد الله غفوراً رحيماً ).. تفسير ابن كثير ..
،،
والله أن هذه الآية تفتح لكل مؤمن باباً من الأمل ، والثقة ، وإحسان الظن بالله عز وجل ..
فإن كان الشرك الذي هو أعظم ذنب عصي الله به ، وهو أعظم الظلم ، يغفره الله بالتوبة فكيف بما دونه من الذنوب ..؟!
فكم من المعاصي والذنوب التي نقوم بها ، ثم نتوب ، ثم نعاود الكرة لتلك المعصية ، ثم نتوب .. مراراً وتكراراً ..
والله تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده أشد من فرح تلك الأم التي وجدت رضيعها بعد عناء من البحث ..!!
ولو أراد الله تبارك وتعالى أن يعاقبنا على كل زلة ، لما بقي أحد على وجه الأرض إلا وقد عوقب ..
لكن رحمة الله التي وسعت كل شي ، وكرمه وجوده على عباده قد غمرت الخلق وغشيتهم ..
هذه الآية العظيمة ،من أعظم أساليب الترغيب في القرآن ، كلما يقرأها المؤمن
يعلم يقيناً أن أعظم ما شرّفه ورفع منزلته هو العبودية لله تبارك وتعالى
..
ومن شواهد رحمة الله ولطفه بعباده قوله تعالى :
( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )..
إن الله يغفر الذنوب جميعاً ..
صغيرها وكبيرها ، دقها وجلها ، ولو بلغت عنان السماء ..
يا من أسى فيما مضى ثم اعترف *** كن محسناً فيما بقى تُجزى الغرف
فمن الناس من عرف حق الله ، ما إن يعصي الله إلا ويسارع بالتوبة ، وهؤلاء
من خيرة الخلق ، وهم من يحبهم الله تبارك وتعالى ( إن الله يحب التوابين ) ،
فأي نعمة ، وأي فضل ، وأي شرف ، أعلى وأعظم من أن نكون ممن يحبهم الله
..؟؟
وليس العجب في أن نحب الله ..
إنما العجب في أن يحبنا الله ..!!
وهنـا يكون الإنجــاز ..
ومن الناس من يُذنب ولا يعرف حق الله ، فيعاود الكرّة لتلك المعصية بلا
توبة، ولا يكتفي بذلك بل ويجاهر بها ، فلا يستحي من الله ولا من خلقه..!!
فمثل هذا كيف يهنأ وكيف يطيب عيشه وقد أغضب من بيده ملكوت كل شيء ..؟؟
ولو أراد عقوبته لقال كن فيكون ..
لكن رحمته أعظم من أن يعاجلنا بالعقوبة ..
ومن أعظم نعم الله على عباده ، أن فتح لهم باباً لا يُغلق ، ويسر لهم الوصول إليه ، وهو باب التوبة ..
فمن العباد من أعرض عنه ، واتبع هواه ، وما أجمل عتب ابن الجوزي رحمه الله حين قال :
يا طفل الهوى ..!!
متى يؤنس منك رشد ..؟!
عينك مطلقة في الحرام ، ولسانك مهمل في الآثام ، وجسدك يتعب في كسب الحطام ..
أين ندمك على ذنوبك ..؟!
أين حسرتك على عيوبك ..؟!
إلى متى تؤذي بالذنب نفسك ، وتضيع يومك تضييعك أمسك ، لا مع الصادقين لك قدم ، ولا مع التائبين لك ندم ..؟!
هلاّ بسطت في الدجى يداً سائلة ..؟!
وأجريت في السحر دموعاً سائلة ..؟!
،،
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكبائر الذنوب توبة ..
فالظلم الذي قد حرمه الله تبارك وتعالى على نفسه ، جعله الله مما يُغفر بالتوبة والاستغفار ..
وفي هذه الآية دليل على أن الظلم لا يكون من الإنسان على غيره فقط ؛ بل قد
يكون ظلمه على نفسه ؛ وذلك بفعله المعاصي واستغراقه فيها ، وسمي ظلم النفس
ظلماً ؛ لأن النفس ملكاً لله تبارك وتعالى ، ليست ملكاً للعبد ، إنما هي
أمانة بين جنبيه ..
وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )..
ففي هذا دليل على أن أفضلنا وأكثرنا خيراً من أخطأ ثم اعترف وبادر بالتوبة ..
وللاستغفار فضائل كثيرة ، منها :
~ أنها سبب لمغفرة الذنوب ورفعة الدرجات ..
~ سبب لنزول المطر ..
~ سبب للرزق ، أموال ، ذرية ، جنات ، وأنهاراً ، كلها تحصل للعبد بكثرة الاستغفار ..
قال الله تبارك وتعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)..
فالاستغفار مفتاح كل خير ، وبه صلاح الحال والمآل ..
ومن أجمل ما قرأتُ في هذا الشأن ، قول ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين :
... فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عِظام يتطهرون بها في الدنيا ، فإن لم تفِ
بطهرهم طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة : نهر التوبة النصوح ، ونهر
الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ، ونهر المصائب العظيمة المكفرة ،
فإذا أراد الله بعبده خيراً أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة ، فورد القيامة
طيباً طاهراً ، فلم يحتج إلى التطهير الرابع ..!!
،،
وفي قوله ( ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً )..
دليل على أنه الهداية تبدأ من العبد وتنتهي من الرب ..
فإن العبد هو من يبدأ بالتوبة والاستغفار ، ثم يجد المغفرة والرحمة من الله قد وسعته ..
،،
ومما استوقفني ، من أدلة رحمة الله بعباده ، إقامة الحدود ..
إقامة حد الزاني البكر ، حينما يُجلد عقوبة له على فعله الفاحشة ..
على الرغم من أن جلده عقوبة له ، إلا أن فيه من الرحمة والعطف الشيء الكثير
، فإنه يُجلد في جو معتدل ، لا هو شديد الحرارة ، ولا شديد البرودة ، وإن
كان كذلك ، فإنهم يجعلون عليه قطعة من اللباس حتى لا يتأذى ..
كما أنه لا يُجلد في مكان واحد ، بل يُفرّق في جلده على ظهره حتى لا يُتلف عضو من أعضائه ..!!
فسبحان الله العظيم ..!!
على الرغم من أنها عقوبة ، إلا أنها رحمة ..
،،
هذا والله أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم ..
ختـامـاً ..||~
أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إن قلت عن كتاب الله ما ليس فيه..؟!
إن كان من صواب فمن الله وحده له الحمد وله الشكر أن سدد ووفق ، وإن كان من
خطأ فمني والشيطان ، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب ..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ..