التحذيرمِن البدع في شهر رجب للعلامة صالح الفوزان
للشيخ العلامة
صالح بن الفوزان الفوزان
- عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء -
حفظه الله وبارك في عمره وعلمه-
قال حفظه الله:
الحمد لله رب
العالمين، أغنانا بكتابه المُبين و سُنَّة نَبِيِهِ الأمين عن ابتداعِ
المُبتدِعِين، و قال و هو أصدق القائلين: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء
قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) الأعراف:3.
و أشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )
الزمر:67. وأشهد أنَّ محمداً عبده و رسوله، بَلَّغَ الرسالة و نَصَح الأُمة
و تركها على البيضاء لا يَزِيغُ عنها إلا الهالكون صلى الله عليه و على
آله و أصحابه الذين يَهدُون بالحقّ و به كانوا يَعدِلُون و سلم تسليماً
كثيراً إلى يوم يُبعَثُون.
أما بعد: أيها
الناس، اتقوا الله تعالى و تَمَسَّكوا بكتاب ربكم و سُنة نبيكم، و احذروا
البدع فإنها تُضِلُ عن الدِّين و تُبْعِدُ عن رَبِّ العالمين، و إنَّ مِن
البدع ما أحدثه الناس في هذا الشهر – شهر رجب – من العبادات و الإحتفالات، و
ما زَعَمُوهُ له من الفضائل و الكرامات التي توارثوها جيل بعد جيل،
ابتداءًَ من عصر الجاهلية إلى وقتنا هذا: مِن تَخصيصِهِ بقِيامِ بعض لياليه
و صيام بعض أيامه، أو تخصيصه بذبائح تُذبحُ فيه تقربا إلى الله تعالى، أو
تَخصيصه بعمرة أو غير ذلك، و ما يَخُصونَ ليلة السابع والعشرين مِنه
باحتفالٍ يُسَمُونه: الإحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، و كل هذه الأمور
بِدع مُحْدَثَة ما أنزل الله بها من سلطان، و ليس لشهر رجب خاصيّة على غيره
من الشهور إلا أنه مِن الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال.
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله: فاتخاذه موسماً بحيث يُفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد
و غيره كما روي عن عمر بن الخطاب و أبي بكرة و غيرهما من الصحابة رضي الله
عنهما. و مما أًحدث في هذا الشهر من البدع تعظيم يوم أول خميس منه و صلاة
ليلة أول يوم جمعة منه، و هي الصلاة المُسَمَّاة بصلاة الرَغَائِب.
قال شيخ الإسلام:
فإنَّ تعظيم هذا اليوم و الليلة إنما أُحدِث في الإسلام بعد المائة
الرابعة، و روي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه: فضيلة صيام ذلك
اليوم و فعل هذه الصلاة المُسماة عن الجاهلين بصلاة الرغائب... إلى أنْ
قال: و الصواب الذي عليه المُحَقِقون من أهل العلم النَهي عن إفراد هذا
اليوم بالصوم، و عن هذه الصلاة المُحدَثَة، و عن كل ما فيه تعظيم لهذا
اليوم، و صنعة الأطعمة، و إظهار الزينة و نحو ذلك، حتى يكون هذا اليوم
بمنزلة غيره من الأيام و حتى لا يكون له مزية أصلاً.
و قال الحافظ ابن حجر: لم يَرِد في فضل شهر رجب و لا في صيام شيء منه معين و لا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحُجَّة.
و قال الحافظ ابن رجب: فأمَّا الصلاة فلم يَصِّح في شهر رجب صلاة مخصوصة تَخْتصُ بِهِ.
و الأحاديث
المَرْوِية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جُمعة من شهر رجب كَذِب و باطل
لا تَصِح، و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء... إلى أن قال: و أما
الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، و
لا عن أصحابه...انتهى.
و قد اعتاد بعض
الناس أداء العمرة في شهر رجب، و يظنون أنَّ للعمرة فيه مزية و فضيلة على
العمرة في غيره من الشهور، و هذا خطأ، فإنَّ الوقت الفاضل لأداء العمرة
أشهر الحج و شهر رمضان، و ما عداها من الشهور فهي سواء في ذلك. قال ابن
سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك أنَّ عمرة في أشهر الحج أفضل من عمرة في
غير أشهر الحج.
و لما ذَكر ابن
القيم عدد العمر التي اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أنها كلها
في أشهر الحج، قال: وهذا دليل على أنَّ الإعتمار في أشهر الحج أفضل منه في
رجب بلا شك.
و أما المفاضلة
بينَهُ، أيّ: الإعتمار في أشهر الحج – و بين الإعتمار في رمضان فَمَوضِعُ
نَظَر. و قد صَحَّ أنَّه أَمَرَ أُمَّ مَعقل لَمَّا فاتَهَا الحجّ معه أن
تَعتَمِر في رمضان، و أخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حَجّة، و أيضا فقد
إجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان و أفضل البقاع، و لكن الله لم يكن يختار
لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات و أحقّها بها، فكانت
العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، و هذه الأشهر قد خّصَّها
الله تعالى بهذه العبادة وجعلها وقتاً لها. و العمرة حجٌ أصغر، فأولى
الأزمنة بها أشهر الحج...انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. و معناه: أنَّ
الوقت الفاضل لأداء العمرة حَسب الأدلة هو أشهر الحج وشهر رمضان، و ما عدا
هذه الأشهر مِن بَقية السَنة فلا فضل لبعضه على بعض في أداء العمرة، لا في
رجب و لا غيره، فلا داعي لِتَحَرِي العمرة في رجب دون غيره و تخصيصه من بين
الشهور بالعمرة فيه فهو يحتاج إلى دليل: و لا دليل على ذلك.
و مما أُحدِث في شهر
رجب من البدع الإحتفال بمناسبة الإسراء و المعراج في ليلة السابع و
العشرين منه، فيجتمعون في المساجد و يلقون الخطب و المحاضرات، و يضيئون
المنارات و الشوارع بأنواع خاصة من الأنوار الكهربائية، و يُبَثُّ ما يجري
في هذه الإحتفالات من خلال الإذاعات لتبليغها لمن لم يحضرها حتى يقتدي بهم
غيرهم في ذلك، و لا شَكَّ أن الإسراء و المعراج آيتان عظيمتان و نِعمتان
كبيرتان، قد نَوَّهَ الله بشأنهما في كتابه الكريم، فيجب علينا الإيمان
بهما و شكر الله على ما أكرم به رسوله صلى الله عليه وسلم، و أراه من آياته
في الإسراء و المعراج، و ما أكرم الله به أمته مِن فَرضِ الصلوات الخمس
فيهما، و هي خمس صلوات في العمل و خمسون صلاة في الميزان و الأجر، لأن
الحسنة بعشر أمثالها. فواجبنا أن نحمد الله و نشكره على ذلك، و ذلك بطاعته و
طاعة رسوله و أداء فرائض الله.
أما إقامة هذه
الإحتفالات فهي كُفرٌ بهذه النِّعمَة، لأنها بدعة، ( و كل بدعة ضلالة )، و
البدعة معصية لله و لرسوله تباعد عن الله و تَصُدُّ عن دِين الله.
و الدليل على أنَّ
ذلك بدعة أنه عمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا صحابته
الكرام و لا القُرُون المُفَضلة في الإسلام، و إنما حَدَث هذا بَعدهم على
أيدي الجهلة و الطغام. و الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد )، و لأن هذه الليلة التي حصل فيها الإسراء و
المعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تَعيينُها لا في رجب و لا غيره، و لم
يهتم الصحابة و لا علماء الإسلام مِن بعدهم في البحث عن تَعيين هذه الليلة
لأنها لا يتعلق بها حُكمٌ شرعي، فلا فائدة لنا في تعيينها، و قد اختلف
المؤرخون في تعيينها و تعيين الشهر الذي حصلت فيه: فقيل هي في شهر ذي
القعدة قبل الهجرة بستة عشر شهراً، و قيل في شهر ربيع الأول قبل الهجرة
بسَنَة.
و أما كَون هذه
الليلة في شهر رجب فهو لم يثبت كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله،و قال
الإمام ابن القيم: ( لم يقم دليل على شهرها، و لا على عشرها، و لا على
عَينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يُقطَعُ به، و لا
شُرِّع للمسلمين تخصيص الليلة التي يُظنُ أنها ليلة الإسراء بقيام ولا
غيره...إلى أن قال: و لا يُعرف عن أحدٍ من المسلمين أنه جَعل لليلة الإسراء
فضيلة على غيرها و لا كان الصحابة و لا التابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص
ليلة الإسراء بأمر من الأمور و لا يذكرونها، و لهذا لا يُعرف أيّ ليلة
كانت، و إن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، و مع هذا فلم
يُشَرِّع تخصيص ذلك الزمان و لا ذلك المكان بعبادة شرعية). انتهى كلامه
رحمه الله.
و لو ثَبَت تعيين
ليلة الإسراء لم يَجُز للمسلمين أن يَخُصُّوها بشيء من العبادات و لم يجز
لهم أن يحتفلوا فيها، و لأن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضي الله
عنهم لم يحتفلوا فيها و لم يخصوها بشيء، و لو كان الإحتفال فيها مشروعاً
لَبَيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم للأُمَّة إما بالقول و إما بالفعل، و
لو وَقَع شيء مِن ذلك عُرِفَ و اشتَهَر و نَقَلهُ الصحابة رضي الله عنهم
إلينا. فالإحتفال فيها بدعة ليس مِن دِين الإسلام، فعلى مَن يَفعلُهُ مِن
المسلمين أن يتركَهُ و على المسلم أن لا يَغترَّ بما يفعله المبتدعة من
الإحتفال في هذه الليلة، و لا بما يُنقلُ في وسائل الإعلام من الصور
المرئية أو الصوتية لتلك الإحتفالات البدعية، لأن هؤلاء قومٌ عاشوا في بدع و
أَلِفُوها حتى صارت أحَبَّ إليهم مِن السُّنَن، و صار الدِّين عِندهم
مُجَرد إقامة احتفالات و إحياء مُناسبات و ذِكريات، كفِعل النصارى في تتبع
آثار الأنبياء أو تتبع الأزمنة التي جَرَت فيها أحداث لهم، و عمل أعياد و
احتفالات لإحياء ذكرياتها أو التبرك بمناسباتها و قد نُهينا عن ذلك.
قال الإمام ابن
القيم رحمه الله: بل غار حِراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي و كان يَتَحَراه
قبل النُبُوَّة لم يَقصدهُ هو و لا أحد من أصحابه بعد النُبوة مُدَّة
مَقامِهِ بمكَّة، و لا خَصَّ اليوم الذي أًنزل عليه فيه الوحي بعبادة و لا
غيرها، و لا خَصَّ المكان الذي ابتدأ فيه بالوحي و لا الزمان بشيء.
و مَن خَصَّ الأمكنة
و الأزمنة مِن عِندهِ بعبادات لأجل هذا و أمثاله كان مِن جِنسِ أهل الكتاب
الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم و عبادات، كيوم الميلاد و يوم
التعميد و غير ذلك من أحواله، و قد رآى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعةً
يتبادرون مكان يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى في رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: أتريدون أنْ تَتَخذوا آثار أنبيائكم مساجد، إنما هلك
مَن كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصلي و إلا فليمضي.
فاتقوا الله عباد
الله، و احذروا البِدع و أهلها و حذروا منها، فإنهما وباءٌ خطير على دِين
المسلمين، و تمسكوا بكتاب ربكم و سُنة نبيكم ففيهما النجاة و الخير و
الفلاح العاجل و الآجل. ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) بارك الله لي و
لكم في القرآن العظيم.