س: نعرض عليك
مشكلة نرجو أن نجد عندك حلها.
نحن إخوة ثلاثة
أكبرنا في الرابعة عشرة من عمره.
مات أبونا في حياة والده، أي في
حياة جدنا ثم مات الجد، فاقتسم
أعمامنا تركة الجد كلها، ولم
يعطونا منها شيئا، لا قليلا ولا
كثيرا قائلين: إن الابن إذا مات في
حياة أبيه لا يستحق أولاده نصيبه
من تركة الجد بعد وفاته وأن هذا هو
حكم الشرع. وعلى هذا صرنا -نحن- من
تركة جدنا محرومين من كل شيء، وخرج
أعمامنا بنصيب الأسد، مع أنهم
أغنياء، ونحن يتامى وفقراء، وأصبح
على أمنا المسكينة أن تكد وتسعى
لتنفق علينا حتى نكبر ونتعلم،
وأعمامنا لا ينفقون علينا، ولا
يساعدوننا. فهل ما يقوله هؤلاء
الأعمام صحيح، وأن الشرع لا يحكم
لنا بشيء من تركة جدنا، مع أننا
أبناء ابنه، وأن عبء نفقتنا يقع
على أمنا وحدها.
نرجو الجواب الشافي
وبيان علاج هذه المشكلة من الناحية
الشرعية.
ج : هذه مشكلة
الابن حينما يتوفى في حياة أبيه
وله أولاده وذرية من بعده. فحينما
يتوفى الجد بعد ذلك، هنالك يرث
الأعمام والعمات تركة الأب،
وأبناء الابن لا شيء لهم.
هذا
في الواقع من ناحية الميراث صحيح،
وهو أن أولاد الابن لا يرثون جدهم
مادام الأبناء أنفسهم موجودين،
ذلك لأن الميراث قائم على قواعد
معينة وهي أن الأقرب درجة يحجب
الأبعد درجة، فهنا مات الأب وله
أبناء وله أبناء أبناء، ففي هذه
الحالة، يرث الأبناء، وأما أبناء
الأبناء فلا يرثون، لأن الأبناء
درجتهم أقرب، فهي بدرجة واحدة وأما
أبناء الأبناء فقرابتهم بدرجتين،
أو بواسطة، فعندئذ لا يرث أبناء
الابن.
كما
لو مات الإنسان وله إخوة أشقاء
وإخوة غير أشقاء، فالأشقاء يرثون
وغير الأشقاء لا يرثون… لماذا؟
لأن الأشقاء أقرب، فهم يتصلون
بالميت بواسطة الأب والأم، وأما
غير الأشقاء فبواسطة الأب فقط.
فالأقرب درجة، والأوثق صلة هو الذي
يستحق الميراث ويحجب من دونه.
وهنا
لا يرث الأحفاد من جدهم مادام
أعمامهم يحجبونهم.
ولكن
هل معنى هذا أن أولاد المتوفى
يخرجون من التركة ولا شيء لهم؟! هنا
يعالج الشرع هذه المسألة بعدة
أمور.
الأمر الأول: كان على
الجد أن يوصي لهؤلاء الأحفاد بشيء،
وهذه الوصية واجبة مفروضة ولازمة
عند بعض فقهاء السلف. فهم يرون أن
فرضا على الإنسان الوصية لبعض
الأقارب ولبعض جهات الخير وخصوصا
إذا كان هؤلاء الأقارب قريبين وليس
لهم ميراث، فالشرط أن يكون الموصى
له غير وارث. وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل
ذي حق حقه فلا وصية لوارث" ولما
أنزل الله آية المواريث، لم يعد من
حق الوارث أن يوصي له، إنما يمكن
الوصية لغير الوارث، مثل ابن الابن
مع وجود الابن، هنا تكون الوصية
واجبة، كما جاء في القرآن الكريم
بظاهر قوله تعالى: (كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف، حقا على المتقين) وكلمة
"كتب" تفيد الفرضية بل تأكيد
الفرضية، كما في قوله تعالى: (يا
أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام
كما كتب على الذين من قبلكم) وفي
قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو
كره لكم).
فهنا،
كتب الله الوصية على من ترك خيرا أي
مالا يعتد به، لمن لا يرثون منه
بالمعروف حقا على المتقين.
فمن
هنا ذهب بعض السلف إلى فرضية هذه
الوصية.
وبعضهم
قال بأنها سنة مستحبة وليست لازمة.
ونحن
نختار المذهب الذي يأخذ بظاهر
الآية بدلا من القول بنسخ الآية،
لأنه يمكن فهم الآية على هذا النحو.
وعليه
كان واجبا على الجد أن يوصي لهؤلاء
الأولاد، لأنهم أبناء ابنه، قرابة
قريبة ولأنهم كما قالوا فقراء،
ولأنهم يتامى "فقد اجتمع عليهم
اليتم والفقر والحرمان، وقد كان
على الجد أن يتدارك هذا أن يوصي لهم
بشيء، في حدود الثلث. لأن الوصية في
الشرع الإسلامي لا تزيد عن الثلث.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
لسعد بن أبي وقاص حين سأله عما يوصي
به من ماله فأجاب "الثلث -والثلث
كثير".
هذا
ما كان ينبغي أن يفعله الجد.
وبعض
البلاد العربية اتخذت من هذه
الآية، ومن هذا المذهب الذي يقول
لها مبدأ لقانون في الأحوال
الشخصية سموه "قانون الوصية
الواجبة".
مفاده
بأن على الجد أن يوصي لأحفاده
الذين لا يرثون بنصيب أبيهم بشرط
ألا يزيد عن الثلث… أي أن لهم الحد
الأدنى من الثلث أو نصيب الأب.
وألزم
القانون الجد بهذا إلزاما بحيث
يصبح معمولا به، لأن كثيرا من
الأجداد لم يكونوا يراعون هذا، ولم
يوصوا لأحفادهم، فاجتهد هؤلاء
الفقهاء، اجتهادا جيدا، وقالوا
بالوصية الواجبة التي بينتها.
هناك
أمر آخر يتدارك الشرع به مثل هذا
الموقف، وهو أنه كان على الأعمام
حين اقتسموا تركة أبيهم أن يعطوا
شيئا من هذه التركة لأولاد أخيهم
وهذا ما نص عليه القرآن، حيث قال في
سورة النساء التي ذكرت فيها
المواريث (وإذا حضر القسمة أولو
القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا
معروفا)
إذ
كيف يحضر هؤلاء القسمة، والأموال
توزع، وهم ينظرون، ولا يعطون شيئا؟
وقد قدم أولى القربى لأنهم أحق،
فما بالك بأبناء الأخ اليتامى الذي
كان أبوهم واحدا منهم، فكان على
الأعمام أن يعطوا هؤلاء شيئا يتفق
عليه الأعمام بحيث يكون كافيا يكفل
حاجتهم، وخاصة إذا كانت التركة
كبيرة.
وإذا
كان الجد مقصرا، فقد كان على
الأعمام أن يتداركوا هذا التقصير
ويعطوا هؤلاء لأنهم من أقرب أولى
القربى.
ثم
هناك أمر ثالث يتدارك به الشرع هذا
الموقف وهو: قانون النفقات في
الإسلام.
إن
الإسلام تميز عن سائر الشرائع بفرض
النفقة على الموسر من أجل قريبه
المعسر، وخاصة إذا كان من حق
أحدهما أن يرث الآخر، كما هو مذهب
الحنبلي، وكذلك إذا كان ذا رحم
محرم كما هو المذهب الحنفي، وذلك
مثل ابن الأخ.
ففي
هذه الحالة تكون النفقة واجبة،
وتحكم بها الحكمة، إذا رفعت إليها
قضية من هذا القبيل.
إنه
لا ينبغي للعم أن يكون ذا بسطة
وثروة، وعنده بنات أخيه أو أبناء
أخيه وليس لديهم شيء ومع هذا
يدعهم، ويدع أمهم المسكينة تكدح
عليهم وهو من أهل اليسار والغنى..
هذا لا يجوز في شرع الإسلام.
بهذا
انفرد شرع الإسلام وتميز.
وقد
قص علينا المرحوم الدكتور محمد
يوسف موسى قصة لطيفة حينما كان
يدرس في فرنسا. قال:
كنا
في بيت وكانت تخدمنا فيه فتاة يظهر
من وجهها مخايل شرف الأصل، فهي
متماسكة وعاقلة، ولا تتبذل،
فسألوا عنها: فقالوا: إن عمها
المليونير فلان الفلاني، فقال:
لماذا لا ينفق عليها ألا تستطيع أن
ترفع أمرها للمحكمة؟ فقيل له: بأنه
ليس لديهم قانون ملزم بمثل هذا. ثم
سئل هل لديكم أيها المسلمون قانون
ينص على ذلك؟ فقال: نعم. إن مثل هذا
يجب أن ينفق على بنت أخيه، ولو رفعت
دعوى إلى المحكمة لقضت لها أن تأخذ
حقها منه، وألزمته بذلك إلزاما،
فقالت المرأة الفرنسية: لو كان
لدينا قانون كهذا لما وجدت امرأة
تخرج لتجتهد في العمل، لأنها لو لم
تفعل هذا لماتت جوعا.
ولذا
فإن قانون النفقة الواجبة انفرد به
الإسلام دون سائر الشرائع
والقوانين.
ويمكن
لهؤلاء الصغار المحرومين أن
يرفعوا قضيتهم للمحكمة إذا لم
يعطهم الأعمام هذا الحق إلا بهذا
السبيل.
والله
أعلم